خبر الانتفاضة بين التأجيل الزمني والسياسي../ علي جرادات

الساعة 04:52 م|07 مارس 2013

كأية انتفاضات، لم تنطلق أي من الانتفاضات الفلسطينية، (كفعل ميداني)، بقرار، إنما بحدث، بل، وكان يمكن لحدث آخر، (سابق أو لاحق)، أن يطلقها. وكذا، فإن أياً من الانتفاضات الفلسطينية لم تكن بلا مقدمات أو بروفات تؤسس لها، وتراكم باتجاهها، وتنذر باندلاعها، كمحطة نوعية بعدها غير ما قبلها. فالانتفاضة الشعبية الكبرى، (كانون أول 1987)، وانتفاضة الأقصى المسلحة، (أيلول 2000)، (مثلاً)، لم تبدآ بقرار، بل، بدأتا، على التوالي، بحدث دهْس حافلة إسرائيلية لعمال فلسطينيين وحدث زيارة شارون الاستفزازية للمسجد الأقصى، وكان مهد لاندلاعهما هبتان جماهيريتان أطلقهما إضراب الأسرى المفتوح عن الطعام في نيسان 1987 وأيار 2000. بالمقابل فإن توافر قيادة سياسية وطنية موحدة مقتنعة ومستعدة هو ما أفضى إلى تطوُّر لهيب هبة جماهيرية فلسطينية بعينها إلى حريق واسع وممتد عم سهل الشعب كله.

يحيل ما سبق إلى الفرق بين الانتفاضة الشعبية بوصفها فعلاً ميدانياً، وبين حسبانها خياراً سياسياً، وبالتالي، إلى الفرق بين التوقيت الزمني الصدفي والسياسي الضروري لاندلاع الانتفاضات الشعبية الفلسطينية. فلئن كان بوسع الأول أن يشعل هبات جماهيرية تغذيها ممارسات الاحتلال الدائمة، فإن توافر قيادة سياسية وطنية موحدة مقتنعة ومستعدة هو ما يحوِّل هذه الهبة الشعبية أو تلك إلى انتفاضة شعبية شاملة وممتدة تنقل الحركة الوطنية الفلسطينية من حال إلى حال مختلفة نوعياً، سواء لناحية علاقة أطراف هذه الحركة بعضها ببعض، أو لناحية علاقتها بشعبها، أو لناحية، (وهذا هو الأهم)، كيفية إدارتها للصراع مع الاحتلال.

ومنذ سنوات لم يعد خافياً على أحد أن الشعب الفلسطيني في الوطن والشتات يعيش مأزقاً سياسياً متعدد الأشكال والأوجه. مأزق يدفع "بالقوة" نحو اندلاع انتفاضة شعبية ثالثة ينذر بشبوب حريقها وقوع هبات  جماهيرية عدة كان أبرزها هبة ذكرى "النكبة" في 15 أيار 2011 وهبة ذكرى "الهزيمة" في 5 حزيران من العام ذاته. كيف لا؟ وهو الشعب المثقل بانسداد أفق الرهان على خيار مفاوضات عقيمة طالت، وأخذت حظها من التجريب، أكثر من اللازم، وبما يعانيه، عموماً، وطبقاته الشعبية، تحديداً، من معضلات الفقر والبطالة وفقدان الأمن المعيشي، وبما تقوم به إسرائيل النظام قبل الحكومات من تسريع غير مسبوق لإجراءات استكمال مخططات التهويد والاستيطان وتقطيع الأوصال وسن القوانين العنصرية، ومن تصعيد حاد لممارسات سياسة الحصار والتجويع والقتل والجرح والاعتقال والهدم وإطلاق يد قطعان المستوطنين في الاعتداء على المقدسات وحرق الحقول والمزروعات...الخ

هنا ثمة مفارقة تحتاج إلى تفسير سياسي وطني موضوعي. إنها مفارقة عدم تطوُّر أي من هذه الهبات الجماهيرية إلى انتفاضة شعبية "بالفعل"، رغم قابليتها جميعاً لذلك، بما فيها الهبة الأخيرة التي أشعل لهيبها ما يخوضه الأسرى سامر العيساوي وأيمن الشراونة وطارق قعدان وجعفر عز الدين من إضراب مفتوح أسطوري عن الطعام، وجاء استشهاد الأسير عرفات جرادات غيلة في أقبية التحقيق ليزيد نارها تأججاً.

