خبر .. والمرء لا يحصد إلا ما يزرع..؟!..علي عقلة عرسان

الساعة 06:19 م|29 مارس 2013

 

كلية هندسة العمارة في جامعة دمشق مزنَّرة بالدم، حيث يرتسم على الأجساد والأدراج وقاعات الدرس والوجوه التي تتابع الحدث بألم يجعل الدم يطفر مع الدمع من القلوب والعيون.. وبعد استهداف كلية العمارة في جامعة حلب تُستهدف كلية هندسة العمارة في جامعة دمشق، وتُزهَق أرواح طلَبَة، ولم تكن الجامعة في حمص بعيدة عن الاستهداف أيضاً، ولا مدارس ومعاهد ومساجد ومعامل ومزارع وأبرياء في أحياء مدن وحارات بلدات وقرى سورية كثيرة ببعيدة عن هذا النوع من الاستهداف الدموي التدميري، فضلاً عن أماكن العسكرة التي يتم فيها استهداف متبادَل بين الجيش والعناصر المسلحة..!؟ المدنيون السوريون، والأبرياء منهم بصفة خاصة، هم ضحايا الحروب المجنونة والثورات غير المنضبطة والسُّلطات الطغيانية والتشنجات الشخصية والمطامح الذاتية المتوسلة لأغراضخا بكل الأساليب والأشكال.. أولئك هم الضحايا في كثير من الأوقات والبلدان، وليست سورية استثناء من القاعدة على الرغمن من أننا نتطلع إلى أن تكون كذلك بحكم تاريخها الحضاري العريق.. وإلى جانب قتل البراءة تُقتل الحقيقة في الحروب والثورات المنفلتة من الضوابط بأنواعها وألوانها وأبعادها، وغالباً ما تكون الثورات انفلاتاً ولا أتكلم هنا عن مسبباتها وإنما عن سيرورة الحدث في معظمها، مما يصطلحون على تسميته أخطاء ويلتمسون لها الأعذار ويكللونها بالشرعية الثورية!!.. ولم يخطئ العرب في جعل صفة الثورة "لغة" تقترن بالخروج على المقبول والمعقول في معظم الحالات، وربطها بغير المنضبط وغير المشروع أو غير العادل في حالات كثيرة، جعلها سبباً لتعريض الناس والعمران إلى أشكال من الإبادة والدمار والفساد، ولكنهم أجازوا الفعل الزجري الواعي لأهدافه ووسائله ذاك الذي يقوم بوجه الطغيان والظلم والاستعباد والاستبداد والسلطات الجائرة، وأطلقوا عليه تسميات أخرى، كما أجازوا الأخذ على يد الغلاة والجهلة ومن تأخذهم حالات الانفلات إلى إلحاق الأذى الفادح بالناس والحضارة.. وقد أدخل الإسلامُ الوقوف بوجه السلطان الجائر في باب أفضل الجهاد، فقال: "أفضل الجهاد كلمة حقٍ في وجه سلطان جائر"، ووضع جهادَ النفس في موضع الجهاد الأكبر في حياة المرء وممارساته من حيث تربيته لذاته وكف نفسه عن نزواتها وشهواتها وأشكال تطاولها على الحياة والأحياء والحق والعدل والدين والقيم.

وما يعنيني اليوم ليس الشأن اللغوي على أعميته في وقت أمات فيه العرب اللغة والقيم والصلاة الأخوية وما يجمعهم في جامعة أو جامعات، على نحو مثيرٍ يشير إلى تفشي الجهل واستحكامه وتحكم العو والعدواة في معظم ما يصدرون عنه من قرارات وتصرفات في مؤسساتهم وعلاقاتهم، للأسف الشديد، ووصول نفوذ أعداء الأمتين العربية والإسلامية البيوت والمؤسسات والهيئات الجامعة على نحو يجعل كل حريص من أبناء الأمتين يتساءل عن النتائج التي سيفضي إليها دخول أعدائنا إلى أعماق التفكير والتدبير في نفوسنا وشؤوننا، حيث يحرث أولئك الأعداء حرثهم ويزرعون المقت ويحوِّلون من يحوِّلون من أبناء الأمتين وأقطارهما إلى فَرَاشٍ ونار، وعمالة وعار، وتبعية ما لها من قرار.. وترك مفاعيل ذلك وآثاره لتمتد من ضفاف أفعال محصورة إلى مساحات من أحكام وأفعال سوءها بلا ضفاف.. من الذبح بالسكين إلى الرجم بالصواريخ.. ومن أشكال المنافَحة إلى " جهاد المناكحة".. والعياذ بالله، العياذ بالله، العياذ بالله!!.. ما يعنيني اليوم بصورة عامة الشأن الدموي الذي طغى، وبغى في مجالاته من بغى، وبلغ ذرا غير مسبوقة.. حيث يُستهدَف طلاب العلم والمتفقِّهون في شؤون دينهم ودنياهم، والتلاميذ والمصلون والعمال والفلاحون.. وكل ما يخطر في البال وما لا يخطر فيه من أنوع بنى الوطن ومقومات الدولة وقيم العيش، وكل من يعيشون في سورية الوطن التاريخي لشعب يقول المتقاتلون على جثته وداعموهم ودافعوهم إلى الاقتتال وإشعال النار في بدهم وذواتهم: "إنه من أقدم الشعوب مدنية وأعرقها حضارة، ومن أكثرها حيوية وحباً للحياة.."؟!، ومن أسف أن يمتد هذا الاستهداف الدموي – التدميري من شفرة الحدود إلى شفرة الحدود وفي كل الجهات الأصلية والفرعية في سورية.. وأن يتم باستباحة لكل الأساليب والأدوات والأشكال التي لا سمة لها ولا منبع إلا عمى البصيرة والبصر، وسيطرة الحقد والجهل على التصرف، والفتون بألوان الجنون، والائتمار بأمر من لا يريدون للسوريين والعرب والمسلمين خيراً ممن هم أعداء القيم والعدالة والحرية والبشر..؟!!.

