خبر الدلال النضالي.. « هاتوا لي حبيبي.. » ..علي عقلة عرسان

الساعة 05:56 م|23 ابريل 2013

 

 

هناك ظاهرة جديدة في الفضاء العربي تلفت النظر، بدأت مع ما يسمى "الربيع العربي"، لا سيما في مرحلتيه الليبية والسورية، فيها طوفان انفعالات ومشاعر وطغيان نزوات وشهوات ورغبات لا ضفاف لها، تحلل بعض ما محرم، وتستبيح ما لا يباح، وتقبِل على كل الوسائل.. والغريب فيها أنها تنمو وتشتد وتنتشر على جداول الدم البشري وتتشمرخ ويشتد لونها العشرقي في المصائب والكوارث والخرائب، ويتجدد نزوعها الحيوي ـ الدموي مع كل حالة ظهورية في وسيلة إعلامية، فبينها وبين إعلام السياسة وسياسات بعض الإعلام مواثيق وتحالفات وتبادل منافع ترقى إلى جوهر وجودهما، فهو يمتطيها ويجول على صهواتها في ميادين الأنفس وهي تستثمر فيه وتستحلبه لتدر عليها الضروع بما يغني ويثري لا بما يسد الجوع ويطفئ الظمأ، فلا جوع ولا ظمأ في تكوين تلك الحالات الظاهراتية التي تدمن الانتحاء الولائي الطفيلي الملازمة لأمراض مزمنة في الشخصية.. وأسمي هذه الظاهرة ـ إذا سُمِح لي بذلك ـ ظاهرة " الدلال النضالي".. ويمكن تقصي تدرجاتها منذ نشوئها حتى الآن، والوقوف على معالمها ملامحها وتضاريسها ومن ثم الغوص في أعماقها وأبعادها في بحث موضوعي منهجي يفحص المواقف والأقوال والأفعال وما ظهر من تفاصيل العلاقات بين المدَلّل والمدلِّل وصولاً إلى جذور العلاقة وغاياتها، سواء أكانت عاطفية أم مَرضية أم مصلحية أم.. إلخ. ولما كان الدلال مرتبطاً بعلاقة عمبقة بين المُدلَل والمدَلَّل، فإن البحث في هذا المجال لا بد أن يتناول العلاقات التي تسمح بـ/ أو تنطوي على.. الدلال.. وهي علاقات يجمعها قوس واسع الحضن وتمتد من الأمومة والأبوَّة إلى الحب الجياش بأبعاده وأنواعه وإمتاعه.. وهو شأن أتركه الآن، وأتطلع إلى أن يقاربه باحث يروق له مثل هذا البحث. 

وفي ظاهرة ما أسميه " الدلال النضالي" مطلبية عاطفية ترقى إلى مستوى اشتراطي، في تعملق 

شهوة شديدة القوة، عِشْرِقيَّة اللون،  ذات رؤوس نارية حرَّاقة لا تخمد نارها في نفوس من تعِسُّ تلك النار في دواخلهم.. وتكاد تتلخص حالاتها بجملة المحب الدَّنِف الذي يقول من خلال دموع وغضب وعتب وعشَمٍ وآلام جراح داخلية مبرّحة: " هاتوا لي حبيبي".. هاتوه لي حتى لو ذبحتم أهله ودمرتم داره، المهم أن تأتوا به إلي حتى ولو ميتاً؟!.. إن حبه لذاته يجعله يرى في مَن يحب مُلكاً خالصاً له أو هكذا ينبغي أن يكون، ووضعه هذا يجعله يشعر بالانتصار حتى لو ملك جثة المحبوب، في نزوع " نضالي؟!" يهدف إلى ألا يملكها سواه ممن هم على شاكلته أو مَن هم على غير تلك الشاكلة.. وهذا نوع معروف من أنواع حب التملك وليس هو في شيئ من الحب من الحب بمعناه السامي المتسامي.

وظاهرة " الدلال النضالي" العربية هذه فردية وجماعية، تنطبق على الحالة السياسية التي تتغذى على الحالة القتالية وتستنفدها، أو الحالة الثورية كما يحب البعض أن يسميها.. وكل من الحالتين الفردية والجماعية توحي بضآلة النضج النضالي من جهة وبأمور أخرى تجعل الحالة النضالية واجهة.. وفي كل من الحالتين يتوقف الأمر على وضع " المدَلِّل" وأهدافه وغاياته ونزواته ومصالحه واستراتيجياته.. إلخ، فهو الممول والموجه والمقرب والمبعد ومن بيده خيوط اللعبة، فحين يكون من مصلحته أن يستمر في الاستثمار في هذا النوع من الدلال يمد لأصحابه وهواته الحبل ويبتسم، وحين تتغير مصالحه أو تتلون عواطفه يشد الحبل إليه فيكاد يخنق " أحبابه" الذين يصرخون مستنجدين به منه.

