خبر الدولة المتحضرة والمسؤولية ..علي عقلة عرسان

الساعة 09:53 ص|26 فبراير 2013

 

"كل دولة متحضِّرة عليها مسؤولية" هذا ما قاله الرئيس الأميركي السيء الذكر جورج W بوش حينما كان يدمر العراق، ويكوِّن حلفاً ضد المقاومة لاحتلاله وللاحتلال الصهيوني لفلسطين، ويهدد سورية بأنه أصبح جاراً لها في العراق، وأنه يستطيع.. إلخ.. وورث الرئيس باراك أوباما عن بوش مسؤولية الدولة المتحضِّرة، فقال كلاماً يصب في مجرى الحضاري والعقلاني، قال  بضرورة حل لقضية فلسطين، وبإغلاق سجن "غوانتنامو"، وبرؤية جديدة للعلاقة مع المسلمين.. ولكن أسس " التحضُّر" الأميركي الموروثة، وكما رسختها رؤية بوش، لم تسمح له بتجاوز حدودها التي تحرسها المؤسسات، فاضطر إلى نقض ما قال، وأيد إحتلال إسرائيل وممارساتها الإرهابية – العنصرية بوصفها دفاعاً عن النفس، واستمر في ابتاع نهج ازدواجية المعايير.. إلخ.. ولما كان جورج بوش لا يُسأل لأنه لا يفهم ولا يراجع مضامين ومعانى ما يقول لأنه مكلف برسالات " إلهية"، فما يقوله يوحى إليه وهو تكليف إلهي، وصليبية من نوع كنسي جديد تعاهد عليها مع توني بلير في كنيسة أميركية قبل غزو العراق بأيام.. فإننا نسأل الأميركيين الذين يفهمون، من سياسيين ومثقفين وعلى رأسهم الرئيس أوباما الوريث بالضرورة لسلفه جورج W بوش: ما هي المسؤولية الأخلاقية لدولة متحضرة أو حضارية مثل الولايات المتحدة الأميركية "يبول جنودها على الموتى، وتفتح في غوانتنامو وباغرام وأبي غريب أكبر معتقلات للتعذيب خارج أراضيها، عدا عشرات المعتقلات السرية والطيارة في بلدان كثيرة من العالم، ومنها بلدان عربية، معتبرة أن هذا يعفيها من المسؤولية القانونية ويبقيها دولة حضارية؟! وما هو الحضاري في وقوفها وحلفائها وراء استمرار نزيف الدم في سورية ومحاولات تمزيق الشعب وتدمير الدولة وبُناها؟!.. وما هي الجدوى من اعتماد العنف بدل الحوار لحل المشكلات ومعالجة جذور الأزمات العالمية التي تقف هي وراء الكثير منها، بنشرها لما تسميه " الفوضى البناءة" في هذا البلد أو ذاك.؟! وهل يجوز لها، وهي دولة لديها تاريخ أسود في كثير من البلدان منذ هيروشيما وناغازاكي وانتهاء بتدمير العراق وأفغانستان والتآمر على سورية وأبنائها جميعاً بمن فيهم أولئك الذين تغريهم بمتابعة القتال والاقتتال، مع النظام وفيما بينهم، لتصفي الجميع وترفع الكيان الصهيوني العنصري فوق الجميع.. هل يجوز لها أن تنصب نفسها مصدراً لمسؤولية حضارية أو مسؤولية دولة " متحضرة" من هذا النوع؟!

