خبر إسرائيل تربح «الربيع العربي»؟ ...مصطفى اللباد

الساعة 09:07 ص|09 ابريل 2013

التغيير في النظام الدولي يبدو متوقعاً بل مرجحاً بعد عقدين من الآن، إذا سارت الأمور بالوتيرة نفسها. يمثل الشرق الأوسط بموارده الهائلة من الطاقة، أهمية فائقة للولايات المتحدة الأميركية في إطار سعيها لإدامة مصالحها فيه، وهي المصالح القادرة على حسم التنافس الأميركي مع الأقطاب الدولية الأخرى، وبالتالي التأثير في وتيرة الصعود والهبوط والاحتفاظ في النهاية لأميركا بموقعها الاستثنائي في النظام الدولي. وكنا قد نشرنا سلسلة من المقالات حول سياسات الولايات المتحدة حيال الأقطاب الإقليمية في الشرق الأوسط: إيران، مصر، تركيا، السعودية وإسرائيل لتحاول استشراف السياسة الأميركية في السنوات الأربع المقبلة حيال كل قطب منها. وهذا المقال هو الأخير في هذه السلسلة.

أوباما الثاني وإسرائيل: أفق جديد

توقع كثيرون أن أوباما في فترة ولايته الثانية سيواصل سياساته الاستقلالية حيال إسرائيل في ملفات الشرق الأوسط، خصوصاً أن اللوبي المؤيد لإسرائيل ساند خصمه الجمهوري بوضوح في الانتخابات الرئاسية الأميركية 2012، ولكن الأمور سارت على العكس مما توقع هؤلاء. أعطى أوباما في زيارته الأخيرة لإسرائيل معظم ما حلم به نتنياهو: «يهودية الدولة»، وتجاهل المستوطنات الإسرائيلية على الأراضي الفلسطينية المحتلة العام 1967، ومطالبة الفلسطينيين بمفاوضات غير مشروطة مع إسرائيل. وبقي الملف النووي الإيراني نقطة خلاف في التفاصيل، إذ يرى أوباما أن الديبلوماسية ما زال لديها بعض الوقت وتحديداً حتى شهر تشرين الأول المقبل، فيما لم تعد إسرائيل تلوّح بقيامها بضربات عسكرية لإيران تاركة الموضوع في يد أوباما. والحال أن التغير في سلوك أوباما حيال إسرائيل ـ مع التسليم بأن مواقفه في العامين الأخيرين كانت تتفق مع إسرائيل في العمق وتعود لتختلف معها في الشكل والطرائق - يعود إلى رغبة الإدارة الأميركية في القيادة من الخلف، بعد ترتيب التوازنات في الشرق الأوسط بما يضمن مصالحها. ويتطلب ذلك ترتيب اصطفافات وتحالفات المنطقة بما يسهل الرغبة الأميركية، بحيث تعتمد واشنطن على تحالفاتها التقليدية في المنطقة، ولكن مع مراعاة الوقائع الجديدة في الشرق الأوسط والمنبثقة عن «الربيع العربي». هنا لا تلعب المرارات الشخصية لأوباما دوراً في توجيه سياسته الشرق أوسطية، وإنما رغبته العارمة في إعادة تشكيل الشرق الأوسط بأقل التكاليف، مقارنة بالمحافظين الجدد الذين غرقوا في مستنقعات أفغانستان والعراق ومرمطوا العقل السياسي الأميركي في الوحل. في هذا السياق تبدو إعادة العلاقات التركية - الإسرائيلية إلى سابق مستواها قبل حادثة «أسطول الحرية» أمراً هاماً ومطلوباً للإدارة الأميركية. بمعنى آخر، يريد أوباما تصميم خريطة جديدة للمنطقة على أساس اصطفاف إقليمي جديد يكون عموده الأساس التحالف التركي - الإسرائيلي. وهنا تنفتح نافذة الفرصة أمام إسرائيل ليس للاحتفاظ بعلاقاتها الاستثنائية مع واشنطن فحسب، وإنما لتشكيل البيئة الإقليمية على قياس المصالح الإسرائيلية.

إسرائيل في السياق الإقليمي الجديد

يفتح «الربيع العربي»، بعد عامين من التخبط والمغالبة والأزمات الداخلية المستفحلة للدول التي ضربها، نافذة الفرصة أمام إسرائيل لتشكيل جديد للمنطقة يؤاتي مصالحها ويخرجها من معادلة الصراع الرئيسة (الصراع العربي - الإسرائيلي). ولا يعني ذلك الاستجابة للشرعية الدولية ومقررات الأمم المتحدة ومجلس الأمن وقيام دولة فلسطينية على الأراضي التي احتلتها إسرائيل العام 1967 وعاصمتها القدس الشريف وعودة اللاجئين الفلسطينيين، وإنما بإعادة تعريف معادلة الصراع في حد ذاتها بحيث تخرج إسرائيل منها من دون تكاليف كبيرة. وبدورها تضع الأزمة الاقتصادية المتعاظمة في دول «الربيع العربي» أوراقاً جديدة بيد أوباما، إذ ان مقايضة الرضوخ التام لمقتضيات السياسة الأميركية بالمساعدات الاقتصادية سيمكن أوباما، على الأرجح، من انتزاع تنازلات إخوانية تفوق ما قدّمه حسني مبارك على مدار ثلاثة عقود من تنازلات. ومن شأن إغلاق فرص الحركة أمام السياسة المصرية بسبب تردي الوضع الاقتصادي وتراجع مصادر التمويل المصرية التقليدية (السياحة والقروض والاستثمارات المباشرة)، أن تدفع إدارة محمد مرسي إلى الانخراط الكامل في الخرائط الجديدة للمنطقة حفاظاً على سلطتها. ويزيد هذه الفرضية احتمالاً العوامل التالية:

أولاً، يرتهن بقاء محمد مرسي في السلطة بالرضا الأميركي لأن الجهات المانحة الدولية ومن ضمنها «صندوق النقد الدولي» تتأثر إلى حد كبير بالميول الأميركية، كما أن رضا أوباما عن إدارة مرسي يكبح إلى حد كبير احتمالات أن تقوم المؤسسة العسكرية المصرية بتغيير في شكل السلطة القائمة.