يكشف عدم انتقال أي من هذه الهبات المتلاحقة إلى انتفاضة شعبية عارمة عن أزمة سياسية تعصف بالتنظيم السياسي الفلسطيني، سواء لناحية ما تعيشه فصائل وأحزاب الحركة الوطنية، منذ سنوات، من مظاهر التفكك والتشرذم والترهل، أو لناحية ما يعصف بالمؤسسة الوطنية التمثيلية الجامعة من انقسام عمودي أنتجه غياب وحدة الرؤية والبرنامج والقيادة واستشراء ممارسة سياسة ترجيح الفئوي الخاص، بل والشخصي أحياناً، على حساب الوطني العام، ناهيك عن تباين الأجندات وعدم التورع عن حسم الخلاف السياسي بوسائل عسكرية، وعن تحويله إلى صراع على التمثيل. ما يعني أن المسؤولية السياسية عن إجهاض الهبات الجماهيرية الفلسطينية المتلاحقة، بما فيها الأخيرة، وعدم تطورها إلى انتفاضة شعبية شاملة وممتدة،لا تقع فقط على عاتق مَن هو غير مقتنع بالانتفاضة كخيار سياسي، ولا تقع فقط على عاتق مَن هو غير مستعد لتحمل تبعاتها كفعل ميداني، بل، تقع، أيضاً، وبالقدر ذاته، على عاتق ذاك الذي ما انفك "يخطب" في الناس ليل نهار، وعلى مدار الساعة، عن الانتفاضة، لكنه يريدها خارج نطاق ما استحوذ عليه، بقوة السلاح، من "سلطة انتقالية" اسمية، وبما لا يهدد استمرار هذه السلطة أو المساس بـ"التهدئة" التي أبرمها، ويجددها، كخيار سياسي، (عبر طرف ثالث)، مع الاحتلال.

على أية حال، صار واضحاً أن لهيب الهبة الجماهيرية الأخيرة، (كلهيب سابقاتها)، في طريقه إلى الخفوت،  بسبب عدم توافر قيادة سياسية وطنية موحدة مقتنعة ومستعدة لتطويرها إلى انتفاضة شعبية. وصار واضحاً أكثر أن حكومة نتنياهو بناء على نصائح قادة الجيش والأمن، قد اختارت سبيل احتواء هذه الهبة، سواء عبر الإفراج عن المستحقات المالية الفلسطينية لشهر كانون ثاني الماضي، أو عبر عدم الإيغال في إدماء التظاهرات الذي كان من شأنه أن يصب الزيت على النار، أو عبر بدء الحديث عن نية الحكومة الإسرائيلية قيد التشكيل الإقدام على إجراء تجميد مؤقت ومحدود لعمليات الاستيطان، أي بما لا يشمل القدس والكتل الاستيطانية الثلاث الكبرى في شمال ووسط وجنوب الضفة. لكن كل هذا، علاوة على ما تحمله زيارة الرئيس الأمريكي، أوباما، من وعود، لن يكون قادراً إلا على التأجيل الزمني للانتفاضة، بعد أن صارت خياراً سياسياً مفروضاً، ما دامت سياسة إسرائيل النظام قبل الحكومات لا ترى في الفلسطينيين شعباً له قضية وأرض وحقوق وطنية وتاريخية مغتصبة، بل، مجرد "مجموعات سكانية غير يهودية"، تعيش على أرض دولة إسرائيل، وتحت سيادتها، لها احتياجات حياتية يلبيها قيام "إدارة ذاتية"، مطلوب منها عدم ممارسة "الإرهاب"، بل، ومحاربة من يقوم به أيضاً. ما يعني أن هنالك في جوف هذه السياسة الإسرائيلية المدعومة، بل المرعية، من الولايات المتحدة، ما يجعل المسافة بين هبة جماهيرية فلسطينية تخفت وأخرى تشتعل، مسافة سياسية بامتياز، بمعزل عن السبب المباشر الذي أشعل هذه الهبة أو تلك. بل، إن هنالك في جوف هذه السياسة، فضلاً عن التمادي في ممارساتها، ما يجعل اشتعال سهل الشعب الفلسطيني كله، أي تطور هباته الجماهيرية المتلاحقة إلى انتفاضة شعبية عارمة وممتدة، خياراً سياسياً محتوماً، لا مناص منه، تقدم الأمر أو تأخر. وهذا ما باتت تحذر منه القيادات الأمنية والعسكرية الإسرائيلية التي تنصح بتقديم الرشاوى، وعدم الاكتفاء بالمعالجة الأمنية، لأنها تعي قبل وأكثر من غيرها، حقيقة أن إدماء الهبات الشعبية الفلسطينية المتوالية لن يفضي إلا إلى تكرار ما حصل في العام 1987، (الانتفاضة الأولى)، وفي العام 2000، (الانتفاضة الثانية).