خبر الآخر الشريك في القرار والمصير.. علي عقلة عرسان

الساعة 10:12 ص|12 مارس 2013

 

يمكن لمن يحب التكثيف في التوصيف أن يجد بعض ضالته في جمل قصيرة تقدم بعض جوانب المشهد الراهن في سورية المدماة، كأن نقول فيها: "إن المقابر تتضخَّم والبيوت تتقزَّم "، و " إن الأنام فيها عادوا إلى الخيام" و " إن الأكاذيب تنتصر والحقائق تنهزم"، و" إن الأخيار في بؤس وشبه يأس والأشرار فيما يظنونه النعيم المقيم"، و" إن من يعبثون بوطن وشعب ومصيرهما هم في الأغلب الأعم، من لا شأن لهم بوطن وقيم وبناء وإنسان، والسلطة لديهم مغنم وليست مسؤولية وأمانة وقدرة على الأداء بحكمة."!!.. إن كفة من يريدون إضعاف سورية والقضاء على كل شكل من أشكال حضورها رجحت على كفة من يريدونها حاضرة وفاعلة وقوية، وإن الخطط والرهانات المتصلة بها لم تبلغ بعد نهاياتها ومراميها، ولذا يستمر النحر والانتحار الذاتي إلى أن يأتي وقت يرتاح فيه الأعداء أصحاب الخطط ويتعب فيه المراهنون على نجاحها وفشلها، وهم في معظمهم لا يدركون لها أبعاد نجاح من فشل لأنهم كجمهور منفعل في ملعب كرة قدم أو حلبة مصارعة أو سباق خيل.. يلاحقون الظاهر ولا يلتفتون إلى الباطن وإلى ما هو أبعد من السطح وأعمق.. والمؤكد في هذا المشهد أو المعمعان أن الكل شركاء في الدم والإثم والفتك والإنهاك، وتغييب العقل وإماتة الضمير وما يغشى البصيرة ويعشيها. فلا توجد إرادة مستقلة لصاحب رأي إيجابي ورؤية منقذة في صفوف من يلغون في الدم ويحدِثون الحدث، لكي يتخذ موقفاً حاسماً ويعلن رأياً قاطعاً ويثبت على رؤية منقذة، كما لا توجد همة عالية متعالية ترفع أشخاصاً مسؤولين عن المشهد الدامي وفيه إلى درجة الشموخ والترفع والتضحية من أجل الوطن بمواقع ومصالح كما يضحي البسطاء بدمهم وأسرهم؟! بل هناك في سورية ـ ".. الدم والقتل والموت والتخريب والنهب والسلب والسرقة والفقر والإفقار والاتجار بكل شيئ ابتداء من التربة وانتهاء بالهوية، مروراً بالقيم الوطنية والقومية والإنسانية.." ـ هناك من يضحون بالشعب والوطن من أجل ذواتهم وعنترياتهم.. ولا أعمم ففي هذا الوطن العزيز كبار مسحوقون وكبرياء تأبى أن تنزلق إلى مواقع الدهماء. في سورية الحبيبة.. الدمار ينتشر، والتشرد يزداد، والمعاناة البشرية تكبر وتتدحرج لتكتسح ما تبقى في النفوس من صبر واحتمال.. وشرر النار يكبر ويكبر.