ثانياً، تتخوّف دول الخليج العربية من تصدير «الإخوان المسلمين» لتصوراتهم إليها، السعودية والإمارات على وجه الخصوص، فتحجم عن إسناد إدارة مرسي بالاستثمارات والقروض والمساعدات، فتتفاقم أزمته الاقتصادية.

ثالثاً، تعد قطر حتى الآن الداعم المالي الأول لإدارة مرسي، ولكن نظرا للأدوار المناطة بالدوحة في إطار «الربيع العربي» وموقعها في التصورات الأميركية للمنطقة، فمن شبه المؤكد أن الدوحة ستنخرط في المجهود الأميركي لمقايضة الرضوخ المصري بالإيداعات والمساعدات المالية.

رابعاً، لا تملك تركيا بسبب تركيبة اقتصادها الفوائض المالية الريعية التي تملكها دول الخليج، وهنا سنشهد توزيعاً جديداً للأدوار بين دولتي الإسناد الإقليمي لجماعة «الإخوان المسلمين»، تركيا وقطر، لجرجرة إدارة مرسي إلى الانخراط في خرائط أميركا الجديدة.

سينفتح صنبور المساعدات القطرية أو يغلق وفقاً للرؤى الأميركية، مثلما ستقترب تركيا من موقع «الوسيط النزيه» بين إسرائيل ومصر لتسوية القضية الفلسطينية، التي ستتقزم إلى «مسألة غزة». هنا تنفتح نافذة الفرصة إذاً أمام دولة الاحتلال الإسرائيلي لرص اصطفاف إقليمي سني كبير مشكل من تركيا ومصر والأردن ودول الخليج العربية بالتحالف معها، في مواجهة إيران الشيعية وتحالفاتها الإقليمية (كما ورد بأشد الوضوح في مؤتمر هرتزيليا 2013).. وهي نتيجة ستفوق في تأثيراتها السياسية كل مكاسب إسرائيل الإقليمية في العقود الأخيرة.

الخلاصة

دأبت إسرائيل على الدخول في «مفاوضات سلام» مع الفلسطينيين منذ «مؤتمر مدريد» وحتى الآن، بغرض التغطية على تطبيع الدول العربية معها، وليس اقتناعاً منها بالسلام أو ترضية الشعب الفلسطيني. باختصار، كان الهدف الإسرائيلي متمثلاً في دفع الفتات للفلسطينيين في عملية سلام شكلية لتطبيع العلاقات مع الدول العربية، ومن ثم الدخول معها في شراكات اقتصادية تنتهي بسيطرة إسرائيلية على اقتصادات المنطقة. وتوفر هذه الفكرة الحاكمة للتوجه الإسرائيلي ما لم تستطع الآلة العسكرية توفيره، أي النفاذ إلى المعادلات الداخلية للدول العربية عموما، وبما سُمّي «دول الطوق» خصوصاً. وبالمثل فقد احتاجت واشنطن إلى عملية سلام ـ لا سلام - لتخفيف نقمة الشعوب العربية عليها، فيكثر الحديث عن «السلام» كلما كان ذلك مواتياً لمصالح واشنطن دون قدرة فعلية على اجتراحه نظرا لاختلال التوازن في القوى بين العرب وإسرائيل. الآن ومع رغبة أوباما في القيادة من الخلف، تنفتح شهية إسرائيل على حل القضية الفلسطينية حلاً نهائياً بحيث يقزّمها ويجعل إسرائيل تدفع أقل الأثمان لقاء تسويتها، وتشكل بالمقابل البيئة الإقليمية الجديدة على قياس رغباتها، خصوصاً مع تزايد احتمالات تقسيم سوريا. والمفتاح هنا هو التقارب مع إدارة مرسي كضامن لقطاع غزة في الحل المرتقب وكمحتاج بشدة للمساعدات المالية للاحتفاظ بسلطته، عبر واشنطن من وراء الستار وأنقره والدوحة في قلب المشهد. ولما كان الاصطفاف السني - الشيعي يؤاتي المصالح الأميركية بشدة، تلك التي ستنساب بهدوء بين الاصطفافين، يبدو أن تطابقاً في رؤية الطرفين الأميركي والإسرائيلي في بداية الولاية الثانية لأوباما قد حدث، وهو ما سيظهر في ترتيبات الشهور المقبلة. فشل السلطة الجديدة في مصر في قيادة عملية انتقالية تضم كل القوى السياسية، وتنكرها لأهداف الثورة وسعيها للمغالبة والهيمنة في ظل الأزمة الاقتصادية التي لا تملك حلولاً لها، كلها عوامل ستجعلها أكثر عرضة للابتزاز الأميركي والإسرائيلي. هنا ربما تتقدم خرائط سياسية جديدة للمنطقة وفق سيناريو دولي إقليمي من نوع جديد، وبما يجعل دولة الاحتلال الإسرائيلي وبأثر رجعي في مقدم الرابحين من «الربيع العربي»! من كان يتصور ذلك قبل سنتين فقط؟