خبر الانتفاضة الثالثة: مصلحة لمن؟ ومسؤولية من؟ ..محمد السعيد إدريس

الساعة 09:44 ص|05 مارس 2013

بقدر ما أدرك قادة الكيان الصهيوني مدى خطورة اندلاع “انتفاضة ثالثة” للشعب الفلسطيني، في هذا الوقت بالذات الذي ترتبك فيه إدارة الكيان في مواجهة التحديات الداخلية على وجه الخصوص، بقدر ما يشعر هؤلاء القادة بقدر من الاطمئنان، وهذا الاطمئنان مصدره رهانهم على أنه مازال في مقدور السلطة الفلسطينية الموجودة في رام الله ضبط مسار الأحداث بعيداً عن نقطة الخطر، ورهانهم على أن من يحكمون قطاع غزة يدركون أن قيام هذه الانتفاضة ليست ضمن أولوياتهم، وأنهم مع التهدئة، على حد قول الصحفية “الإسرائيلية” عميرة هاس التي كتبت تقول في صحيفة “هآرتس”: إن “الانقسام هو سيد الموقف بالنسبة لقادة حركة “فتح”، فجزء منهم يدعو إلى التظاهر، وجزء آخر يدعو إلى الحذر، أما حركة “حماس” فتتحدث بصوتين: صوت وقف النار والاستقرار والتنمية حين يتعلق الأمر بقطاع غزة، وصوت الكفاح، حتى الإبادة، عندما يتعلق الأمر بأي مكان آخر” .

رهانات لها ما يبررها للأسف، والمحصلة أن الانتفاضة “الأمل” التي تفجرت في معظم أنحاء الوطن الفلسطيني المحتل كرد فعل على حزمة قوية من الأسباب والدوافع والحوافز التي كان يمكن أن تجعل منها “انتفاضة التحرير” التي أشعلها استشهاد المناضل الفلسطيني عرفات جرادات تحت التعذيب في أقبية سجن “مجدو” الصهيوني تكاد تخفت جذوتها للأسباب التي رصدها الصهاينة، ولأنها من دون قيادة أو تنظيم، ومن دون مشروع، والأهم أنها تستخدم كمجرد “أداة مساومة” مع قادة الكيان الصهيوني قبيل وصول الرئيس الأمريكي باراك أوباما إلى الكيان، في زيارته المقررة لعدد من الدول العربية وبعض دول المنطقة .

المحزن في الأمر أن قادة الكيان يدركون أكثر من غيرهم أن انفجار الشعب الفلسطيني أعمق من أن يكون نتيجة شرارة هنا أو هناك، وأنه ليس سوى تعبير عن رفض هذا الشعب للاحتلال، ومظالمه وتبدد فرص السلام وانكشاف أكذوبته، وتداعي خيار المفاوضات أمام حقيقة مؤكدة هي حقيقة الاستيطان والتوسع المستمر لتهويد كل الوطن الفلسطيني، لفرض خيار “الدولة اليهودية” على كل أرض فلسطين التاريخية من النهر إلى البحر، لكنهم رغم ذلك فإنهم مازالوا يعلقون آمالهم على أن السلطة الفلسطينية قادرة في نهاية الأمر على ضبط حركة الشارع، ومنع تطوره إلى “انتفاضة ثالثة” ببعديها الشعبي والعسكري، وأن ما تشهده الضفة الغربية من احتجاج شعبي يتحرك ضمن الهامش الذي تسمح به السلطة من تحقيق أهداف سياسية تتصل بأجندة زيارة الرئيس الأمريكي المرتقبة هذا الشهر، بغية انتزاع بعض الإنجازات، خصوصاً بعد أن تأكّد أن القضية الفلسطينية ليست ضمن أولويات زيارة أوباما التي ستركّز على ملفين، أولهما الملف النووي الإيراني، والثاني ملف الأزمة السورية، وهذا ما دفع الأجهزة الأمنية الصهيونية إلى تقديم تقديرات موقف تقول إن “السلطة الفلسطينية معنية باستمرار مضبوط لتصعيد المواجهات والاحتكاكات في المناطق (المحتلة) إلى حين زيارة الرئيس الأمريكي، وحمله على تغيير سلّم أولوياته لصالح القضية الفلسطينية عامة، والأسرى في السجون “الإسرائيلية” على وجه الخصوص” .

هذا التقدير وجد ما يؤكده، وما يزيد من جرعة التفاؤل “الإسرائيلية” التي تعززت بعد الرسالة الضمنية التي وجهها رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس بالقول: “إن “إسرائيل” تقود في اتجاه الفوضى، ونحن لن نسمح لهم بالوصول إلى هذا الوضع”، إضافة إلى مضمون هذا التصريح وما يعنيه من رفض أو تحفظ الرئيس أبومازن على اندلاع انتفاضة، فإن الأجهزة الأمنية “الإسرائيلية” تضع في اعتبارها دائماً استمرار ما يعرف ب “التنسيق الأمني” بين السلطة الفلسطينية وسلطة الاحتلال، وهو التنسيق الذي يعني التعاون بين أجهزة الأمن الفلسطينية وكل من الجيش “الإسرائيلي”، وأجهزة الأمن والاستخبارات “الإسرائيلية” في الضفة الغربية .

