خبر إلى حضن سورية.. ربيع البلدان ..علي عقلة عرسان

الساعة 10:37 ص|29 يناير 2013

 

لا يمكن أن يوجد حل مُرْضٍ، يُراد له أن يستقر ويستمر ويثمر ثمراً طيباً، لأية أزمة أو قضية، ما لم يرتكز على أسس متينة وركائز ثابتة من العدل والعقلانية والواقعية. ولا يمكن أن تحقق ذلك أو تصل إليه دول أو جهات أو شخصيات ذات أهداف وغايات ومصالح تسعى إلى تحقيقها عبر أطراف الأزمة - القضية أو على حسابهم.

ولا يمكن لأي طرف أو شخص، منخرط في أزمة – قضية أو في السعي إلى حلها، أن يفلح في سلوك طريق الحل والسير فيه بثقة وأمل ما لم يكن قادراً على رؤية الآخر، سواء أكان " الخصم أو الشريك في المسعى"، بقلب لا يسكنه الحقد والانتقام، وبعين لا يغشيها التطرف والانحياز، وألا يغيب عن بصيرته المحيط وتأثيره بما فيها من سلبيات وإيجابيات.

ولا يمكن لطرف، في أزمة أو حل، أن يصل إلى أية مداخل عملية تفضي إلى نتائج إيجابية عادلة ومستقرة، وإلى نجاح وطيد، إذا كان ذا وجه وقناع، يسلك مسالك الخداع ويُظهر ما لا يُبطن.. فذاك، أو أؤلئك يصدق فيهم قوله تعالى ﭽ ﭸ  ﭹ  ﭺ  ﭻ  ﭼ  ﭽ  ﭾ   ﭿ    ﮀ  ﮁ  ﮂ  ﭼ البقرة:  وينطبق على أحوالهم قول زهير:

وَمَهما تَكُن عِندَ اِمرِئٍ مِن خَليقَةٍ       وَإِن خالَها تَخفى عَلى الناسِ تُعلَمِ

للحق وجه وللباطل وجوه، والخير إلى ثبات والشر قُلَّب، ولا يُبنى عدلٌ وأمن واستقرار على تلوُّن وتقلّب، ولا تقوم ثقة وأسس بناء على غير ثوابت وثبات، والثوابت قيم ومبادئ وأخلاق وحقوق وما يقيمها ويؤدي إليها "ثبات إيمان وثبات جِنان وثبات قدَم وثبات عزم".

ويبدأ التوجه السليم نحو بحث مخلص جاد عن حلول عملية تقيم العدل وتقوم عليه، وتتسم بالديمومة وتكتسب المصداقية وتستقطب الناس وتحظى برضاهم.. عندما يقوم بها ويتبناها أشخاص يتحلون بالمسؤولية والمعرفة والعقلانية، وينطلقون من مبدئية خُلقية وإنسانية عميقة الجذور، شديدة الرسوخ في التكوين الوجداني والنفسي، يترجمها السلوك إلى فعل ناجز، ويبذلها المرء بلا منَّة، مثل شجرة لا تعرف سوى أن تجود بثمرها، وتكون تلك الصفات والمواصفات مؤهِّلة للدور والمهمة، وقادرة على أن تحكم الخيارات والتصرفات والعواطف والمواقف والوسائل، وتختط المنهج الموضوعي الذي يؤدي إلى النجاح.

ونحن في الأزمة/الكارثة التي تطحن سورية الوطن والشعب والمكانة منذ أشهر طويلة، وتأتي يومياً على الكثير من البشر والبنى التحتية ومقومات العيش والثقة والصلات الاجتماعية وقيم المواطَنة والقيم الوطنية والقومية.ـ نحن نفتقد معظم المقومات والمعطيات والمواصفات الموضوعية المطلوب توافرها في أطراف أزمة يسعون إلى الحل وفي ساعين إلى حل أزمتنا سياسياً وسلمياً بما يحقق عدالة وأمناً وثقة واستقراراً، ونكاد نفقد الأمل في إمكانية توافر شيء من ذلك الذي يضعنا على طريق الحل السياسي السليم بثبات وحكمة وجدية وأمل، وندرك جيداً أننا نحتاج إلى ذلك حاجة ماسة ولا ندركه، وأننا من دون توافره سنبقى في الدوامة نغرق في دمائنا ونغرق بلدنا في الدماء، ونحترق ونحرق ما حولنا بنارنا، وتبقى أزمتنا تطحن وتكبر وتتدحرج ويتسع مداها لتصل إلى.. إلى ما لا يعلمه إلا الله سبحانه وتعالى.

