خبر فلنَثُب إلى الرشد قبل أن.. علي عقلة عرسان

الساعة 11:13 ص|25 يناير 2013

 

الوزير لوران فابيوس تراجع بأسى عن وعده المتكرر بقرب سقوط الرئيس بشار الأسد والنظام في سورية، فقد قال يوم الخميس 24 يناير 2-13 في مؤتمر صحفي: " الوضع جامد، لا مؤشر إيجابيا مؤخراً في اتجاه الحل الذي ننشده.. والمحادثات الدولية لا تتقدم أيضا.. إن الوضع جامد في سوريا."، وبعد أن كان يطمع في استعادة النفوذ الاستعماري الفرنسي على نحو ما في سورية وعن دور في المنطقة، فضَّل البحث عن اليورانيوم بالقوة المسلحة في مالي ومن ثم النيجر، واستعادة النفوذ الفرنسي في بعض مستعمرات فرنسا الإفريقية السابقة، وقد ابتلع هو ورئيسه هولاند تناقضاً بحجم كبير تغص به الحلوق، فهما يحاربان الراية السوداء في مالي ويناصرانها في سورية، وتلك ازدواجية غربية " أميركية – أوربية" معهودة معتادة، وتنم عن سقوط أخلاقي وخلل في القيمة ومعايير الحكم على الأمور والقضايا، واتباعٍ للميكيافلية في سياسة براغمتية لا تعطي للأخلاق قيمة، حيث يرتفع حكم المصالح وسيف العدوان فوق المبادئ والقانون الدولي وحقوق الإنسان. وهذه المرة يعمل المستعمر الغربي ضد الملسمين وضد استقلالية القرار والإرادة كما كان يعمل في أي استعمره، ويحلم بالعودة إلى مرحلة الاستعمار ليحل مشاكله وأزماته على حساب الآخرين، ولكنه يتنقل من ساحة إلى ساحة، ومن المؤسف أنه يلقى في كل ساحة أنصاراً؟!. والرئيس "أوباما الثاني" قرر، في خطاب تنصيبه لولاية ثانية، أن زمن الحرب انتهى، وأن بلاده لن تخوض حروباً في العالم بل ستلتفت إلى قضاياها الداخلية.. وبدأنا نسمع من جديد تأكيد نبيل العربي للافروف على انتهاج الحل السياسي للأزمة في سورية، ودعمه لمهمة الإبراهيمي التي أوشكت على الانتهاء، من دون أن يتخلى في الوقت ذاته عن ازدواجية الخطاب من حيث الدعوة إلى التدخل العسكري عبر قرار من مجلس الأمن الدولي وعلى الفصل السابع، تحت عباءة قوة " حفظ السلام"، أو بقوة عربية من دون عباءة، " تحسم" ما لم يُحسم بعد، وفق رؤى وتوجهات وقرارت نافذة في الجامعة.

على الأرض السورية التي ضاقت بالدم والدمع والمعاناة يستمر الاقتتال بين المسلحين والجيش العربي السوري، وهناك تصميم على الحسم بالقوة، وهذا يترك الباب مفتوحاً أمام العابرين على أجنحة العنف إلى الموت والجراح والدمار.. وفي الوقت ذاته: تتابع الحكومة السورية تحويل مشروع الحل السلمي الذي طرحه رئيس الجمهورية في خطابه إلى برامج عمل، بعد أن كست الأفكار الرئيسة التي قدمها تفاصيلَ وجعلت مراحلها مجدولة، وأخذت تفصِّل لبعض التفاصيل برامج وتضع لها آليات تنفيذ كان آخرها الإعلان عن ضوابط وإجراءات تتضمن بيانات وضمانات محددة، وتسمية مراكز حدودية يقصدها من يريد من المعارضين السوريين العودة إلى سورية للمشاركة في الحوار الوطني ومن ثم العودة إلى حيث يريد، ولمن يريد العودة إلى بيته من النازحين خارج سورية.

