خبر .. شامة العروبة والإسلام ..علي عقلة عرسان

الساعة 11:35 ص|09 ابريل 2013

لا يمكن الابتعاد عن مقاربة الحدث الدامي الذي وقع في دمشق ظهر يوم الإثنين 8 نيسان الجاري، بين ساحة " السبع بحرات" وساحة الشهبندر، نتيجة تفجير انتحاري إرهابي وأودى بحياة خمسة عشر بريئاً أضيفوا إلى كثير من الأبرياء الذين قضوا في الأزمة السورية الخانقة، وأدى إلى جرح 146 جريحاً أضيفوا بدورهم إلى عشرات آلاف الجرحى والمعاقين السوريين الذين سقطوا في حرب إجرامية مجنونة عمياء ما زالت تزيد الكوارث وتضاعف المعاناة البشرية في سورية وتقتحم أبواب محيطها الجغرافي والبشري.. فالدم يلاحقني ويفرض نفسه عليّ ويفترع كل خلية من خلايا جسدي.. وتضنيني بصورة أشد وأعمق وأحدّ العقول والضمائر الميتة أو شبه الميتة التي تدير عمليات القتل والتدمير والتشويه والتزوير، وتترك المجال مفتوحاً أمام أنواع الجنون والإرهاب والإجرام والافتراء والادعاء.. تلك التي أوقعت ما أوقعت من ضحايا، ووقع ضحيتها الوطن والمواطَنة والقيم الإنسانية والإسلام الحق والإيمان عند من يعنيهم الإيمان؟! وهي مما لا يمكن لأي عاقل قبوله والعيش في ظله واحتمال ثقله وتوقع ما تبديه وما تخفيه من أمور تستهدف شعباً ودولة بكل مقوماتها ومؤسساتها وأمكانياتها.؟!

الذين يريدون " إسقاط النظام بكل رموزه" يضربون الناس والمؤسسات، فيموت الناس وتدمر المؤسسات وتضعف الدولة ويبقى النظام.. والنظام والجيش العربي السوري الذي يرد على ضربات المسلحين ويلاحقهم، تصيب بعض ضرباته الموجعة مواطنين وعمراناً ومقومات دولة فتميت أبرياء وتهدم ما لا يجب أن يهدم.. ويهرب كثير من المسلحين عبر أنفاق يتخذونها تحت الأرض والعمران، ويقتل منهم من يقتل ويفد إلى البلاد من يفد.. وتدور عجلة الموت، وتكون النتيجة أن يضعُف الجميع ويضعِفون الوطن، ويتعزز غضب الناس على من يقتلهم ويشقون بالاقتتال؟!.. وحين يضرب الإرهاب منطقة أو مدينة بعمليات تفجير سيارات أو انتحاريين، كتلك التي حصلت كثيراً في دمشق وكان آخرها تفجير جامع الإيمان وكلية الهندسة المعمارية في جامعة دمشق، وحصل قبلها مثلها في حلب وحمص ومدنٍ وبلدات سورية كثيرة أخرى.. حين يضرب الإرهاب ويتبدَّى الفعل الإجرامي الشنيع ومَن يقفون وراءه، وما يظهر ما يخبئ.. يأتينا كم من الكذب والافتراء الممجوج على شكل اتهامات لا يمكن أن يقبلها عقل، ولا يمكن أن تنم عن أدنى حدٍّ من احترام عقل المتلقي، ولا عن حيوية ضمير وقيم لدى من يفعل ذلك في حرب التكاذب.. فنزداد جراحاً وألماً وإحباطاً، وتزداد صورتنا في العالم تشوهاً حتى ليخجل المرء من نفسه!! إنهم يتبادلوننا كرات دم ولحم، ويسخرون منا ومن عقولنا بمنطق متهافت، ويزْرون بكل ما يشير إلى الفهم والحق والعدل، وبكل ما يشير إلى طرق الحل لأزمة ضقنا بها ويضيق بها كل إنسان ذي عقل وفكر وضمير ودين من حولنا.. أزمة ألقتنا عُراة وعورات على طرقات الأمم، وجعلت بعض لحمنا ودمنا العربي يتاجر ببعض عرضنا ولحمنا ودمنا في المحافل الدولية والمخيمات.. فوا أسفاه على أمة سفهت أحلامها، ولحق أبناءها الضيمُ وهم في أحضانها تتلهى ببؤسهم وتضاعف مأساتهم.!؟

