خبر أما الزبد فيذهب جُفاء... علي عقلة عرسان

الساعة 05:02 م|01 مارس 2013

اليوم يوم اللغة العربية وفق المنظمة العربية للتربية والثقافة والعلوم، واللغة أحد أهم مقومات الهوية لأية أمة من الأمم، ولكنها للعرب والمسلمين مقوم هوية وأساس شخصية ومفتاح معرفة ومدخل فقه بأمور الدين، فالقرآن الكريم جاء بعربية مبينة، والوصول إلى معاني نصوصه عبر المبانى وإلى جوهر الاعتقاد عبر فقه اللغة والشريعة.. كل ذلك يتطلب من العرب فقهاً بلغتهم ويتطلب من المسلمين ألماماً بالعربية أو تدرجاً من الإلمام بها إلى فقهها حسب موقعهم من المعرفة والوعظ والاتعاظ. وكم كنت أود لو أنني أكرس هذا الحديث اليوم للعربية التي أحب، وللبديع فيها والإبداع عبرها، بوصفها لغة تفكير وتعبير، ولغة كتاب الله للناس كافة، ولغة أهل الجنة كما جاء في الحديث الشريف.. ولكن يمنعني من ذلك، أو على الأصح يجعلني أماهي بين رغبتي تلك وما يشدني إلى الحديث فيه من حدث وموضوع ومواقف ونذر، موقعُ اللغة العربية في سورية، وموقع سورية في أمتها العربية "مكانة ودوراً وحصناً حصيناً".. فاللغة العربية هي لغة العلم والتعليم في سورية على المستويات التعليمية كافة، وسورية هي الدولة العربية الوحيدة التي تدرِّس مدارسُها وجامعاتُها العلوم كلها والمعارف والآداب باللغة العربية.. وقد بدأت سورية مسيرة ترجمة وتعريب عميقة ودقيقة وعظيمة وواسعة في هذا البلد منذ العقد الثاني من القرن العشرين، واستمرت عقوداً وعقوداً من الزمن في ذلك الأداء المتميز إلى أن بدأت تشح روافد الترجمة والتعريب في مجالات العلوم على الخصوص الآن، من الكبار الذين عملوا في هذا الحقل بجد وعزم وتصميم، ولا أقول أن تلك الروافد نضبت أو جفت، ولا أقول إن هذا المسار يمكن أن يتوقف في سورية، على الرغم من وجود دعاة. أما موقع سورية من أمتها العربية فمن المعروف أن سورية الطبيعية " بلاد الشام" كانت، بعد عهد الخلافة الراشدة، الدولة العربية التي أسست للعروبة والإسلام وثبتت أركان الدولة العربية، وفتحت أبواب العلم ونشرت المعرفة باللغة العربية، ودونت الدوواين بالعربية، وجعلت العربية لغة المسلمين، لا بالفرض بل بالحب والثقة والارتقاء بالثقافة والعلوم والآداب والإدارة والعمران والحضارة إلى درجة الريادة حتى وجد الناس، من المسلمين وحتى من غيرهم، في العربية أداة للعلم والمعرفة لا يستغنى عنها، وفي مخزونها كنوز المعارف التي لا بد من النهل منها.. وبقيت بلاد الشام " أي سورية الطبيعية" حصنَ العرب، وبقيت سورية السياسية التي أقيمت على أنقاض وحدة بلاد الشام وسورية الطبيعية، بعد تقسيم البلاد إلى دول أربع على يد الاستعمار باتفاق " سايكس – بيكو" لإقامة الكيان الصهيوني دولة لليهود في فلسطين وخنجراً مسموماً في قلب الوطن العربي عامة وبلاد الشام خاصة.. بقيت سورية السياسية حصن الشام الأول والداعي الأمثل إلى وحدة الأمة العربية، والمضحي الأكبر من أجل ذلك.. لأن في وحدة الأمة قوة وعزة وكرامة، وفي قوتها تحرير ونهضة وتنمية شاملة، وفي ذلك ردع للعدوان، ورد للغزو والطمع بالأرض والثروات، وحفظ للعروبة والإسلام من مكائد أعدائهما التي لم تتوقف ولا أظن أنها يمكن أن تتوقف عند حد.