 ما جرى في سجني "أبو غريب" و"غوانتنامو" على الأقل، يُجرَّد كل مسؤول أميركي معني بصورة مباشرة أو غير مباشرة عما حصل فيهما من إنسانيته، فضلاً عن تجريد من الحضاري والأخلاقي والإنساني العام. إن الادعاء الحضاري الذي أطلقه بوش دنسه بنظر أميركيين كثر، وأثبتت الأيام أن الرؤية "الدينية" التي ينطلق منها هي رؤية مريضة أدانها الفاتيكان حين أدان العدوان على العراق، ورفض أن تكون " حرباً صليبية" جديدة.. وجاء الرئيس أوباما ليغير ويصحح ويصلح فلم يستطع، لأن الجديد الأميركي غارق وسيغرق في مستنقع القديم حيث تستقر تقاليد "حضارية" أميركية عريقة من نوع خاص، وتعلن أنها واحدة وثابتة وراسخة، وهي تمتد من الآباء المؤسسين الذين أبادوا الهنود الحمر وحضارات مثل المايا وغيرها وفرضوا التمييز العنصري والعبودية.. إلى الممارسات الأميركية العصرية التي تطال الشعوب والدول والمعايير والقيم والأخلاق بأمراضها وأضرارها وتشوهاتها، وتفتك بالصالح من العلاقات والبنى الاجتماعية والروحية والثقافية لكثير من المجتمعات والدول والشعوب، منذ ذلك التاريخ وحتى يومنا هذا.. وتعبر عن نفسها في سياسات تزدري الأخلاقي والإنساني والحضاري في العمق، ويزيد في الطين بلة ادعاؤها في الوقت ذاته: الحرص على ذلك الكم كله من القيم والدفاع عنها وحمايتها و..إلخ!!.. وتلك ازدواجية نوعية تضاف إلى الازدواجية المتأصلة في العمق البراغماتي الأميركي القائم على المغامرة، وعلى مبدأ: "افعل ما شئت ولكن إنجح، فالنجاح يكتب يفسر الوقائع ويصنع الحقائق ويكتب التاريخ كما يشاء الناجحون!؟!

ماذا تفعل الولايات المتحدة الأميركية وذنَبُها البريطاني اليوم في العالم غير أن تتابع فصول العدوان والتآمر والنهب وفرض الهيمنة ومحاصرة المستقل فعلياً من الدول والشعوب والإرادات والأفكار لجعله وأهله يخضعون للمشيئة الأميركية ويستظلون بهيمنتها؟؟ بينما تتابع هي العمل على تخريب قيم الشعوب وثقافتها بذريعة أنها تنشر الحداثة والقيم والثقافة والحرية والديمقراطية و.. إلخ، أي تلك التي تراها هي كذلك من وجهة نظرها وتحقيقاً لمصالحها ومن زاوية رؤية عينها الشوصاء.. إنها تنطلق من العنصرية وتناصرها، وتنشر الفوضى المدمرة وتسميها "خلاقة"، لتصل إلى ما تريد.. وتمارس الإرهاب بكل صوره، وتحتضن إرهاباً يخدمها وتلاحق آخر يقومها، وكل ذلك حسب مقاييسها ومصالحها.. وتلاحق دولاً وقوى مقاومة وحركات تحرر تعمل على تحرير المحتل من أرضها والمستلَب من إرادتها وحقوقها، وتدافع عن نفسها ضد الاحتلال والإرهاب والعنصرية والجشع الأميركي غير المسبوق عالمياً.. تفعل الولايات المتحدة ذلك حين يتصل الأمر باحتلالها هي وبما يقوم به حلفاؤها من عدوان؟!.. وخير ما يقدَّم من نماذج تخصّنا وتهمّنا نحن العرب، موقف الولايات المتحدة الأميركية من قضيتنا المركزية، قضية فلسطين، وما يتصل بها، وموقفها من الاحتلال الصهيوني ومن يرفضه ويقاومُه من الفلسطينيين والعرب والمسلمين.. ويمكن تلخيص استراتيجية أميركية – صهيونية ثابتة حول ذلك في أسطر تضج بعنجهية متعالية وسخرية مرة، نصوغها على شكل رسالة قصيرة تعبر عن مسارات مؤلمة طويلة على هذه الطريق، وذلك بمناسبة زيارة الرئيس أوباما لفلسطين المحتلة قريباً.. ليطرح من جديد "حل الدولتين"؟! ولنفترض، بمناسبة قرب تولي تسيبورا ليفني " تسيبي" ملف التفاوض مع الفلسطينيين، بعد تشكيل حكومة نتنياهو الجديدة، أنها ستقول لهم كما قالت بوصفها وزيرة خارجية في أثناء مفاوضات أنابوليس، بتوافق تام مع كونداليزا رايس وزيرة الخارجية الأميركية آنذاك: [[.. إلى الفلسطينيين والعرب ومن يعنيهم أن يعرفوا ويفهموا..

أهلاً وسهلاً بكم..

