خبر مشروع صهيوني لتفتيت الوطن العربي .. د. حسن نافعة

الساعة 04:28 م|17 فبراير 2013

المشرق العربى فى مخطط التفتيت

كنت قد بدأت سلسلة من خمسة مقالات تحت عنوان «مشروع صهيونى لتفتيت الوطن العربى». فى أول مقال، نشر فى ١٣/١، قدمت لهذه السلسلة، موضحاً أنها محاولة لتقديم قراءة جديدة لما ورد فى دراسة قديمة كان أحد الدبلوماسيين الإسرائيليين السابقين، يدعى أوديد ينون Oded Yinon، قد نشرها بالعبرية فى مجلة «كيفونيم» فى فبراير عام ١٩٨٢، تحت عنوان «استراتيجية لإسرائيل فى الثمانينيات»، ثم قامت رابطة الخريجين العرب فى الولايات المتحدة الأمريكية إسرائيل شاهاك بترجمتها إلى الإنجليزية، ونشرت تحت عنوان: «الخطة الصهيونية للشرق الأوسط «The Zionist Plan for the Middle East»، مصحوبة بمقدمة وخاتمة، كما شرحت الأسباب التى تجعلنى أعتقد أنها دراسة تعبر بدقة عن حقيقة ما يدور داخل العقل الصهيونى حول مستقبل المنطقة. وفى مقال ثان، نشر فى ٢٠/١ عرضت لخطة تفتيت مصر كما وردت فى هذه الدراسة، التى تضمنت فصل سيناء عن مصر ووضعها من جديد تحت الهيمنة الإسرائيلية، وقيام دولة ذات أغلبية سنية فى شمال الدلتا، وأخرى ذات أغلبية مسيحية فى صعيد مصر. غير أن الأحداث التى شهدتها مصر، خلال الأسابيع الماضية، أدت إلى قطع هذه السلسلة، التى نستأنفها اليوم بمقال نخصصه لخطة تفتيت المشرق العربى، يليه مقال ثان عن خطة تفتيت منطقتى المغرب العربى والخليج، ثم نختتم هذه السلسلة بمقال يحاول استخلاص الدروس المستفادة فى ضوء ما يجرى اليوم فى المنطقة.

يقصد بالمشرق العربى هنا المنطقة التى تضم ما تبقى من أراض فلسطينية والأردن ولبنان وسوريا والعراق. وإذا كان اهتمام الحركة الصهيونية بتفتيت الدول أو المناطق العربية الأخرى يعود إلى اعتبارات يغلب عليها الطابع الأمنى أو الاقتصادى، فإن اهتمامها بتفتيت دول المشرق العربى يعود إلى اعتبارات يغلب عليها الطابع الوجودى والحيوى. لذا لا تكتفى المخططات الصهيونية هنا بالتطلع إلى التفتيت وإعادة رسم الحدود، لكنها تشمل التمدد الجغرافى والاستيلاء على أراض جديدة واستيطانها تمهيدا لضمها، كما تشمل القيام بتغييرات ديموغرافية واسعة النطاق، بما فى ذلك التهجير القسرى للسكان. ومن الواضح أن رؤية ينون للمشرق العربى فى الاستراتيجية التى يقترحها ترتبط ارتباطاً عضوياً برؤيته لطبيعة الدولة اليهودية وحدودها، وفى سياق هذه الرؤية يعتقد ينون أنه لا مجال للتمييز بين حدود ١٩٤٨ وحدود ١٩٦٧، لأن المهم بالنسبة لإسرائيل هو أن تكون حدودها آمنة، بصرف النظر عن موقع هذه الحدود على الخريطة.