أما المعارضات، مسلحة وغير مسلحة، فما زالت على حالها من المراوحة في المكان، عدا بعض أطراف داخلية منها قررت الانخراط في المؤتمر الوطني والحوار، وفق المراحل التي حددها المشروع – المبادرة.. وبقي من يرفضون المشروع المطروح وفكرة الحوار أصلاً، ممن هم معارضة في الداخل والخارج، على خطابهم ولسان حالهم يقول بـ " رفض الحوار وكل تفاوض قبل إسقاط الرئيس وتفكيك بنى النظام وما بناه.."إلخ، أما مشروع حكومة المعارضة التي يعمل عليها الائتلاف فيقول الخطاب المعارض المعلن بصددها: ".. هناك حاجة ماسة لتشكيل حكومة انتقالية لتحقيق الاستقرار والقضاء على الانفلات الأمني الذي تشهده المناطق "شبه المحررة.. زرنا بلاداً كثيرة وطلبنا دعما مالياً لا يقل عن 3 مليارات دولار لتشكيل الحكومة وبضمانات خطية واضحة."!؟ وتلك الضمانات تشمل الاعتراف القانوني والتسهيلات والمساعدات العسكرية لتحقيق الأهداف الرئيسة المعلنة الجامدة على حالها. وإذا كنا نعرف من الذي يمكن أن يدفع المال المطلوب ومن يساعد لوجستياً وفي التسليح.. فإننا لا نعلم من الذي سيتدخل عسكرياً بصورة مباشر لتحقيق الأهداف المطلوب تحقيقها؟ وإذا كانت مصادر التمويل المستهدَفة بالمطالبة معروفة وراغبة في تحقيق الأهداف المشتركة لها وللمعارضة معاً، فإن وضع المبلغ في رصيد قابل للصرف لم يتم ويحتاج إلى إجراءت تنفيذ وقرارات لم يعلن عنها أحدٌ شيئاً بعد. وقد دعا فابيوس إلى اجتماع " قيادي" في باريس قبل نهاية شهر يناير الحالي لمناقشة الأوضاع الصعبة؟!"، أما التدخل العسكري المسلح، والدخول بجيوش لمساعدة المسلحين في حسم الوضع في الداخل، أياً كانت مشاربهم وألوانهم وأهدافهم، بمن فيهم من صنفتهم الولايات المتحدة الأميركية إرهابيين، فهو موضوع يُعلن ويُطلب ولكنه لا يمكن أن يُنفذ عربياً، لأن كلَّ معني بذلك من العرب يحسب ألف حساب قبل تدخل من هذا النوع، ويتلمس رأسه قبل أن يفكر فيه.. والمقترح بحد ذاته ينطوي على قدر من عدم النشج السياسي والهشاشة في التفكير والتدبير والتنفيذ ما يجعله أحد الأوهام التي تبنى عليها أحلام.. أما التدخل الدولي لتنفيذ المخطط " ليبيا 2" ابتداء من " بني غازي – حلب" في سورية فقد أخفق وشبع إخفاقاً على الرغم من اللغو المستمر به، وبعد المواقف والمتغيرات الدولية الأخيرة التي أشرنا إليها آنفاً ازداد ابتعاداً عن مجرد الاحتمال، وبعد أن أصبح هم أولاند الأشد حماسة لإسقاط النظام في سورية، هو الحصول على اليورانيوم من مالي وترسيخ الأقدام السوداء من جديد في إفريقية.

لقد قرأت السلطة القائمة في سورية المشهد قراءة سياسية – اقتصادية واضحة منذ زمن، حيث قالت منذ بداية الأزمة والتحرك باتجاه مجلس الأمن الدولي في الجولة الأولى التي أسقطها الفيتو الروسي – الصيني المزدوج، قالت ما مضمونه:".. لا يوجد في سورية ما يغري الطامعين المتدخلين عسكرياً على الطريقة العراقية أو الليبية، فلا بترول ولا غاز ولا ثروات معدنية ثمينة، ولا أسلحة نووية بالطبع كذرائع، وأن سورية ستقاوم الغزو والغزاة والطامعين، وسوف يتصدى الشعب السوري للاحتلال الأجنبي إذا ما وقع..".. وهذا أحد أهم العوامل التي لم تشجع القراصنة الدوليين ومن يعتمدون مبدأ إرهاب الدولة أو إرهاب الإمبراطور كما قال تشومسكي، على الغزو المسلح لسورية، إضافة إلى مُدخلات أخرى في حسابات المتدخلين وعوامل لا ينبغي إهمالها، منها: وجود جيش سوري مدرب ومسلح مما يجعل التدخل مكلفاً بشرياً للمتدخلين -  وفي حال تأمين التمويل التام للعدوان فلن تكون هناك مكاسب مستمرة " تحرز" المغامرة – هذا فضلاً عن حقيقة أن سورية ليست ليبيا، بمعنى أن قوة العقيدة القتالية في الجيش العربي السوري قائمة وقادرة، والشعب السوري سيقاوم الاحتلال - ووجود قوى دولية ذات مواقف معارضة للتدخل العسكري في سورية لا يستهان بها، ولبعضها مصالح ورؤى ذات أبعاد دولية تنطلق من الأزمة سورية مثل روسيا والصين، وهما الدولتان العظميان المؤثرتان في مجموعة " بريكس" التي تشكل حجماً بشرياً عالمياً ضخماً بكل المقاييس، وهي كتلة تقف ضد التدخل العسكري ولها رؤى ومصالح في المنطقة واستراتيجيات وسياسات دولية - أن النار التي سيشعلها التدخل الخارجي لن تقف عند حدود سورية بل ستنتشر في المنطقة، وقد تتأذى منها " إسرائيل" العامل المؤثر في الحسابات والسياسات الغربية..إلخ..