يسرنا أن نعلمكم أنه "لكي تقوم دولة للفلسطينيين لا بد من إقامة دولة يهودية وتحقيق الأمن لإسرائيل، وتحقيق الأمن لإسرائيل لن يتوفر مع وجود فلسطينيين، إذن أبيدوا الفلسطينيين لضمان أمن إسرائيل." هذا المنطق أول من يؤسس له ويفهمه ويوافق عليه ويدعوا إليه هم الأميركيون رعاة مؤتمر أنابوليس مع إضافة مهمة جداً وهي: "على من يريد أن يبقى حياً من الفلسطينيين أن يوافق على اتفاق جنيف 2 ويقاتل من لا يوافق عليه، تنفيذاً لخريطة الطريق ورؤية الرئيس بوش." وأن يقبل بالتعويض عن حق العودة.ـ وتقدر التكلفة الأولية بين 55 و85 مليار دولار ثمن فلسطين والشهداء والمعاناة طوال مئة سنة.. بما في ذلك تبرئة " إسرائيل" من الدم الفلسطيني والمعاناة وكل مسؤولية من أي نوع.. يا بلاش؟ ومن لا يقبل سوف يندم وبدفع الثمن

ـ  أيها الفلسطينيون لن نبيدكم بأيدينا سوف نطلب منكم أن تبيدوا أنفسكم بأيدي بعضكم بعضاً ونحن نقدم لكم السلاح والمال والدعم المرئي وغير المرئي حتى تنجزوا المهمة بنجاح.. وعندما تنجزون المهمة على الوجه الأكمل راجعونا فنحن بانتظاركم.. عنواننا معروف في إسرائيل والبيت الأبيض، أيهما أقرب وأنسب، ونعدكم بعد ذلك بأننا سوف نبدأ معكم حواراً حول ما تبقى منكم ولكم وحول من يمكن أن يفكر بدعمكم من العرب والمسلمين.. وفي ضوء الحوار سنرى رأياً ونقرر قراراً ونكلف من يلزم بوضع الخطط والتنفيذ ودفع التكاليف.. وسنبقى معكم حتى نهاية ولاية الرئيس جورج w بوش.. وخلفه وخلف خلفه.. باي باي]]. رايس وليفني أصالة، وعن كيري ونتنياهو بالإنابة.

 

لا يمكن الوقوف على سياسة عنصرية منحازة للإرهاب والاحتلال والعنصرية البغيضة، بازدواجية معايير عجيبة غريبة، كتلك التي نجدها في المواقف الأميركية التي تشوه كل شيء، وتخرب أسس المنطق والعدل والأمن والسلام، لكي تناصر عدواناً مستمراً منذ عقود من الزمن، تصفه بأنه دفاع مشروع عن النفس وهو قمة الإرهاب العنصري المفضوح.. كما تفعل لمناصرة الكيان الصهيوني.. وتخرب كل المفاهيم الأخرى التي لا تخدمه، تلك التي يقول بها العرب والقانون الدولي وقرارات مجلس الأمن ومعظم دول العالم وشعوبه.

 فمن تُراه سوى تلك الدولة العظمى ينشر الفوض ويمارس إرهاب الدولة ويشوه الحقائق ويخلق الأزمات ليسوغ العدوان والابتزاز والانتهاك ونهب الشعوب وإضعاف سيادة الدول، ليقوم بإعادة رسم الخريطة الجيوسياسية في مناطق من العالم، لا سيما في الوطن العربي، بهدف السيطرة على الطاقة والثروة والأسواق، وفرض " إسرائيل" العنصرية دولة مطلقة اليد في ما يسمى "الشرق الأوسط"، تمسك برقاب الفلسطينيين ولقمتهم، وتتصرف بالجولان السوري المحتل كما تشاء!؟ إنها الولايات المتحدة الأميركية ومن يسير في فلكها أو يأتمر بأوامرها، ومن تتخذهم أدوات وتغريهم بالفُتاة ليدمروا أوطانهم ويسلموها قيادهم.. فتقيم منهم واجهات، وتلقي بالشرفاء والكرماء منهم في أوحال المستنقعات.؟!