وأكاد أقول اليوم، من ألم ووجد وقلق وفزع: " أيها العرب، أيها المسلمون.. لا تسلموا لغتكم وأمتكم لضعف والفتك والهلَع، فكما أن اللغة العربية هي أحد أهم مقومات الهوية التي ينبغي أن نحرص عليها جميعاً.. فإن سورية هي أحد أهم مقومات بقاء توجهات العرب والمسلمين نحو التحرير ومقاومة الاستعمار وتطلعاتهم وأحلامهم المشروعة بالوحدة والنهضة والتقدم الاجتماعي والحضاري.. لأن سورية حصن اللغة العربية الحصين – على الرغم مما يُصاب به هذا الحصن اليوم من تآكل – وأنها أحد أهم حصون العروبة والإسلام، فحافظوا على مقومات هويتكم وعلى حصن من أهم حصون أمتيكم العربية والإسلامية.".. وأقول هذا اليوم بشيء غير قليل من الألم والفزع كما أسلفت، لأنني أستشعر مزيداً من الخطر الداهم يزحف على سورية وشعبها وعلى دورها ومكانتها وكل ما تمثلهف ماضي الأمة وحاضرها، وأستشعر مزيداً من النزيف واستشراء الدمار.. مزيداً من موت الأطفال وتوابيت المحظوظين من الموتى الذين يجدون من يضعونهم في توابيت، أما من لا يتاح لهم ذلك فليس إلى إحصائهم من سبيل.. وذلك بعد التطورات والتحركات الأخيرة التي بدأت بلقاءات الوزير جون كيري في رحلته "الوزارية الأولى"، وتوِّجت بوعود التسليح الأميركية والأوربية والعربية بأسلحة فتاكة في مؤتمر روما الذي عقد في  28/2/2013، وبممرات آمنة، ومساعدات متنوعة تستدعي من النظام والجيش العربي السوري مزيداً من التسلح والاستعداد لما يريده الجميع حسماً عسكرياً للصراع، لن يتأتى إلا بإراقة المزيد من دم البؤساء والأبرياء من السوريين وتشريدهم وتدمير بلدهم.. إلخ، ويزيد في الطين بِلَّة ما تبع ذلك ونتج عنه من تصريحات سياسية لمسؤولين في المنطقة تلوح بحروب طائفية و" مذهبية" في سورية والبلدان المجاورة، وباستباحة المزيد من المحرَّمات على أيدي من لا يرون حلاً " لأزماتهم" إلا بالسلاح، ومن يصوبون على سورية وشعبها من كل الأطراف المنخرطة في الأزمة السورية الدامية بصورة مباشرة أو غير مباشرة.

لست ممن يخشون على سورية من التفتت أو الزوال، كما نعقت وتنعق بذلك غربان في السياسة والإعلام وأسواق الكلام، بألسنة عربية وواجهات عربية على الخصوص.. وإن كنت من ألمي ومما أراه في متابعاتي، أذهب في القول إلى أبعد من قول طرفة بن العبد الذي قال: " وظلم ذوي القربى.."، أذهب إلى قول أبي فراس الحمداني:

عَداوَةُ ذي القُربى أَشَدُّ مَضاضَةً/عَلى المَرءِ مِن وَقعِ الحُسامِ المُهَنَّدِ

 لست ممن يخشون على سورية أن تزول، فسورية ستبقى أيها الشامتون والناعقون في البواق، وسورية ستبقى أيها المتقاتلون على الحكم فوق جثث الناس وجراح الوطن، المتخندقون في متاريسكم وراء مواقفكم وآرائكم وأحقادكم ورغباتكم في " الغَلبَة"، ورؤاكم التي تسد عليكم آفاق الرؤية بغشاوات على العيون وأغشية على القلوب والعقول، فلا تريكم الحق حقاً ولا تمكنكم من شرف أن تنصروه، لأنكم لا ترون الإنسان إلا وسيلة لغاية، وتجارة لربح، ومدخلاً لأهداف خاصة، جراء أورام خبيثة تفتك بكم.. سورية ستبقى أيها السادة على الرغم من كل الساسة والنخَّاسة وتجار الدم والحروب، وعلى الرغم من أصحاب الدكاكين في أسواق الكلام.. أولئك المقدَّرة أثمان ألسنتهم وما يقولون، وأشخاصهم وما يمثلون، والمقوم ما يفعلون ومن يحركون وما يتحركون.. بالمال، صغُر المبلغ أم كبر، وبوقفة بوم وراء مذياع شوم ينادي بالخراب وينشر الخراب.. سورية ستبقى دولة حاضنة للغة العربية، لغة القرآن وأهل الجنة، ولن تحل محلها لغة أوجدتها سورية التاريخية في إبتكارها البديع للأبجدية الأولى، أبجدية أوغاريت إبداع الكنعانيين العرب، فتلك موقع افتخار تبقى وهذه، العربية، لغة الدار والوجود والقرار والقرآن والعرب وما شاء له الله وعزمه أن يلم بها أو يتقنها من المسلمين وسواهم. وستبقى سورية متمتِّعة بالهوية العربية، حاميةً لها ومدافعةً عنها، وحضناً دافئاً لأبنائها جميعاً ولكل المنتمين لأمتهم بوعي وإخلاص من العرب، وسوف يستعيد شعبها المكلوم المأزوم وعيَه وعافيته وصلاته الحميمه ومبادراته الخيرة الخلاقة وعيشه المشترك الكريم.. إنني متيقن من ذلك، ولكن سؤالي المر الذي ينشب صباراً في الحلق ويسيل حنظلاً مع الدم: ".. بعد كم من الأضاحي البشرية والتضحيات الجسام، وبعد كم من المآسي والمعاناة والتشرد والامتحانات والإهانات، وبعد كم من الدمار والتآكل والضعف والخراب..؟! وبعد كم.. وكم.. وكم من الوقت وسواقي الدم سيفضي بنا السير إلى طريق التعقل والحكمة والخلاص والرؤية التي كفلق الصبح، فيتوقف الاقتتال، ونفيء إلى الرشد، وندرك أنه لن يحل مشكلاتنا سوى نحن، بالسياسة الخالية من التعاسة وبالحوار المفضي إلى منار.. لأننا في نهاية المطاف شعب واحد في وطن هو لكل منا دار قرار وموطن استقرار، لا بديل له ولا تنازل عنه.؟! 

    إن إيماني بالله، ثم بأمتي ووطني وشعبي.. كل ذلك يدفعني إلى يقينٍ مفاده أن هذا البلاء إلى زوال، وأن الأزمة إلى نهاية، وأن البقاء للشعب والوطن، وأن الكلمة الطيبة معتصَمٌ ومنقذ وزاد.. بصرف النظر عن الادعاء والمدعين ومن يتاجر بالشعب والوطن ويروج بضائع الكلام. فلا يمكن أن يدوم وضع على حال من البؤس المفضي إلى الإحباط واليأس، ولا دوام لظم وطغيان وطغاة، ولا تبقى الغيوم الدواكن في السماء مدى الحياة.. لأن الحياة حركة والحركة تحمل التغيير.. والتغيير لا بد من أن يشمل الجميع " شكلاً ومضموناً"، وجوداً ونفوذاً وسلطة وتسلّطاً وحراكاً في هذا الاتجاه أو ذاك.. وسيتعب المتآمرون وتنكسر قناتهم وأدواتهم على صخرة الشعب الذي سيبقى ويميز، في بقائه وفي أثناء محنته وامتحانه، بين الغث والسمين، بين من يقتله ويشقيه بذريعة أنه يحرره ويحميه، وبين من يضحي من أجله بصمت من دون ادعاء ولا رغاء، وبين من يحلبه صباح مساء ويمتصه حتى العظم مدعياً أنه يحميه من جوع وخوف وبين من لا يملك إلا أن يصيح ويستريح ويكسر ألواح موسى ويركب مراكب شمشون ولا يقدم ما ينفع الناس ويبقيهم كراماً.. والشعب الذي يبقى سيميز بين من يبيعه في السوق مدعياً أنه ينقذه ويحميه ويحرره مما هو فيه، وبين من يفتك به ليتربع على جثته ويتحكم بمصيره بذريعة أنه يحفظه ويبقيه.. الشعب العربي في سورية العربية سيبقى، والكل إلى تغير وتحوّل فغثاء وزوال.. 

 

دمشق في 1/3/2013

 

                                                                         علي عقلة عرسان