خبر الطاسة ضايعة.. والعقل أضيع .. علي عقلة عرسان

الساعة 04:18 م|26 مارس 2013

            من يعتقد أن جولة الرئيس أوباما على ثلاث دول في المنطقة: " إسرائيل وفلسطين والأردن" هي سياحية إلى حد كبير، أو إلى حد ما، سيكتشف أنه وهم كثيراً وغرق في العسل، ومن يتوقف من المتابعين للجولة وأغراضها عند حدود الخطابات وما جاء في المؤتمرات الصحفية التي عقدها الرئيس مع نظرائه ويبني على ظاهر الأقوال، وهو مهم وكثير وخطير، لا يصل إلى الأبعاد العميقة والأغراض البعيدة والنتائج المتوخاة من الجولة.. وأظن أنه يحتاج كثيراً إلى ما يسميه محللون وباحثون إلى قراءة ما بين السطور وما هو في ظلال الكلمات ودلالاتها فيضيفه إلى ما رأى وما سمع ويتمم ذلك بالتوقف عند تحركات ومصالحات يجعله أقرب إلى الإلمام بمضمون أهداف الجولة، ولكن يبقى في السر أشياء وأشياء تثير أكثر من القلق والخوف.

لقد بدا أن المحور الرئيس للتحرك هو إعادة المفاوضات بين الكيان الصهيوني والفلسطينيين، وقد تكلم أوباما في هذا الموضوع ولم يقارب أمرين يهمان المفاوض الفلسطيني ويجذابنه إلى طاولة المفاوضات هما وقف الاستيطان والقرارات المتصلة بأرض فلسطينية محتلة تقام عليها الدولة هي حدود الرابع من حزيران 1967، وتحاشى أن يحدد زمناً وموقفاً وبقي في العموميات، أما في الشأن الإسرائيلي فذهب إلى أبعد من المدى المعتاد أميركياً من تأكيد على دعم إسرائيل لتكون أقوى دولة في المنطقة وتقديم ضمان أبدي بوجودها تتعهد به الولايات المتحدة الأميركية، وتحالف استراتيجي عالي المستوى وعلاقات تجعل من إسرائيل دولة فوق التهديد والمساءلة والقانون، كما هو شأن الولايات المتحدة الأميركية مع دولة الإرهاب والعنصرية منذ أنشئت.. وأكد الرئيس للفلسطينين موقفاً أيده وأشار إلى أنه مفتاح حل الدولتين، وهو يهودية الدولة العبرية.. وهذا الأمر ينطوي على الكثير من المخاطر على الشعب الفلسطيني وقضيته ومنها "الترحيل ـ الترانسفير" لفلسطينيي 1948 الذين تمسكوا بأرضهم وأعلنوا للعالم كله ردهم على سؤال غولدا مائير " الفلسطينيون.. أين هم؟"، فقالوا نحن هنا في أرضنا وأرض آبائنا وأجدادنا.. فلسطين.

   إن تحريك الموضوع الفلسطيني في هذا الوقت، مع وضع هذه الألغام في المسار:" يهودية الدولة، وعدم وقف الاستيطان" على الخصوص، وهي مطالب فلسطينية رئيسة وجوهرية ومبدئية، يفضي بنا إلى ملامسة الغرض من تحريك هذا الملف الآن وبهذه المواصفات، ويذكرنا بتحريكه سابقاً وبالطريقة ذاتها تقريباً قبيل العدوان الأميركي على العراق.. إنها عملية أميركية ترمي إلى وضع أوراق " فارغة" بأيدي جهات ودول عربية قبيل شن العدوان على سورية، ذلك الذي يعد له بالأساس ، وتأتي الزيارة لتهيئة الظروف وللتمهيد له، في عملية إلهاء وإغراء لا ينتج عنها شيء، وتشد الأنظار إليها.. وهي تتضمن إبراء ذمة الرئيس أوباما لاحقاً من أية مسؤولية عن عدم تحقق شيئ في هذا المسار، فهو لم يعلن التزاماً بشيئ يقيِّده، ولم يطلب من الصهاينة شيئاً يلزمهم، بل ألزم الفلسطينيين بمطلبين أشرت إليهما، يجعلانهما ملومين لأنهم لم يلتزموا بهما، ومن شبه المستحيل الالتزام بهما، وبذا يقال لهم ببساطة: أنتم لم تستجيبوا.؟!