الولايات المتحدة الأميركية وحدها الدولة التي تدعي مناصرة الديمقراطية وتعمل على فرضها بالدبابات واستنباتها في مناقع الدم والموت وتتاجر بها بضاعة في السوق الدولية، وتناصر الديكتاتوريات التي تعجبها وتتحالف معها وتعادي ديمقراطيات لا تروق لها، وتتخذ من حقوق الإنسان والحريات بضائع سياسية تتدخل باسمها في الصغير والكبير من شؤون الدول والشعوب.. وتحاول باسمها فرض هيمنتها وزعزعة أمن دول ومجتمعات واستقرارها، ونهب ثرواتها والتحكم بقراراتها، وتخريب ثقافاتها. ذاك نوع من القرصنة الدولية وإرهاب الدولة تمارسه قوة لا رادع لها، وهي تتحكم بمنظمات دولية وبمؤسسات على رأسها مجلس الأمن الدولي، فتفرض ما تشاء وتبطل حقانية ما تشاء، وتمارس ديكتاتورية الطغاة في بلدانهم على مؤسسات العالم في بلدها، وتجعل المنظمة الدولية مطية لها، وتتهم غيرها بشل قدرتها على العمل حين لا يخضع لمشيئتها أو حين يخالفها الرأي والرؤية والقرار!!.. إن مهمة الأمم المتحدة تتطلب، أولا، تحرير الناس من الطغيان والعنف والخنق الاقتصادي، وتحرير الدول من ذلك أيضاً.. فالبند الأول من الإعلان العالمي يبدأ بعبارة "يولد الناس كلهم أحرارا ومتساوين في الكرامة والحقوق." إلا أن هذه الحقيقة ينكرها عملياً من يمارسون إرهاب الدولة، كما ينكرها الإرهابيون والعنصريون والمتطرفون الذين يزعزعون أمن الدول ويقتلون الأبرياء ليفرضوا إرادتهم وإرادة من يحرضهم ويشجعهم، ومصالحهه قبل مصالحهم، ورؤيتهم البغيضة على الإنسانية شعوباً ودولاً ومؤسسات دولية وإنسانية.. ويشكل معتنقو هذه الإيديولوجية العنيفة، ممن يلبسون يأتمرون بأوامر "المتحضرين" ويرتدون ثياب ليخفوا شوك القنافذ في مسامات جلودهم.. يشكلون تهديدا للناس المتحضرين في كل مكان من العالم وخطراً على القيم والمعايير السليمة والحضارة بمفهومها وأبعادها الإنسانية – الأخلاقية – العمرانية، وليس التكنولوجية المحضة التي تأخذ بالقوة وبمبدأ "الغاية تبرر الوسيلة".

ولذا فإنه يجب على كل الدول ذات التاريخ الثقافي والحضاري العريق، الدول المتحضِّرة فعلاً، وتلك التي تتطلع إلى مستوى حضاري ومشاركة في بناء الحضارة الإنسانية على أسس سليمة ومتينة، أن تتعاون وتعمل معا من أجل منع المغامرين والطغاة والإرهابيين والمتآمرين من متابعة ممارساتهم الخارجة على القانون، الضارة بالبشر، المسيئة للحياة والأحياء والبيئة الروحية النقية التي تشكل الحوض الحيوي الضروري لتقدم حضاري بالمعنى الدقيق العميق، وذلك عن طريق ثباتها على قيم معايير، وربطها السياسي بالأخلاقي – الإنساني، وتعاونها للدفاع عن الحقوق والحريات والحقائق والمصالح والأوطان، وتبادل المعلومات فيما بينها حول شبكات أولئك الخارجين على القانون والقيم الحضارية، وفضح أساليبهم وأدواتهم، ومنعهم من الاستمرار في إفساد الحياة وأفراد ومجتمعات، ونشر الفوضى في دول وشعوب.ز ووضع حد لفسادهم وإفسادهم ولشراء الضمائر وإفسادها، وتسخير أدوات لتخريب المجتمعات والدول والقيم والثقافات، ونشر فكر موبوء، وخلق بيئات سياسية وسلطوية واجتماعية و" ثورية ملغمة بالتخلف والجهل والشر.. فاسدة ومفسدة. ومحاسبة عملاء تلك الجهات وأعوانها وأدواتها أمام العدالة بنزاهة وصرامة، وإعادة تأهيل أفراد وشرائح اجتماعية أفسدها أولئك أو شوهوها بوسائلهم وأساليبهم وإغراءاتهم، فغدت عبئاً على مجتمعاتها وأدوات تشويه وتخريب وتدمير للثقافي والحضاري والإنساني والأخلاقي والروحي، بالمعنى المفاهيمي العلمي العميق الديق المرتبط بالتوجه البناء، مدنياً واجتماعياً وثقافياً، للحياة والإنسان والحضارة.

 

دمشق في 26/2/2013