المخادعون كثر، وكلما أتيتهم من باب هربوا إلى الأمام مدعين أن فتحه تأخر، وهم في ذلك يخادعون الله والناس وأنفسهم، ولا يملكون إلا أن يحركوا ألسنتهم بما يوحَى لهم أو توحيه مصالحهم، أو بما يظنون أنه يشغل الناس عن مهاويهم التي يتردون فيها. وهم يعتقدون، وفي كثير من الخداع استغفال واستغباء أو غباء لا سمح الله يعتقدون أن خداعهم لم ينكشف وأن نظراءهم ومتابعيهم في قمة الغباء؟!! وما زالت لدى أطراف في الصراع القذر القدرة على الصراخ والادعاء والكذب والتلوّن بما يفوق الحرباء بدرجات ودرجات.. يفعلون ذلك من دون أن يرف لهم جفنهم أو تتذكر آذانهم ما كانت تلهج به ألسنتهم قبل قليل..؟! وكأنما القيم والمعايير انقلبت رأساً على عقب، فطفت قيم غريبة على العقول والقلوب وغشَت البصائر، مؤداها "الكذب ملحُ الرِّجال والعيبُ على الذي يَصدُق؟!"، أفبهذا تكون الرجولة عندهم رجولة والسياسة في مفاهيمهم سياسة!؟ أمَّا أصحاب المشاريع التدميرية الخبيثة الموضوعة للبلد الجميل البهي "سورية"، ولشعبها العريق، فهم يتصارعون عبر أدواتهم ووكلائهم وحلفائهم، ويشرفون على المشد الدامي من علٍ.. بينما تنفتح طرق الشام كلها أمام كل جائر وقاصر ومتآمر ومغامر ومقامر وطامح وجامح وذي علَّة وتعلَّة.. ويلاقيه في منتصف الطريق من يجاريه ويشاكله أو يضاده ويدانية في الغرض ويماهيه في التكوين، ومن يضطر إلى خوض حرب مفروضة دفاعاً عن النفس والبيت والأرض والعرض والحمى و.. فتُفرَض على الشعب والبلد حربٌ مدمرة كريهة، وممارسات لا صلة لها بالخلُق والإنسانية والدين، وتصبح سورية ميداناً مهلكاً وأهلها وقوداً لنار تحرقهم، وكل بقاعها ومغانيها ساحة لمن يغرس في ترابها وتربتها الاجتماعية رماحه ليصل إلى غاياته.؟!

لا أريد أن أدخل في الكلام عن حلول ومبادرات وتعطيل ورفض وجذب ونبذ، ولا عن إصلاحات وحقوق وحريات وممارسات ديمقراطية بعيدة كل البعد عن الفساد والإفساد والطغيانية والانتهازية وكل الأمراض الاجتماعية والسلوكية الأخرى التي يمكن أن تعشش في أنفس فتهلكها وتهلك جماعات وشعوباً.. لكنني أريد أن أؤكد على أن من يملك النية الحسنة والحرص الحقيقي على البلد والشعب لا يمكن أن يقتل الشعب ويدمر البلد ويشرد الناس ويفقرهم ويستعدي على أهله وبلده الأعداء لكي يحقق " انتصاراً" لذاته على حساب بلده وأمته وذاته.. لأنه بهذا لا يصلح ولا يحرر ولا يهدف إلى إيجاد حلول لأزمات أو مشكلات ذات شُعب وفروع وجذور وأبعاد، تحتاج إلى حوار ومنطق وعقل ووجدان وإرادات حرة وبنَّائين وعمل دؤوب  لمقاربتها ومعالجتها، وقد تحتاج إلى زمن طويل وربما يطول لكي تُحَلَّ بأسلوب ومنهج ينفع الناس، ويرسخ الأمن بالعدل، ويشيع المحبة بالحكمة والمودة والموعظة الحسنة.. التي علينا أن نسلك إليها مسالك الحكمة والتوافق والوفاق والاتفاق والشراكة الحقيقية في القرار والمسؤولية والمصير. كل ما عدا هذا المبتَغَى والمنهج والنهج مناورات أو مضابرات ومكابرات تقوم بها أنفس مريضة أو تفصح عنها أمراض أكلت نفوساً فتجلى المرض نفساً، وأخذ يعدي حتى كوَّن بيئة حاكمة ومحكومة.