معارضات تتزاحم في الداخل والخارج، ورايات تخفق في كثير من عواصم العالم، وخنادق وبنادق ومتاريس وحواجز وكوابس في مدن وأحياءٍ من مدن وفي بلدات وقرى وطرقات.. والاقتتال مستمر، والموت في ربيع، والخراب إلى ازدياد.. هذا وضعنا في سورية ووضع الأطراف " المتناحرة على حب الوطن"؟!.. من باريس وجنيف يرشقون دمشق بما توفر لهم من ثمر اللسان ومكنون الأنفس ومخزون الذاكرة، وبين باريس وجنيف تراشق يضاف إلى التراشق مع دمشق وولاءات تتمفصل وتتحول وتتقاتل، وفخاخ من العيار الثقيل تنصب هنا وهناك.. "أهل باريس – فابيوس" لديهم طلبات تمتد من المال إلى السلاح، وهم لا يفكرون بالحوار ولا بالمبادرات المؤدية إلى حلول سياسية، ويرفضون التعامل مع ما طرحته دمشق من مبادرات.. وما زالت طلباتهم من الجهات الرسمية السورية هي هي، أما طلباتهم من " المجتمع الدولي" فبعضها إلى تحول وتبدل وتخفيف وتلطيف، فبعد أن طلبوا بحزم وعزم "ثلاثة مليارت دولار أميركي" لتشكيل حكومة، قال قائلهم في باريس، خلال اجتماع «فني» حضره ديبلوماسيون من نحو 50 دولة: نحتاج إلى «500 مليون دولار على الأقل للتمكن من تشكيل حكومة في المنفى.. ونحتاج إلى أسلحة والمزيد من الأسلحة."، فالتوجه إذن إلى استمرار النهج القديم، وتصعيد العلميات المسلحة، واستمرار القتال.. ليستمر تدفق سيل الدم في سورية.. هذا فضلاً عن تنوع سبل الاستعداء عبر إثارة موضوع السلاح الكيمياوي وغير ذلك، ولم يتبدل موقف أو نهج هذا الطرف من أطراف المعارضة، فهو ما زال يردد من آن لآخر المطالبة بالتدخل العسكري عبر مجلس الأمن الدولي أو خارجه.. لكن يبدو أن الوزير فابيوس الذي قال: " على هذا المؤتمر أن يصدر إشارة، ولديه هدف ملموس يقضي بتزويد الائتلاف الوطني السوري بوسائل التحرك".. لديه مهام أخرى يكلف بها المجتمعين في باريس وقد حددها في كلمته بقوله: ".. أمام انهيار دولة ومجتمع تبدو الجماعات الإسلامية مرشحة إلى توسيع سيطرتها على الأرض إن لم نتحرك، وينبغي ألا نسمح أن تتحول ثورة انطلقت في احتجاجات سلمية وديموقراطية الى مواجهات بين ميليشيات".. وعلينا أن نحسن استشفاف ما وراء هذا التوجيه المموه، من أبعاد وأغراض، وربما ساعد على الاستشفاف والقراءة ما جاء على لسانٍ في إطار "جوقة الشرف الفرنسية"، هجم على المعارضة "هجوم الحرسِ" حيث دعا إلى "عدم تمكين"، أي مواجهة، من يدخلون إلى سورية بوصفها ميداناً: " للجهاد الديني تشارك فيه جميع المعسكرات الأصولية الإسلامية في العالم.".. وهذان تحديد وتوجيه يحتاج تنفيذهما إلى استخدام السلاح ولكن باتجاهات قد تختلف حولها المعارضة.. وهي تصب في النهاية في معركة تراشق الحجارة بين المعارضين السوريين في باريس وجنيف من جهة، وقد يرى فيها البعض " كلمة حق يُراد به باطل" من جهة أخرى، لأنها ستذكي نار الاقتتال على أسس دينية "طائفية ومذهبية" بصورة مكشوفة موصوفة، وهو مما تحرِّض عليه وتفيض به فضائيات وألسنةٌ مسكونة بالفتنة المطلوبة بين السنة والشيعة، لكي يرتاح أعداء العروبة والإسلام، ويستمر في تجارته وكسبه وعومه من مَرَدَ من أبناء الأمتين على ذلك منذ زمن، وتاجر بالناس وهو يتلطى بالمواقف والصحائف ويضلل من لديهم القابلية لقبول التضليل.. وما أراده الوزير فابيوس وأشار إليه المتحدث من جنيف هو، على كل حال، أمر يدخل في نقاط الخلاف بين أطياف المعارضة المسلحة وأوساطها وأطياف المسلحين كما أسلفت.. ويأتي متفقاً مع الرؤية السورية لمواجهة الإرهاب الذي تشارك فيه عناصر غير سورية منها "جبهة النصرة"، مع إعلانها المستمر في أثناء تقديم رؤيتها تلك للبعد الطائفي في الأزمة.