لقد أصلح الحال بين الأتراك والإسرائيليين وأعاد العلاقات بينهم إلى ما كانت عليه، وقال نتنياهو في صفحته على الفيسبوك وفق ما نقلته الإذاعة الإسرائيلية:" إن الحقيقة تؤكد أن الأزمة في سورية التي تضغط علينا بقوة شكلت بالنسبة لنا الاعتبار الأول لتقديم الاعتذار لتركيا" و قال في تصريح آخر: "من المهم أن تركيا وإسرائيل اللتان تشاركان حدوداً مع سورية تستطيعان التواصل مع بعضهما البعض، وهذا الأمر مرغوب فيه أيضا إزاء تحديات إقليمية أخرى".. ويقصد ترتيبات تتصل بإيران. وأرسل الرئيس أوباما وزيره جون كيري إلى العراق بمطالب منها منع وصول أسلحة أو إمدادات إلى سورية عبر الجو والبر، سواء أكان ذلك من إيران أو من العراق ذاته.. وطمأن الأردن إلى أن " واشنطن لن تترك المملكة للإسلاميين"، ودفع الأردن باتجاه العمل المشترك من دون تردد أو خوف، فأميركا ستحفظ أمن الأردن، معززاً الثقة بنتنياهو ومؤكداً أهمية التعاون، ظاهراً لحل الدولتين وباطناً لما هو أبعد من ذلك.. وكل هذا يتصل بما يرتب لسورية النظام والمسلحين معاً بهدف إخراجها كلياً من دائرة الحسابات المؤثرة بالنسبة لإسرائيل أو للمشاريع والاستراتيجيات والخطط والتحركات الأميركية في المنطقة. 

قال الرئيس أوباما: " أنا قلق جداً من أن تصبح سوريا ملجأ للتشدد، لأن المتطرفين يستغلون الفوضى، ويزدهرون في الدول الفاشلة وبوجود فراغ في السلطة." وقال: " لقد انكسر شيء في سوريا، ولن يكون بالإمكان إعادة جمعه كاملاً فوراً، حتى بعد رحيل الأسد. ولكن يمكننا البدء بهذه العملية بطريقة أفضل، ووجود معارضة متماسكة أمر حاسم في هذا الإطار".. والمعارضة المتماسكة التي يقصدها هي جزء من القوى المقاتلة في سورية الآن، وقوله هذا يشير إلى قمة جبل الجليد، حيث يتوضح الأمر في سياقات أخرى يجري العمل عليها منذ أشهر.. ولإلقاء مزيد من الضوء على هذه النقطة أشير إلى ما أورده الصحفي الصهيوني سمدار بيري في يديعوت أحرنوت في 22/3/2013 تحت عنوان: "دورة تدريبية للمتمردين".. فقد قال في تقصيات مختلفة وشهادات: [[ تجري التدريبات في المعسكرات السرية منذ نحو من سنة.. الحديث عن مرشدين من شركات حراسة خاصة يحصلون على استشارة ويُنسقون مع جهات استخبارية رسمية في ثلاث دول غربية " الولايات المتحدة وبريطانيا وفرنسا".. وهم يعملون في معسكرات التدريب السرية ـ المفرق وقاعدة الملك عبد الله الثاني ـ من أجل تحويل المبتدئين السوريين إلى محاربين".. "والهدف هو أن يُعدوا بسرعة 15 ألف جندي وضابط انشقوا عن الجيش السوري للانضمام إلى المتمردين "المعتدلين" وإجراء قتال للأسد وللاسلاميين المتطرفين.".. "رأيت في ليلة واحدة بأم عيني قطاراً جويا من 17 طائرة بلا علامات تعريف"، يقول شاهد عيان يسكن في العقبة. "وكانت تلك طائرات قديمة ولا يعلم أحد من الطيارون، وحُملت المعدات على شاحنات محكمة الاغلاق عمداً بحيث لا يمكن أن يتم التعرف حتى على رقم حاويات المعدات المحملة" .." يؤخرون توزيع الصواريخ المضادة للطائرات والمضادة للدبابات في تدريبات المعسكرات السرية في الأردن إلى مرحلة "لحظة ما بعد الأسد".. "يوجد اتفاق شامل بين المستشارين الامريكيين والفرنسيين والبريطانيين بتعاون مع قادة الجيش والاستخبارات في الأردن على أنه لا يجوز إخراج السلاح الثقيل في المرحلة الحالية وإدخاله إلى سوريا.. "خشية أن يقع في أيدي "المُشكلين" الإسلاميين.]]، والمشكلون الإسلاميون هم جبهة النصرة ومن في حكمها من المسلحين العاملين في سورية.. من هذا الجانب يتبين شيئ عن التدريب وتخزين السلاح النوعي، وإيصال عدد محدود من المقاتلين ومن السلاح غير الاستراتيجي المتطور جداً إلى ساحة القتال، وليس من الأردن فقط وإنما من مواقع أخرى أيضاً.. ومن جوانب أخرى تُستكمل الترتيبات وتعزَّز الصلات بين الدول والقوى التي يتم التخطيط لتعاونها فيما يتصل بالشأن الشوري، أو بالأزمة السورية التي لم تعد تقتصر جيوسياسياً على الجغرافية السورية في ابعادها وآفاقها واستهدافاتها. وتتضح الصورة أكثر وكذلك بعض معالم ما يتم إعداده والاستعداد للقيام به من أفعال من خلال الاتصالات والاستعدات للتمويل من دول في المنطقة، ومن مواقف وتحركات على الأرض ومؤشرات وتصريحات لبعض قادة العدو الصهيوني، فقد أعلن الجنرال يئير غولان قائد المنطقة العسكرية الشمالية في فلسطين المحتلة أن "بلاده؟!" قد تقيم بالتعاون مع القوى السورية منطقة أمنية في الأراضي السورية على الحدود مع إسرائيل للتصدي لهجمات محتملة من قبل الجهاديين في حال الإطاحة بنظام الرئيس السوري بشار الاسد." وقال الجنرال في تصريح لصحيفة "إسرائيل هايوم" الإسرائيلية، نشر يوم الاثنين 25 مارس/آذار 2013، إن "أحد الإجراءات التي بالطبع لا يمكن أن نستبعدها هو إقامة منطقة أمنية على الجانب الآخر (أي السوري) من الحدود.. إن السوريين المعنيين بالتعاون مع إسرائيل في مكافحة الإسلاميين الراديكاليين سيكونون حلفاء طبيعيين لإسرائيل في إقامة مثل هذه المنطقة الآمنية.".