من يريد حقن دم السوريين وتخليصهم من المأساة الفادحة التي تخنقهم، وإخراجهم من النفق المظلم الذي أدخلوا فيه.. ومن يسعى فعلاً إلى العمل بما يريده الشعب ويصلح الحال.. عليه أن ينصاع إلى إرادة الشعب عبر مراعاة مصلحة أبنائه، "الفقراء والبسطاء والأبرياء من أبنائه على الخصوص، وعليه ينطلق من تلك المصلحة بموضوعية ومنهجية ومسؤولية وأخلاقية، يحدد فيها أولاً من هو، ومن وما يمثل، ووفق أي شرعية شعبية وخلقية بالدرجة الأولى.. ولا يجوز له خاصة، كما لا يجوز لأحد بصورة عامة، أن يُلحق الشعبَ به أو يدعي أنه الشعبُ أو أن يفرض نفسه على الشعبِ، أو يزعم أنه حصل على تفويض من الشعب بادعاء يعريه الوقاع.. إلخ، وعلى ذلك الشخص، أياً كان وفي أي موقع، أن يعي ويدرك أولاً وقبل كل شيء أن ما ينبغي أن يحكمه هو مصلحة الشعب والوطن وحياة الناس ومستقبل أبناء الأمة كلهم وعلى راسهم الصغار، وأن يُعمِل العقل ويعلي شأن المنطق في أقواله وأفعاله وتصرفاته وممارساته، وأن يلغي الانفعالات والعنتريات والتحديات الثأرية وأشكال التعالي، وينبذ كل ولاء مرَضي ضيق من أي نوع وكل تبعية لقوة ليست قوة بلده وشعبه، أياً كان تأثرها ودورها.. وعليه أن يلاقي الآخر الشريك في المعاناة والمواطَنة والقرار والمصير في منتصف الطريق، ليتفاهم معه ويتعاونا معاً على إيجاد حلول موضوعية مجدية فيها خير البلد واستقرار الأوضاع ومصلحة الشعب وتمثل إرادته وما هو بأمس الحاجة إليه: "أي الأمن من جوع وخوف" في الوضع الراهن وهو الأمر المُلح. ولا يجوز في مثل هذا المناخ المنشود الذي نتطلع إليه أن يفرض أحدٌ نفسه أو رأيه أو رؤيته على سواه، ولا على الشعب والوطن من باب أولى، بقوة السلاح والذراع وبعض الولاء وعلو الصوت وكثرة الادعاء.. إلخ، فمن يحرص على البلد يخدم البلد أكثر مع من لديهم الاستعداد لخدمة البلد بنظافة وكفاءة ونزاهة، ومَن يتسلَّم شأناً في البلد ويوكل إليه القيام بمهة أو أمر في إطار تنفيذ الإصلاح ومعالجة الخلل والخطأ ومرهمة الجراح ومحاكمة المرتكبين والمجرمين.. هو من يتم اختياره لذلك وفق أصول وصلاحيات يمارسها الشعب أو يقرها ويبين أسسها بحرية تامة ووفق معيارية سليمة ومواصفات دقيقة لهذه المهمة/أو المهام.. ولا يمكن أن يُقبَل من مدع ادعاء ما بأنه الأصلح والأجدر والأكفأ وأنه المناضل والمضحي والـ.. والـ .. إلخ، فكل منا عليه أن يؤدي واجبه حسب قدراته، والتقدير والتدبير والتكليف أمور تقررها جهات مسؤولة ومؤسسات الدولة المعنية وفق معايير صحيحة راسخة تحكمها قوانين وأصول يقرها الشعب، عبر المؤسسات المعنية التي تضع الصيغ الدستورية والقانونية، حيث تصبح ملزمة لمن يكلَّف بمهام، دستورياً وقانونياً ووظيفياً، وفق إرادة شعبية حرة تجلت في إقرار الدستور والسياسات، وهو يقوم بتنفيذ ما يوكل إليه وفق موقع المسؤولية التي يتسلمها والضوابط الموضوعة لذلك، وفي حدود صلاحيات ومواصفات وإجراءات سليمة يحددها القانون.. ولا تخرج المواثيق والثوابت والدستور والقيم الحاكمة شعبياً عن جوهر ما يحكم الشعبَ ويحتكم إليه الشعبُ ويحترمه مما يكوِّن مقومات عقيدته وهويته وشخصيته وتقاليده الاجتماعية المتفق على صلاحها ومصلحته العامة ونسيجه الاجتماعي.. وبما يتوافق مع انتمائه التاريخي والحضاري ويعبر عن ذلك الانتماء.. فالإنسان ماهية وهوية.. وماهيته " ما هو؟" تحددها كينوته بشراً بين المخلوقات الأخرى، وهويته " من هو؟" تحددها جِبِلَّتُه بين الأشخاص وقوميته بين الأمم والأقوام.. فلا مآخذ على الانتماء من هذه النواحي، فكل الشعوب والأقوام تنتمي كما أن الأفراد ينتمون.. بالمعنى التعارفي أولاً وقبل كل شيء، ﭧ ﭨ ﭽ ﭵ  ﭶ  ﭷ     ﭸ  ﭹ  ﭺ  ﭻ  ﭼ   ﭽ  ﭾ  ﭿﮀ  ﮁ    ﮂ  ﮃ  ﮄ  ﮅﮆ  ﮇ  ﮈ   ﮉ  ﮊ  ﮋ  ﭼ الحجرات: ١٣ " وكما أشارت الآية الكريمة بمعنى التقوى " أي العمل والصلاح والإخلاص والاقتدار" وليس بالمعنى التعصبي الضيق، أو الشوفيني كما يقولون".. ولا يخلو الانتماء الثقافي الإنساني العام، حتى في تجلاته العليا، من إشارات ومعطيات ومحدِّدات انتماء تمليها النشأة واللغة والبيئة الاجتماعية والتكوين ومفاهيم وقيم روحية تتصل بالعقيدة الدينية التي هي من أهم مقومات الهوية.