لم يقارب أحد من المعارضين السوريين في الخارج بإجابية علنية على الخصوص مشروع الحل الذي تعمل عليه الحكومة السورية بجدية، بعد أن بلورته وبرمجت مراحله الثلاث وأخذت تصدر القرارت وتحدد الآليات، وتعين المواقع والجهات التي من شأنها مساعدة السوريين المعنيين بالحل السياسي والحوار الوطني من جهة، وبالعودة إلى ديارهم من جهة أخرى، مساعدتهم على دخول البلاد باطمئنان وأمان مع تقديم ضمانات تتعلق بعدم الملاحقة الأمنية والقضائية، وتسهيل خروج من يريد أن يخرج بعد المؤتمر الوطني، وتقديم الدعم المادي للعائدين إلى بيوتهم من المهجرين والهاربين من القتال، ليتمكنوا من الاستقرار واستئناف حياتهم الطبيعية بيسر.

أما الجهات الدولية المعنية، لا سيما روسيا الاتحادية والولايات المتحدة الأميركية، فلم تحسم الموقف بعد ولا أظن أنها تحسمه الثلاثاء 29 يناير حين يقدم الإبراهيمي تقريره إلى مجلس الأمن الدولي.. فأوباما الذي لا يرغب في حرب جديدة يفكر ويوازن الأمور: "في ســـوريا.. نريد التأكد من أن تورطنا لا يعزز فقط الأمن الأميركي بل يفعل الأمر الصحيح للشعب السوري وجيرانه مثل إسرائيل التي ستتــأثر بعــمق"، أما الروس فيستعصي عليهم فهم اللغز الغربي "الأميركي – الأوربي"، وقد عبر عن ذلك الوزير لافروف بقوله: " نحن في إطار المباحثات التي استمرت لمدة 8 ساعات استطعنا التوافق على الإعلان، وأهم ما جاء فيه هو إلزام جميع المشاركين في اللقاء بمطالبة جميع الأطراف السورية بوقف العنف، ومطالبة الأطراف بتعيين مفاوضين للتوصل إلى اتفاق حول قوام وصلاحيات الهيئة الانتقالية.".. المحير الذي لا يحيرنا أبداً لأنه مفهوم ملموس، هو: لماذا لم يتم تنفيذ ما تم الاتفاق عليه في جنيف!؟

إنه سؤال مطروح على السوريين، كل السوريين الذين تعنيهم سورية البيت والوطن والمكانة والدور والتاريخ والحضارة.. وأظن أن وضوح الجواب على السؤال بوضح الشمس في الضحى إن لم يكن أكثر، وهو كذلك لكثيرين من المتابعين، لا سيما المنتمين إليها بقوة منهم، أما من هي لهم دار ذكريات قديمة ونتف حنين وبطاقة تعريف مضى وقتها، وبضاعة في السوق.. فلا يعنيهم الأمر كثيراً حتى لو عرفوا وأدركوا، وهم يعرفون ويدركون، وقد يعني البعض منهم أن يتحقق ما وعد به وراهن عليه و.. و.."، وقد يعني البعض منهم أيضاً أن يتشفوا بغيرهم ممن يرونهم ممزقين ضائعين في السُّبل، حيث يرون أنفسهم عندها " أذكى وأشطر وأفطن وأعلى وأرفع.. من أن يكونوا سوريين مأزومين محزونين ضائعين؟!إنهم يتشفون بطريقة بينما يحتسون قهوتهم في مكان ما.. إنهم يدركون أنه: يُراد لسورية أن تُدمر من الداخل وبيد أبنائها على الخصوص، وإذا لم تصبح دولة فاشلة فعلى الأقل أن تغدو دولة ضعيفة إلى أمد طويل، هذا إذا لم تفكك سياسياً وإدارياً نتيجة للتفكك الاجتماعي الذي يصبح نتيجة وسبباً.. وعلى هذا فهي موضوعة قيد التآكل.. والمنتفعون من هذا الوضع أو الضالعون في تدبيره واستمراره والاستثمار فيه، يتابعون سياساتهم وممارساتهم وبرامجهم وأداءهم وتجاراتهم، ولا يعنيهم كثيراً من يدفع الثمن دماً ودماراً، ولا أن يخرب بلد هو ربيع البلدان الدائم.. وإذا ما تعاطفوا مع بعض الضحايا فبدموع التماسيح تسيل كالماء وتزول كالماء.. بينما يمضون في لوك الكلام وتوجيه الملام وتصعير الخدود، والذهاب بالأمور المهلكة إلى أبعد مما وصلت إليه.