إلا أن هناك بعض السالكين في هذه الطريق من يصفع وجوه مدلِّليه بغضبه ويزمجر برفضه تكليفه لهم "بمهام نضالية" لأنهم لا يقدمون له كل ما يطلبهلكي يحقق الانتصار ويسحق خصمه ويعلو بسيفه رقاب من كُلِّف بقطع رؤوسهم.. وهو يفعل ذلك عندما يتمكن، وعندما يعتقد أن مكانته لديهم أصبحت عزيز ـ وقليلاً ما يحدث نتيجة تململ داخلي يصنعه وعي طارئ بحالته أو فهم أبعد لأغراض الوصاة القساة ـ فيسارعون آناً إلى احتواء غضبه، ويهملون غضبه في أحايين كثيرة لأنهم يعرفون أنه ارتبط بهم ولا عودة له عن هذا الارتباط، فحباله غدت مشدوده مثل مصائره إلى مراكبهم وعليه أن يسبح في الاتجاه ذاته.

هذه الحالة المأساوية التي يقود إليها تطلّع إلى التسلط، أو رغبة في التخلص من تسلط داخلي باللجوء إلى متسلط خارجي أشد قسوة ووطأة، في أفضل حالات التفسير والتسويغ لهذا النوع من التصرف والتدبير، لمسناها في الحالة الليبية وقد أكلت أهلها، ونشهدها في الحالة السورية وهي تنذر بما هو أشد فتكاً وهولاً، ولا تتوقف كارثيتها عند من هم في خضمها بل تطال البلاد كلها بكل مقوماتها، والعباد السوريين كلهم بكل شرائحهم وقيمهم ومقومات هويتهم ووجودهم، وتؤسس لما هو أكبر وأخطر وأكثر كارثية. ومنذ الأشهر الأولى للأزمة السورية، وبالتحديد منذ قرار الجامعة الدول العربية الأول بحمل ملف الأزمة السورية إلى مجلس الأمن الدولي بعد تقرير بعثة المراقبين العرب، بدايات عام 2012 تقريباً، لاستصدار قرار على الفصل السابع من الميثاق يتيح التدخل العسكري في الشأن السوري.. منذ ذلك الوقت، وحتى قبله بأشهر، ونحن نستمع إلى ضجيج معزوفات طلب التدخل العسكري، وفرض الحظر الجوي والمناطق الآمنة والممرات الإنسانية، والتسليح والأسلحة النوعية.. إلخ، وكل ذلك يصب في مجرى العسكرة ودعمها، والعنف الدامي وتصعيده، والمطالبة بتدمير الآخر، بكل أشكال التدمير، للوصول إلى السلطة أو البقاء فيها، ولإسقاط النظام وتحقيق التغيير بالقوة وهو ما يستدعي الرد على القوة بالقوة.. وهكذا تستمر أغنية الدلال النضالي المرة: " هاتوا لي حبيبي"، بطعم الدم وبما هو أبعد بكثير من الدم، وتستمر مقاومة " حبيبي" بالعنف ذاته والطعم ذاته.. وتتقطع رقاب السوريين وقلوبهم، وتذهب أنفسهم على مصيرهم ومصير بلادهم حسرات.؟!

اليوم نحن على مشارف الانتقال إلى أفق أوسع وأبعد من الاقتتال المريع، حيث يتم إعداد المنطقة لمحرقة رهيبة مركزها سورية وامتداداتها معروفة.. وتظهر بالأبعاد العملية نتائج زيارة الرئيس أوباما إلى المنطقة، ومكوكية جون كيري فيها لاستكمال الخطط والترتيبات التي من شأنها، إن هي نجحت، أن تحقق أهداف من يستهدفون سورية الدولة والخيارات السياسية والوجود بكل أبعاده. إن التريتب الأمني بين العدو الصهيوني والأردن لفتح المجال الجوي الأردني أمام الطيران الحربي الإسرائيلي بأنواعه لاستهداف سورية، والدعم العسكري الأميركي للأردن، وتقديم ما لا يقل عن مليار دولار من دول الخليج العربي ثمناً لخطوته المعتوهة تلك، ونصب بطاريات صواريخ على حدوده، واستمرار التدريب على أراضيه.. إلخ لا يرمي إلى فرض منطقة حظر جوي أو منطقة آمنة فقط في المنطقة الجنوبية من سورية، بل يتعدى ذلك ويمهد لمرور قوات يتم إعدادها وتجهيزها لما يسمى " دخول دمشق" وإنهاء النظام.. ولا تتوقف الخطة عند هذا الحد فالجبهة الشمالية في سورية التي يمكن أن تنشط منها قوات عبر الأراضي التركية ستشكل مع الجنوبية ما يفترضون أنه فكا كماشة على سورية.. وفي منطقة القصير، بعد سيطرة الجيش العربي السورية على الريف الغربي لمدينة القصير، يتم تحشيد وتجييش لجعل معركة مدينة القصير مدخلاً لفتنة مذهبية " سنية ـ شيعية" يجري اللعب على أوتارها لتأزيم الوضع الداخلي بهذا الاتجاه.. وفي الشرق والشمال الشرقي يفتح الاتحاد الأوروبي مجالاً باسم شراء النفط السوري من المعارضة لتدخل مباشر ولتوسيع دائرة الصراع، بعد أن اتخذ قراراً مستغرباً مستهجناً يوم الاثنين 22 نيسان الجاري في بروكسل برفع الحظر عن شراء النفط من المعارضة وتمكينها من الحصول على المعدات اللازمة لاستخراجه وتسويقه..