فهل يعمَد من يعنيهم أمر سورية وشعبها وحقن الدم ووقف العنف فيها، من أبنائها بالدرجة الأولى" أينما كانوا وأياً كانت توجهاتهم"، إلى إعلاء فعلي للشأن العام على الخاص، وإلى مراجعة الكثير من المواقف والخطابات والارتباطات والقضايا التي تجعل كلاً منهم يرى قامته بتواضع قامة بين القامات السورية وليس فوقها، وأن يأتمر بأمر الشعب عبر ما يقرره الشعب بحرية ونزاهة وليس مرجعاً للشعب أو موحياً باسمه، وأن " يتنازل قليلاً " فيتقارب مع الأخر الشريك في الأزمة ليكونا معاً شركاء للآخرين جميعاً في حل أزمة تتصل بالمواطَنة والشعب والمستقبل والمصير؟! إننا نتطلع بكثير من الأمل إلى قدر أكبر من الاعتدال والتواضع والموضوعية والمسؤولية الوطنية والاجتماعية والإنسانية، حيث لا تحكمنا نظرات طائفية قتالة، ولا جهات خارجية مهما كان موقفها وادعاؤها، ولا مواقف وأحكام مسبقة، ولا تصفية حسابات قديمة وممارسات مغلوطة ومدانة، سيأتي حسابها ووقت فتح ملفاتها جميعاً، وسيكون الحساب عليها وفق القانون وما يقره الشعب من مواثيق وقوانين يتم عليها الاتفاق الذي يخرجنا، ويجب أن يخرجنا، من دوائر الدم والدمار والعنف والخوف والاقتتال والإرهاب إلى رحاب الأمن والاستقرار والثقة وتحكيم العقل والقانون، كما يخرجنا من دوائر جنون لا سابق له ولا جدوى منه إلى فضاء الاحتكام بحكمة إلى مصلحة الإنسان وضرورات حياته وكرامته وحرياته وما يمليه على كل منا الدين والخُلق والوجدان والمصلحة العليا للشعب والوطن والأمة.؟! إننا نتطلع إلى ذلك بشوق وأمل، يداخلنا الخوف من الآتي الذي يهدد الجميع إذا لم نبادر إلى ما ينقذنا.