الحدود الآمنة فى مفهوم ينون هى تلك التى تمكن إسرائيل من السيطرة على كل المنطقة الواقعة «بين النهر والبحر». والمقصود هنا ليس مجرد السيطرة العسكرية أو الهيمنة السياسية والاقتصادية، وإنما التجذر الديموغرافى، أى من خلال التواجد السكانى لليهود والذى بدونه لن يكون لإسرائيل أى مستقبل من المنظور الاستراتيجى. هذا الفهم الخاص جدا للحدود الآمنة هو الذى يحدد موقف ينون من قضية التسوية مع العرب. فهو يرفض تماما أى تقسيم للأرض أو حتى منح الفلسطينيين حكماً ذاتى، لأنه يرفض وجودهم أصلًا على أى شبر من أرض إسرائيل. من هنا معارضته التامة لاتفاقيات كامب ديفيد ولكل المشروعات الإسرائيلية التى تتحدث عن التقسيم أو الحكم الذاتى. ولأنه يعتقد أن التركز السكانى لليهود فى المناطق الساحلية، التى يقطنها حاليا حوالى ٧٥ فى المائة من إجمالى السكان، يشكل خطرا استراتيجيا كبيرا على أمن إسرائيل، يطالب بتبنى سياسة سكانية تركز على السيطرة على المصادر المائية الممتدة من بئر سبع حتى الجليل الأعلى واتخاذ الاجراءات الضرورية لتأهيل المناطق الجبلية لتصبح قابلة للاستيطان تمهيدا للقيام بعملية هندسة ديموغرافية واسعة النطاق لإعادة توزيع السكان بما يتناسب مع متطلبات الأمن للدولة اليهودية على المدى الطويل. ويبدو واضحا تماما من هذا الطرح أن متطلبات أمن إسرائيل، وفقا لهذا التصور، لا تعنى سوى شىء واحد، وهو إخلاء المنطقة الممتدة من البحر إلى النهر من السكان العرب، بمن فيهم عرب ١٩٤٨.

هل معنى ذلك أن ينون لا يعترف بوجود شعب فلسطينى أو بحقه فى تشكيل دولته المستقلة؟ لا، على العكس، فهو يعترف بوجوده وبحقه فى إقامة دولته المستقلة لكن خارج نطاق حدود إسرائيل الآمنة، أى فى المنطقة الواقعة وراء الضفة الأخرى لنهر الأردن!.. لذا لم يكن من المستغرب أن يدعى ينون أن الأردن هو فلسطين وفلسطين هى الأردن، وأن عمان لا تقل فلسطينية عن نابلس. يكفى إذن تمكين الأغلبية الفلسطينية من السيطرة على مقاليد الحكم فى الأردن لتصبح هناك دولة فلسطينية وتحل «القضية» التى فشلت حكومات إسرائيل المتعاقبة فى التعاطى معها! وبهذه البساطة الفجة لا يتردد ينون فى التضحية بأكثر الأنظمة العربية اعتدالًا فى المنطقة، لا حباً فى الفلسطينيين، لكن اعتقاداً منه أن تمكينهم من السيطرة على الدولة الأردنية يحل مشكلتهم ويحملهم على القبول بالأردن وطناً بديلاً لكل الفلسطينيين بمن فيهم «عرب ٤٨»!.. ومن المنظور العربى قد يبدو مثل هذا الطرح نوعا من الهرطقة لكنه يعكس، من المنظور الصهيونى، رؤية التيار الأكثر عمقاً وتأثيراً فى الفكر وفى تاريخ الحركة الصهيونية فى الواقع.

ولأن ينون يدرك إدراكاً واعياً أن هذا «الحلم الصهيونى» غير قابل للتحقيق إلا على جثة الدول العربية القوية أو المركزية، فقد كان من الطبيعى أن يحاول الإيحاء بأن جميع الدول العربية، التى تبدو فى ظاهرها كبيرة أو قوية عسكريا، بما فى ذلك مصر، قابلة للانهيار والتحلل إلى مكونات صغيرة وضعيفة، وبالتالى لا يمكن أن تشكل تهديدا لإسرائيل على المدى الطويل.