إن هذه المؤشرات والدلائل تشير إلى تصعيد خطير ينتظر الأزمة السورية من قبل المعارضة وحلفائها، وقد يسارع وتائره تقدمُ الجيش العربي السوري في مناطق أرياف دمشق وحمص وإدلب.. ولكن يبقى في الأفق سؤال محمَّل بأمل، أو خطوة قد يجعلها الخداع الغربي طعماً لكسب الوقت ولمزيد من الخداع.. وهي تتعلق بحلاصات أو استنتاجات أو نتائج يمكن أن يكون قد أسفر عنها اجتماع اسطنبول الأخير الذي حضرته مع الائتلاف إحدى عشرة دولة هي رصيد " الأصدقاء".. وهي خطوة نتعامل مع ظاهرها ونقاربها من مدخلين: مدخل إعلان وزير الخارجية التركي أن للأزمة السورية حلاً سياسياً على أساس بيان جنيف ودعوته الطرفين " أي المعارضة والنظام" للدخول في ذلك الحل، مع تحفظات أبداها تقلل من مقدار التفاؤل بما أعلن عنه، واتصال الوزير جون كيري بالوزير الروسي لا فروف من اسطنبول بعد الاجتماع المشار إليه، ومن ثم اتفاقهما على اجتماع استثنائي يوم أمس الثلاثاء في بروكسل لمناقشة مستجدات في الأزمة السورية أو متابعة حوار الدولتين العظميين المستمر حول الموضوع. إن ذلك يوحي بتقدم في التوجه نحو ترجيح الحل السياسي.. ولكن هذا الاستنتاج يتعارض مع الاستعدادات العسكرية التي تتم وتوحي بالتدخل العسكري في سورية.. وفي الأحوال كلها ليجب ألا نضع خارج دائرة المعطيات التي تعزز وجود احتمالات لبحث قضايا ذات صلة بالوضع العام في المنطقة، ومنها ما أشار إليه وزير الدفاع الأميركي في زيارته أمس الثلاثاء 23 نيسان للكيان الصهيوني بأن تقديم سلاح متقدم لإسرائيل يبعث إشارة لإيران، وإعلانه في الوقت ذاته أن " إسرائيل" لا تحتاج إلى أخذ إذن من أميركا حول إمكانية توجيه ضربة للمفاعلات النووية افيرانية وتوقيت ذلك. ولكن في الأحوال جميعاً لا يمكننا إلغاء التداخل في الملفات الشائكة في المنطقة وهي على الخصوص: ملف الأزمة السورية، والملف النووي الإيراني، وملف المقاومة للاحتلال الصهيوني بما فيها حزب الله، وملف الإرهاب الذي دخل بقوة على الخط وأصبح جزءاً من المشهد.. وهي كلها ملفات تتداخل بقوة الآن.

     إن في القادمات من أيامنا مواقف جادة، ومفاصل حادة.. فكل طرف من الأطراف المتصارعة على الأرض السورية يبذل جهداً لتحسين موقعه على الأرض، فإذا أتت حلول سياسية يكون ذلك أفضل له ولحلفائه، وإن لم يكن هناك سوى القتال والاقتتال فشفرة السيف ماضية إلى أغماد الرقاب، في اتجاه الحسم الذي لا منتصر فيه ولا نصر إلا لأعداء الأمتين العربية والإسلامية على أبنائهما، وقضاء على كل أحلامهم وتجريعهم مزيداً من المرارات والأوهام.

وفي مواجهات المشهد السوري الدامي القادمة ستظهر، وفق المخططات الغربية ـ الصهيونية التي تستهدف الجميع ـ حالة مختصرة بـقاعدة: "كل اثنين ضد واحد، والكأس دوارة على الجميع".. حيث ستكون النصرة "القاعدة" ومن في حكمهما مع الجيش الحر ومن هم في هذا الفلك ثنائياً ضد الجيش العربي السوري، وفي الصدام المطلوب بين النصرة " القاعدة" والجيش الحر من أجل ضمان استمرار المال والسلاح.. سيكون الجيش العربي السوري طرفاً ثانياً بالضرورة ضد كل منهما.. وحالة العنف الرهيب تلك مع كل روافدها ونتائجها وعقابيلها ستنصب نقمة وموتاً على السوريين وصبيب دمٍ من رقابهم، ودماراً لبلدهم العريق سورية العروبة والإسلام والحضارة.

كان الله في العون.