وخشية أن يؤدي توسع قيام الجيش “الإسرائيلي” والأجهزة الأمنية بمهمة قمع الاضطرابات والمظاهرات إلى اندلاع انتفاضة ثالثة، ولقناعة المسؤولين بالكيان بأن هناك أسباباً موضوعية تغذي فرص اندلاع هذه الانتفاضة، أبرزها توسع إضراب الأسرى عن الطعام، وما يمكن أن يؤدي إليه مثل هذا الإضراب من وفاة بعضهم، وتردي الأوضاع الاقتصادية والمعيشية، والصدمة التي أحدثها الإعلان عن تعمّد تهميش القضية الفلسطينية في أجندة زيارة الرئيس الأمريكي المرتقبة للمنطقة، وحرص السلطة الفلسطينية على تسخين الأجواء لفرض الملف الفلسطيني على أجندة هذه الزيارة، يتجه هؤلاء المسؤولون إلى اتخاذ بعض القرارات الاستثنائية لاحتواء فرص اندلاع مثل هذه الانتفاضة .

من بين هذه القرارات إرسال الحكومة “الإسرائيلية” أموال الضرائب عن شهر يناير/ كانون الثاني الماضي إلى السلطة الفلسطينية، اعتقاداً بأن مثل هذا الإجراء ستكون له آثار إيجابية، حتى لو لم يؤد ذلك إلى أن يتلقى موظفو السلطة الفلسطينية كافة أجورهم، طالما أن موظفي الأجهزة الأمنية، على وجه الخصوص، سيكون في مقدورهم الحصول على أجورهم، لأن “استقرار السلطة وقدرة أجهزتها الأمنية على تأدية دورها أمران مرتبطان ببعضهما البعض” . المعنى هنا واضح، وهو رشوة الأجهزة الأمنية الفلسطينية، وتعميق الإدراك بوجود مصلحة شخصية مباشرة من قمع التظاهرات، طالما أن ذلك يؤدي إلى استمرار الحصول على الرواتب .

هناك قرار آخر يجري التفكير فيه، وهو الإسراع في الإفراج عن عدد كبير من الأسرى والمعتقلين الفلسطينيين في الأيام المقبلة، وقبل أن يصل الرئيس الأمريكي إلى الكيان الصهيوني، في مسعى هدفه “تهدئة الخواطر”، ونزع فتيل الأزمة . من هنا جاءت اتصالات منسق أعمال الحكومة “الإسرائيلية” في الضفة الغربية اللواء ايتان دانغوت مع رئيس الحكومة الفلسطينية سلام فياض، ورئيس الشعبة السياسية والأمنية في وزارة الدفاع عاموس جلعاد مع مسؤولين فلسطينيين، وزيارته للقاهرة مؤخراً، لإطلاع المسؤولين المصريين على التطورات الأمنية في الضفة الغربية، لكن الأهم هو ثقة قادة الكيان في أن “إسرائيل” تتوقع من السلطة الفلسطينية “أن تتصرف بمسؤولية، وتمنع التحريض والعنف اللذين لن يؤديا إلا إلى تفاقم الوضع الحالي في نهاية المطاف”، على حد قول مارك ريجيف المتحدث باسم حكومة الكيان .

إن قطاعاً واسعاً من أبناء الشعب الفلسطيني باتوا على قناعة بأن ما قام به الجنرال دايتون في الضفة الغربية، بالتعاون والتنسيق مع السلطة الفلسطينية وأجهزتها الأمنية، من انتزاع وتدمير كل مقومات تفجير انتفاضة ثالثة، سيحول فعلاً دون اندلاعها، وأن السلطة الفلسطينية التي تعتمد في بقائها على ما تأذن به سلطة الكيان والولايات المتحدة من تمويل يصل إليها لن تسمح باندلاع مثل تلك الانتفاضة، وأن سلطة “حماس” في قطاع غزة لم تعد صاحبة مصلحة الآن، في ظل ارتباطها بحكم الإخوان المسلمين في مصر، لدعم فرص اندلاع انتفاضة داخل القطاع، قد تحرك ذلك في الضفة لإحراج سلطة أبومازن، لكنها لن تفعل ذلك في القطاع، وهذا بدوره يطرح السؤال الأهم: من في مصلحته تفجير الانتفاضة الثالثة، ومن في مقدوره أن يقوم بهذه المهمة؟

الإجابة واضحة وهي: الشعب الفلسطيني وحده هو صاحب المصلحة، وهو وحده القادر على القيادة، أما القيادات الراهنة فستكون حتماً خارج نظام ما بعد الانتفاضة إذا ما تحولت إلى انتفاضة للتحرر الوطني واسترداد المقدسات .