في حادث استهداف كلية هندسة العمارة في جامعة دمشق بقذائف يوم الخميس 28/3/2013 استشهد خمسة عشر طالباً جامعياً وجرح عشرات، ولم يخفَ الفاعل في الحادث وربما تخفى وراء صمت أو قول أو تذرع بذرائع تفضح أكثر مما تستر، شأنها في ذلك شأن من يدعو الناتو للتدخل العسكري في الشأن السوري بكل الأساليب والوسائل، ويتوسل الوسائل إلى ذلك.. ثم ينتفض عند الرفض ليقول نحن من يحقق ما يريد.. أو شأن من يقول إنه يسيطر على 75% من جغرافية سورية ثم يطلب حماية وحظراً جوياً " بتريوتياً" لكي تدخل حكومته الأرض السورية وتقيم فيها؟! أو شأن من يحاور ويركض وراء أشكال الحوار فيفضي به ذلك إلى مناقشة الخدمات تاركاً لباب الأزمات، ووجوهرها معروف موصوف؟!..

وقد حاولت الجهات التي يعنيها تدمير سورية وإشعال النار فيها لتحترق، تلك التي تقف وراء هندسة الفعل التدمير الكلي للوطن والشعب، وعلى رأسها الولايات المتحدة الأميركية بأدواتها وملحفاتها، حاولت أن تغطي " السماوات بالقَبَوات.. كما يقول المثل الشامي، فادعت "أنها لا تملك من الأدلة والمعلومات ما يمكِّنها من تحديد الجهة المسؤولة عما جرى في كلية هندسة العمارة في جامعة دمشق"؟!.. ومما يلفت النظر أنه بعد حدوث ذلك الحادث مباشرة انطلقت دعوات على شبكة التواصل الاجتماعي " فيسبوك" على الخصوص، لوقف التدريس في الجامعات السورية وإلغاء الامتحانات لهذا العام الدراسي 2013 لأن الطلاب " يُقتلون".. وقد تعدد الدعاة وتردد الصدى وتنوعت وبلغت حدود الإعلانات والمناشدات لا لوقف الدراسة والتدريس في الجامعات فقط وإنما في المدارس باب أولى.!؟.. وتلك دعوات يستظل فيها الحرص والحق بظل الباطل ويريده، لأنها تهدف في النهاية لا إلى تعطيل الدراسة وجعل الطلبة الجامعيين نهب الفوضى والعطالة والجهات التي تسعى لاستقطاب مقاتلين ومتقاتلين..إلخ بل إلى تعطيل الحياة ذاتها وقتل إرادتها لدى الناس وكل أفق لها وإقبال عليها في سورية.. وهو تعطيل ليس فيه هزيمة للنظام ولا انتصار للمعارضة، ولن يرفع أحدهما ويخفض الآخر أو ينفع أحدهما ويضر الآخر بمقدار ما يؤسس لمزيد من تدمير سورية وشعبها وغرادة الحياة والبناء والصمود في وجه المحن والامتحانات لدى أبنائها، لأنه في حقيقته هزيمة وانكسار للحياة وإرادة الحياة وتثبيط للسوريين جميعاً بالنتيجة، وإباحة لأن تفترس العطالة كل بنى المجتمع ونفوس أبنائه، وبدلاً من نمو الإرادة الخيرة ينتشر الموات والخوف والفساد والإفساد، ويرتفع شأن شرائح حمس في سورية الحبيبة وشعبها الطيب، أذكرها بوصفها مفرزات لواقع المحنة والفتنة والامتحان والهوان الذي وصلنا إليه.. وأذكرها وأنا آسف، آسف، آسف، وبعض منها شاع ويُردد.. لكنما ذكري لذلك يدخل في باب التشخيص سعياً للخلاص من الداء أو منعاً لاستفحالة، وتلك الشرائح هي ـ  وأكرر هنا الأسف والحسرة على ما آلت إليه بعض الأمور في بلدي أو ما يُراد لها أن تؤول إليه ـ تلك الشرائح في أوساط كثير من السوريين وكل من يقاتلون على أرض سورية ويستدعون من يقاتل على أرضها:" الشَّبيحَة والذَّبيحَة والنَّبيحَة والشَّليحَة والرَّبيحَة".. وكل ذلك يتم على جسد سورية العزيزة.. وهذا الذي يُراد له أن يستمر ويزداد، فيما أرى، هو مطلب أعدائها والمتغطرسين والجهلة والأدوات والامعات من أبنائها، ومطلب من يريدون انتصاراً ثأرياً عليها من خلال فئة من أبنائها أو باسمها، ولو كلفهم ذلك ثرواتٍ طائلة وما شئت من أفعال وأقوال وممارسات تدخل في الدَّني من الشيم والأخلاق والسلوك والعمل..