قبل أيام قليلة جداً من هذا التفجير الفاجع الأخير منحَ أحدُ قادة المعارضة السورية المسلحة، في بيان عسكري له من محيط دمشق، أذاعه على الناس.. منحَ أهلَ دمشق وكل من هم فيها ممن لجأوا إليها، ثلاثة أيامٍ لكي يخلوا المدينة ويغادروها، لأنه يريد مع مسلحيه أن يجتاحوها ويسيطروا عليها وينهوا النظام فيها، فقد حان الوقت واكتملت الاستعدادات لتنفيذ المخططات وأينعت الرؤوس للقطاف؟! واعتقدَ أنه بذلك قدَّم خدمة للناس، وبرأ ذمته من كل ذنبٍ أو دمٍ، ورفع مسوغات العتب واللوم، فقد أعذر من أنذر؟! والعجب العجاب المذاب في العلقم والصاب.. العجب من ذلك كله يكمن في القول والقائل والفعل والفاعل والمتفاعل مع القول والفعل برد فعل وفعل قد يعادله أو يزيد عليه، ويشير إلى خلفيات كثيرة تقع وراء هذا الكلام، حين تأخذه على أي محمل كان وتقلبه على وجوهه؟! فأين يذهب أهل دمشق المدينة التي التجأ إليها من التجأ لتعصمهم فعصمتهم وما كادت؟! وكيف يرحلون عنها، وإلى أين؟! وما الذي يترتب على ذلك كله مادياً ومعنوياً وإنسانياً..؟! كيف سيحتمل هذا الأمر الأطفال والشيوخ والمرضى والنساء المثقلات بأعباء الفقد كافة..إلخ؟! وهل يمكن أن ترحل عاصمة عن وجه الأرض، إذ البيت بساكنيه كما نعرف، وهل يمكن أن ترحل تنفيذاً لرغبة مجموعة مسلحة كبرت أم صغرت؟! كيف ترحل دمشق؟! وهل في هذا تجنيب لها من المأساة، أم هو المأساة ذاتها بكل أبعادها؟ وهل في هذا تحرير لها وتحرير للناس من أي تسلط وسلطان.. أم هو الانكسار الذي يقارب الاندثار، إذ لا تحرير لأرض بإقفارها وإفقارها، ولا تحرير لحي بإماتته إرادة وروحاً قبل الجسد.؟!

يا أيها " المحرر بالموت" المنتصر على أهله وتاريخه وشعبه بالقتل والتدمير.. دمشق تقول إنها لن ترحل، وإن أهلها الثبات والبقاء، لأنها سورية كلها، والعاصم من القواصِم، ولأنها حصن الأمة العربية بمكانها وسكانها وتاريخها وأركانها، ودمشق سوف تبقى أياً كان من يستهدفها وما يستهدفها وشكل الاستهداف لها.. وإذا كانت الحافلات المفخخة بانتحاريين أو القذائف أو.. أو.. مما شهدت وتشهد، أو كان الظلم والاستبداد والقهر وكل لون من ألوان الممارسات التي لا تليق بالإنسان ولا تشرفه فاعلاً.. إذا كان ذلك المقت من أي مصدر أتى سوف يفرغها من سكانها ويجعلها بلقعاً.. فلا خير فيها ولا فخر لمن يفعل ذلك بها.. وعلى من يفكر بذلك أو يفعله أو يحلم به أن يعلم أنها لا تستحق تاريخها إن هي استسلمت أو انهزمت أو استكانت لظلم واستبداد وتهديد وقهر، لأنها عندئذ لا تكون عاصمة ولا تستحق أن تكون عاصمة. وعلى من يريد أن يحكمها أو يحميها أو يحررها أو يبنيها.. أن يعزز وجود أهلها فيها، فتلك هي الطريق التي ينبغي أن يسلكها العقلاء والعظماء والمحررون والشرفاء والمنظرون والحالكمون القائمون على شؤون الحكم والقادمون إليه على مدى الزمان. لقد بقيت دمشق مأهولة في كل العصور ولذا بقيت عاصمة على مدى العصور، وصمدت دمشق لكل المحن، ولا يمكن أن تسرِّح أهلها في حقول الغِيَر وتتعرى ناثرة شَعرها" أهلها" في مساحات الأرض، أياً كان الطالب والهدف والغاية والوسيلة.؟!