إن الذين أجروا حساباتهم بعقلانية نسبية، رفدت حساباتهم تطورات الأمور على الأرض فأعطتها مصداقية وجعلتها أكثر عقلانية، ومن تلك الأمور في إطار التطورات أمران مهمان:

-        صمود الجيش العربي السوري وعدم تشققه، ووقوف قطاعات شعبية إلى جانب خياراته بصمود يعزز صموده، وقد تجلى ذلك طوال المدة التي مرت منذ بداية الأزمة وقد تجاوزت اثين وعشرين شهراً.

-         دخول تنظيمات وعناصر غير سورية في الصراع المسلح، وهي ذات أهداف وبرامج ووسائل تختلف عما تصور بعض المخططين والمتحالفين والمنفذين، وعما أعلنوا وقرروا، ومنها جبهة النصرة بمشروعها المعلن، وهي التي صنفها الأميركيون مؤخراً في قائمتهم " للإرهاب"..

وفي ضوء ذلك كله قرر أصحاب الشأن والمصلحة الأعلى، من الغربيين خصوصاً، أنه حتى لو تم دفع تمويل تدخلهم العسكري بسخاء من دول عربية تعلن استعدادها للقيام بذلك، وترجمة ذلك عملياً: أن يتم القتل بمعرفة الأهل ويَقبض القاتلُ أجوره مضاعفة من أهل القتيل، وهو ما يلخصه المثل العربي المعروف جيداً في سورية: [[ من دهنو سقّي لو"، أي "من دهنه سقِّي له"]].. فإن ما يرغبون في تحقيقه، وهو بالدرجة الأولى إضعاف سورية إلى درجة إخراجها من حسابات المواجهة مع إسرائيل حاضراً وإلى مدى بعيد في المستقبل، وضرب المحور الإيراني السوري، ومحور المقاومة ضد الاحتلال الصهيوني.. يمكن أن يتحقق بوسائل أخرى على رأسها استمرار الاقتتال وتغذيته حتى تأتي النار على وقودها ومن يشعلها والأرض المشتعلة فيها..إلخ، وهو ما أصبح تحقيقه هدفاً معلناً معروفاً، فقد تبنته العنجهية المموِّلِة واستطابته الأذرع المموَّلة وطرب له من يحرضون، وغدا من بعض معلقات العرب على جدران النخوة المضلِّلة، والفتنة المظلِّلة لطائفية ومذهبية مقيتتين تنمي في رطوبتهما العفنة أحقاد وشرور، فتدمر بلاداً وتميت عباداً، وتبقى بلداناً عربية وإسلامية لحماً على وضم، وأخرى قيد تنفيذ الأهداف ذاتها وصولاً إلى النتائج ذاتها.. وهذا يريح العدو المحتل وحلفاءهم، ويفتح أذرع الضعفاء الجائعين الخائفين الممزقين شرَّ ممزق لمن يطعمهم ويحميهم ويؤمنهم ويؤيهم ويبقيهم على قيد الحياة.. بأي ثمن.؟!