يا أبناء بلد الاستقرار الحضري الأول، والأبجدية الأولى، ومهد الرسالات والحضارة، يا أبناء الشام.. دار العرب الذين عزوا بالإسلام وعز بهم الإسلام.. ليس لكم من منقذ ينقذكم من أنفسكم ومن عدوكم إلا أنتم، وأَن يتنازل بعضكم لبعض أفضل بكثير من أن يطأطئ كل منكم رأسه لأبناء الأمم، ويتخاذل أمام حثالة البشر التي تحتل الجولان وفلسطين وتهوِّد القدس، وتستهدف الأمتين العربية والإسلامية عقيدة وهوية ووجوداً.. كفاكم ما أصابكم وما أصاب سورية والأمة بكم ومنكم.. هودوا إلى الحق والعدل والسلم، كفوا عن القتل والاقتتال والابتذال، وليقبَل بعضُكم بعضاً، وليُقبِل بعضُكم على بعض.. فإذا اتفقتم على أمر وطبقتموه بإرادتكم وكان فيه صلاح أمر البلد وأمر الناس فهو خير ولن يستطيع أن يقف بوجه ذلك أحد، لا سلطة ولا معارضة ولا حاكم ولا جيش ولا مسلح بسلاحمن أي نوع ويحظى بدعم من أيٍ كان، ولا يستطيع ذلك مستبد من أي نوع، ولا طغيان أو إرهاب من أي نوع. تعالوا إلى كلمة سواء.. لست داعية لمشروع ولكنني داعية لحقن الدم ووقف العنف وعودة البؤساء المهجرين إلى بيوتهم، إلى سلوك طريق الرشد وإعلاء الحكمة والمصلحة وحياة الإنسان وجمع الشمل واحترام البشر أحياء وأمواتاً.. يا خلق الله هناك من تنهش جثثهم الكلاب بأطراف مدن وقرى وهم من المؤمنين بالله، ألا ترعوون عن غي وتذكرون حق القتيل في قبر؟!.. تعالوا إلى كلمة سواء، إن وجدتموها في مشروع الحكومة المقدم إليكم طريق خلاص فبها ونعمت، وإن لم تجدوها فيه ولم تروا فيه طريق خلاص فقدموا مشروعاً أو تعديلاً وتوصلوا إلى ما تريدون بالحوار لا بالسلاح، الحوار طريق العقل والسلاح طريق الجنون.. احتكموا للعقل لا للغوغائية، وانتصروا بأنفسكم لا بسواكم.. وإذا كنتم لا تطيقون بقاء الرئيس الحالي رئيساً فغيروه بالديمقراطية التي تلهجون بها وترفعونها راية ومطلباً بين الرايات والمطالب، افرضوها بالأكثرية التي تملكون لا بالمدافع تطلقون.. وإذا خفتم من سوء التدبير ومن الخداع والمكر والتزوير فاطلبوا من العالم أن ينتدب من يحضر ويشهد ويراقب ويقف على الحقيقة ويدعم الحق والعدل والديمقراطية والحرية والإنسان بكل ما يعزز العدل والحرية وكرامة الإنسان. أنتم جميعاً.. جميعاً.. جميعاً: "لا تدمروا كل الفرص المتاحة للتوصل إلى حلول تجنب الناس الموت والمعاناة وتوقِف تدمير الدولة وتخريب البلد، لا تقتلوا أنفسكم وبلدكم بهذه الطريقة الوحشية العبثية الإجرامية المشينة.. لا تفعلوا.. لا تفعلوا.. إنه أكثر من الجنون ومن الإجرام ومن كل إثم يمكن تصوره.. ألا أفيقوا، ألا تعالوا إلى حضن أمكم الدافئ سورية الحضارة وربيع الأمم.. ألا كفى.. ألا كفى. 

 

  دمشق في 29/1/2013