وحين نتحدث عن دمشق نقصد البلاد والعباد بكل المعاني، فلا يغيب ذلك عنا ولا يغيبن عن سوانا في ثنايا الألم الدمشقي العميق، فحلب وحمص ودرعا وحماة وإدلب ودير الزور واللاذقية والحسكة والقنيطرة وطرطوس والسويداء.. كل ذلك دمشق، ودمشق كل تلك المدن والقرى والبلدات والناس في سورية الوطن المستهدَف بالدمار والموت.. وعلى هذا فدمشق هي الشام بالمعنى التاريخي الأبعد من المعاني، وحين نقول عنها وفيها نقصد ما هي وما تمثل وما تعصِم.. فيا أيها الذين يعنيهم أمر الوطن، بل أمر الأمة العربية وما تمثله الشام لها، يكفي دمشق ما أُلحق بها من ظلم وضيم وعناء وقتل ودمار وبؤس ويأس.. يكفيها الذي حل فيها.. وعلى من يريد لها أبأس مصير لكي يخلصها مما يرى أنه لا يليق بها.. عليه أن يسلك مسلكاً يليق بها ويحفظ أهلها ومكانتها ويحميها هي وما تمثل للوطن كله وللشعب كله وللأمة من تاريخ وقيم.. وعلى من يريد أن يجنبها وأهلها الموت بإخلائها عند "اجتياحه لها"، عليه أن يعلم أنه إنما يجلب لها ولأهلها الموت والعار معاً حين يريد لها أن تخرج من جلدها وتنتشر بدداً في أرجاء الأرض.. وعليه أن يعلم أيضاً أنه بذلك يُرفض بما حَمَل وبما حُمِّل، ويُرفض ما طلب وما حلُم به وما كاد لغيره وما ويكيد له غيره، لأن الكيد ينصب في نهاية المطاف على شعب وبلد.. وإذا كان، أي شخص أو تكتل كان، يريد رفع الظلم والقهر والاستبداد والاستعباد عن الناس ويحميهم مما يؤذيهم، فليفعل ما يفعل بوعي وإيمان شامل متكامل وبتدبير وحكمة وتعقل، مع إبقاء الناس في بيوتهم أحياء لا أشباه أحياء.. فدمشق أقدم عاصمة مأهولة في التاريخ يجب أن تبقى حية، وهي تحيي من يحييها، وهي دار الأمويين التاريخية، وعاصمة الشام، وشامة العروبة والإسلام.. ولا يليق بها ولا بأبناء الشعب العربي السوري كله الذين تمثلهم وتلخص مأساتهم ويعنيها كل ما يصيبهم، لا يليق بها ولا بهم، هذا المصير، ولا أي تدبير من هذا النوع المقيت المميت الذي نشهده بين قتل وقتل على ضفاف الوطن. 

نعرف أن المأساة مستمرة وأن الخطر الداهم أمر قائم، فالمؤشرات والتحركات والموحيات من حولنا لا تسوق لنا ما نحب ونتمنى، ونعرف أن المخططات التي رُسمت لهذه الحرب القذرة والغايات التي يريد أن يصل إليها من يقفون وراءها ومن تعنيهم الفتنة في أرض الشام وما وراءها لم تتحقق بعد على النحو الذي يطلبون ويتمنون، ونعرف أن من يخوضون الصراع الدامي فوق أرض سورية، سواء أكانوا "كارهين أو مكرهين أو مسيرين مأخوذين بضلالات كالظلل، أو ثائرين على أوضاع لا تليق بالمواطنين المتساوين، ومتطلعين إلى ما يليق بسورية وشعبها من حياة سياسية واقتصادية وثقافية.. إلخ، نعرف أن أولئك قد دخلوا وأدخلوا في المتاهات والمستنقعات الدامية.. وأن الحدث المؤرق يتفاقم وتتوالى فصوله المهلكات الكالحات، وأن ما يُدبر لسورية وشعبها أكبر من قدرة كثيرين ممن يخوضون الصراع على تبين آفاقه وأبعاده ونتائجه وسبل الخلاص منه.. وأنه لا يوجد مفصل يمكن التوقف عنده بأمل البدء بآخر يقود إلى الحل بمسؤولية وطنية عليا، وحكمة حاكمة، ورؤية مستقبيلة، وتحكيم للمصلحة العليا للشعب والوطن في كل المواقف والأمور.. وأنه لا يُستجاب لنداء الشعب المتكرر، حتى لو سُمِعَ وضجت به الأرجاء، بأن أوقفوا العنف والاقتتال وهذا الفعل المجنون.. وتعالوا إلى طرق الحل السياسي ـ السلمي، تعالوا إلى المنطق والعقل وما يبني الوطن ويقيم القانون ويشيع الأمن والاستقرار ويحيي الشعب ويبلسم الجراح، ويضع حداً لكل تعسف وظلم واستبداد وتمرد وتذرع بذرائع تبقي النار مشتعلة، تحرق الناس والوطن بلا رحمة.. تعالوا إلى كلمة الحق بوصفكم مواطنين متساوين تُعلون شأن العدل وتبنون ولا تهدمون.. نعرف، ونعرف، ونعرف.. ولكن ينبغي ألا يقودنا هذا الذي نعرف وذاك الذي يكمن فيما لا نعرف مما يُدبر لنا ولوطننا وأمتنا.. إلى الانتحار والدمار واليأس والاستغراق في مناقع الدم وخيارات البؤس.. لأن في ذلك من نتائج السوء ما لا يوصف ولا يتوقف عند حد، ولا يترك لأحد أي نوع من أنواع المجد..

 فالعقل والعقل يا أهل الشام جميعا، يا من ترفعون السلاح وتحتكمون للقوة وتحكِّمون بشؤونكم الغرائز والتحديات السلبية والتطرف والغرباء والأعداء على حد سواء.. والفعل والعقل والصبر يامن ترفعون الصوت بوجه السلاح وكل ما لا يجوز أن يُستباح.. والله الله في الوطن والشعب والتاريخ والقيم والعلاقات العريقة بين أهل هذه الأرض الطيبة، أرض الشام.. شامة العروبة والإسلام.

 

دمشق في 9/4/2013

علي عقلة عرسان