وكان الرد على الحادث، قبل انطلاق تلك الدعوات وفي أثناء انطلاقها وبعد إطلاقها، بين أوساط الجامعات والطلاب وجهات شعبية في سورية أن الدراسة ستستمر، والطلاب سيتابعون ويدخلون الامتحانات حسب المقرر لها، وأن العلم والعقول والكفاءات التي تقع على رأس ما يُستهدَف في سورية لن تختفي أو تنكفئ أو تتوقف عن العمل والتنمية، وهي لن تمكِّن من يريدون أن يعيدوا سورية إلى العصور الحجرية أو البدائية، كما يعلنون، لن تمكنهم من تحقيق أهدافهم.!!

في سورية قوى وإرادات تتقاتل على أرضها وفي سبيل السيطرة عليها أو من أجل إلحاقها بهذا الركب العالمي أو ذاك.. وفيها ثنائيات من الفعل وأخرى من ردود الأفعال تنعكس لباً عليها وعلى مواطنيها وحياة الناس فيها، وهناك في سورية اقتتال الاستراتيجيات الدولية، والثارات والنخوات العربية، والتوجهات والاستقطابات الإقليمية والطائفية والمذهبية، وهناك قتال الحمق وقتال الوعي.. إلى آخر ما هنالك من الثنائيات الكثيرة والخطيرة والمثيرة.. ولا أوتوقع أن يتوقف كل ذلك بين عشية وضحاها، ولكن لا بد من أن يتوقف لتبقى سورية، وستبقى. وعلى من يدعي أنه يريد لسورية ومواطنيها الخير، وعلى من يريد لسورية البقاء والبناء، من أبنائها ومن غير أبنائها، أن يتوقف عن تدميرها، وأن يكف عن الاستعداء عليها، وأن يعمل بشجاعة وشرف وإخلاص على وقف الاقتتال وكل أشكال العنف أولاً وقبل كل شيئ، وأن يتوقف عن التحريض والتجييش والتهويش وقتل الحقيقة والإرادة والأمل، وأن يحكِّم الله والعقل والضمير في أمر شعب وبلد، فيخْنِس إلى الحق والحكمة والمصلحة العليا للناس الذين لا يوصلهم قتلهم وإشقاؤهم إلى حرية وعدل ومساواة وكرامة، بل إحياؤهم بالعدل والحق يوصلهم إلى ما ينشدون من ذلك وهو حق لهم.. وعلى من يريد ذلك بصدق ووضوح وتجرد ونزاهة ورجاحة عقل أن يختار بثقة وشجاعة ومسؤولية تاريخية، ومن دون مواربة أو مناورة أو مكابرة.. أن يختار الحلول السياسية – السلمية البناءة، في إطار الوطن والمواطَنة ومقوماتهما ومواصفاتهما الأخلاقية وقيمهما الوطنية والإنسانية.. وأن يقطع الطريق على دعاة العنف والدم والثأر والجهل وإسقاط سورية الدولة والشعب والمجتمع المتآلف والقيم العريقة.

إننا نسمع الكثير الكثير من الادعاءات تأتينا من كل الجهات ولكن لا نرى إلا الكثير الكثير من الويلات والدماء تسيل على الجباه وفي الجبهات..!! فمتى يا ترى تبزغ شمس الحق والصدق في القلوب والأنفس وتحرق فيها الفطر الخبيث ومن ثم تنعكس على القمر السوري الشاحب ضياءً ووفاءً وتملأ سماء الشام وفضاءها أمناً وسلاماً يا أيها الذين تعدوننا بالخير وتزرعون في حقولنا لنا الشر..؟!

.. ونحن نعرف، وكل عاقل يعرف، أن المرء لا يحصد إلا ما يزرع.؟!.