الأزمة السورية ما زالت دموية مشتعلة على الأرض، وفي الداخل السوري اقتتال وحراك جاد للوصول إلى ضوء  في نهاية النفق أو إلى إحداث خرق في جدار النفق ليدخل منه الضوء، لم يفقد الناس الأمل وإن كرهوا تلبد الجو، وقد طالت معاناتهم وتنوعت وأرهقتهم. وتلك الأزمة ما زالت مدرجة على جدول حوار الدولتين الأعظم بغية التوصل إلى توافق على حل سياسي أصبح صيغة شبه معتمَدة منهما، وما زالت الأزمة في الأمم المتحدة بنداً على جدول أعمال مجلس الأمن الدولي يتصل بموضوعها وبدعم مهمة الإبراهيمي من أجل الوصول إلى حل لها.. أمَّا الذين تشغلهم الثارات والأحقاد والفتن الطائفية وينحصر اهتماهم الضيق بمن يُسقِط الآخر أرضاً، ومن يغلب على أمر الآخر " والله غالب على أمر الجميع"، فهم مستمرون في عبثهم بالدم والمصير، بالوطن والشعب، بالكرامة والعرض، بالأمة والدين.. لا يأبهون إلا بما يعتمل في أنفسهم وهو مقت يولِّد مقتاً ويتغذى على المقت.. وهذا كله سيولد احتمالات على صعد شتى، منها الغرق في فتنة مذهبية تنهض بها فضائيات هي لسان حال جهات ومرجعيات ومشيخيات وأجهزة أمنية ودويلات.. خلاصة هدفها أن تقيم حرباً بين "عمر وعلي" بعد علي ومعاوية رضي الله عنهم، وعمر وعلي هما من ذلك كله وممن يقول به براء، يريدون أن نقتل أنفسنا بسيف طائفي مستعيدين وقعات "الجمل وصفين" وأحقاداً تنوء بها قلوب كثيرين من المسلمين!! ومن تلك الاحتمالات أيضاً أن يَملَّنا العالم ويَملَّ صراعنا وقضايانا ويشمئز من عنجهيتنا وجهلنا وطائفيتنا فيشطبنا من جدول الاهتمامات العالية العادلة الجادة وينصرف كلياً إلى الاستثمار في دمنا أكثر مما يستثمر بعضه الآن، ويتركنا نخوض في دماء بعضاً بعضاً، ونعطيه مالنا لنشتري أسلحة نقتل بها أنفسنا وندمر بلداننا ونقضي على هويتنا وديننا ومذاهبنا التي "يتمترسط البعض منا خلفها ويقاتل تحت راياتها..؟!! 

إن الذين يطالبون العالم بنصرتهم على وطنهم وبعض شعبهم خاطئون، والذين يقاتلونهم على أن يؤوبوا إلى مظلة الوطن، بوصفه مظلتهم، مخطئون وأكثر.. وعلى كلٍ أن يراجع ذاته وحساباته، ويسلك الطريق التي تؤدي إلى الأصلح والأسلم والأنفع.. وليست هي بالضرورة طريق أي منهما، وليست قطعاً طريق الدم والدمار والحقد والقتل.. إن كلاً من الفريقين ازدرى الوطن والمواطن والمواطَنة على نحو ما، وقتلَ الناس باسم الناس، لكنه  قتل لشهوة ما ولغرض ما في نفس يعقوب.

ها إننا في سورية، وعلى هذه الأرضية الواقعية الدامية: سلطة ومعارضات، نقوم.. شئنا ذلك أم أبينا، بتدمير بلدنا وشعبنا وإضعاف وطننا ونؤسس لتخلفنا من جديد في نهاية المطاف.. وفي هذا المناخ ينمو الحقد والموت والجهل، وتموت الحرية والديمقراطية والعلم والمعرفة والحقوق وقيم الإنسان، وفيه ترتفع قيمة كل السلع والمواد والأشياء والأفعال والساقط من الأشخاص والأقوال، وتتراجع إلى الوراء بل تسقط قيمة العقل والإنسان، ويصبح الوطن مستباحاً، والكثيرين من المواطنين والمواطنات نهباً للذعر والإرهاب والحاجة والمقت ولنوع مهين من الاستباحة والاتجار كما هي الحال في مخيم الزعتري على سبيل المثال.

فليثُبْ الآن إلى حضن الوطن ومرجعيته ودفئه والأمان فيه من يثوب، وليدخلوا في السلم كافة بوصفهم مواطنين متساوين في وطن هو للجميع.. وليَؤبْ إلى أصول المواطَنة والعقل والضمير والإيمان والحكمة من يهمه أن يؤوب، قبل أن يرينَ علينا جميعاً الدم المهراق بسيف الحقد والحماقة والجاهلية والعنجهية والجهل، وقبل أن تنتفخ رئة الفتنة التي ترفع رأسها في وطننا وينضم إليها أهل العراق، ونغرَق جميعاً ونُغرِق أمتينا العربية والإسلامية في ظلمات ما بعدها من ظلمات.

دمشق في 25/1/2013

 

علي عقلة عرسان