إن ما يُعد لسورية يتعدى إسقاط النظام وإضعاف الدولة والقضاء على كل قوة تحميها وتبنيها مستقبلاً، إنه تخطيط يذهب بها باتجاه فتحها جبهة تصفية حسابات دولية، وساحة اقتتال شبيهة بالأفغانية مع تعديلات جوهرية، حيث يقتتل فيها السوريون من علمانيين وإسلاميين معتدلين مع من تسميهم التقارير " الغربية ـ الصهيونية" المشكِلين والراديكاليين الإسلاميين، أوالنصرة والقاعدة ومن في حكم أولئك ممن يصنفون إرهابيين، يقتتلون على الأرض السورية وقد ينسحب اقتتالهم إلى أبعد منها، ويتحالف بعضهم مع الأميركيين والبريطانيين والفرنسيين والصهاينة وبعض العرب، حيث يمدونهم بالخبرة والسلاح والمال، بينما يعتمد الفريق الآخر على حلفاء من لون آخر دوليين وإقليميين. ويفني كل من الطرفين الطرف الآخر لمصلحة أعداء سورية والأمتين العربية والإسلامية. وعندما يصلون إلى خط النهاية تكون قضية فلسطين قد انتهت كلياً لمصلحة الصهاينة، وخط المقاومة قد قضي عليه، ونبت جديد من الأفكار والأشخاص والتوجهات والعلاقات والسياسات قد نشأ.. هذا إذا لم تتطور الأمور دولياً إلى مواجهات أوسع حفاظاً على المصالح وتحقيقاً لاستراتيجيات لا تقبل المس بها.

إن ما يعد لنا في سورية، شعباً ودولة، يتعدى وجود سورية لتصبح فخاً يقع فيه أبناؤها ومن يأتي إليها من " الإسلاميين والقوميين والعلمانيين، من المجاهدين والمناضلين والمتطرفين والمُشكِلين والراديكاليين والنصرة والقاعدة..إلخ ليفني بعضهم بعضاً كرمى لغيون" الغرب والصهاينة ومن يواليهم ويقع كالفراش على نارهم التي يوقدون".. ويبدو أن الكل من دون استثناء يدفع في هذا الاتجاه وكأنه الحق والعدل والخير والصلاح والإصلاح والوطن والمواطَنة.. والآخرون العكس.. والعكس بالعكس، و" الطاسة ضايعة"، والوعي فقيد، والضمير في سبات، والعقل أضيع".؟!

أسفت وآسف، تألمت وأتألم، عجبت وأعجب.. وتذكرت واستذكرت كلام الصهيوني الأعتق والأشرس هنري كيسنجر الذي قال عن سورية: "  إنها لا تضرب بالصواريخ الذرية. لقربها من إسرائيل.. لذا لا بد من ضربها من الداخل وإحراقها.. ولكن علي أن أعترف: أنها فقيرة الموارد الجوفية. والمياه أيضاً. في الوقت الذي استطاع السوريون بناء هذه البنية التحتيّة العملاقة. فانظر إليهم.. طبابة مجانية.. والتعليم شبه مجاني.. ولكن أكثر ما أثار دهشتي هو تلاحم جيشهم. وكذلك تلاحم شعب مكوّن من أربعين عرقاً وطائفةً".

فهل يقرأ السوريون والعرب والمسلمون يا ترى؟!

دمشق في 26/3/2013 

                                                            علي عقلة عرسان