خبر هل كان كل هذا بين ظهرانينا؟! ..علي عقلة عرسان

الساعة 08:06 ص|22 يناير 2013

يتساءل الكثيرون منا اليوم، وهم يرون ويسمعون ويتابعون ما يجري في مدننا وقرانا وأماكن " نزوحنا" لمن هم مواطنونا وشركاء الدم والمصير، ويقفون على ما يتبدى من سلوك أشخاص سوريين، في داخل البلاد وخارجها، على مستويات مختلفة: حيث "يَقتلون ويُقتلون ويدمرون وينهبون وينهكون بلدهم ويشوهون صورته ويفقرونه ويضعفونه.. يغتصبون النساء " عرضهم"، ويجندون الأطفال، ويستغلون المحتاجين من الناس، ويتاجرون بالوطن وبرغيف خبز المواطن وبأمنه، غير آبهين بإنسانيته وحقه في الحياة.. يتساءل الكثيرون منا: أين كان كل هذا الذي يطفح اليوم على جلدنا ويتناثر دمامل وتشوهات في بدننا.. هل كان حقاً فينا وكان منا!؟ وهل هؤلاء من مجتمعنا الذي كنا نباهي به العالم؟ وهل كان أحد منا يتصور أن بين ظهرانيناً أشخاصاً ينحدرون إلى هذا الدرك البهيمي المتوحش من السلوك وينطلقون في تعاملهم مع القيم والمفاهيم والوقائع والأحداث والأشخاص بانعدام ضمير ومسؤولية وانحدار ووحشية وغوغائية تأتي على الإنساني والعقلاني والأخلاقي فينا!؟ هل هؤلاء في كل المواقع سوريون منا وكانوا يعيشون بيننا وينتمون إلى عالمنا ويحملون همومنا وتطلعاتنا وآملنا وأحلامنا فعلاً؟! وأين كانوا يختبئون، وتحت أية أقنعة كانوا يتخفون بين الناس!؟ إنهم جزء من الصورة والمشهد والهوية سواء أقبلنا ذلك أم رفضناه.. فهل هذا جزء من تكويننا الاجتماعي والقيمي والوطني والقومي يا ترى؟! وهل ما نتغنى به من قيم ومستوى " حضاري" وتعاون وتعايش، في بلد كان من أزهار بستان البلدان، هل كان ذلك مجرد وهم وادعاء، أم كان مراهم تغطي الجلد ولا تكاد تخترق مسامه، ولا تستقر عليه للحظة عندما تلفحه ريح؟! يتساءل كثيرون منا أسئلة مرة وهم يتابعون ويعيشون بعض الحوادث والممارسات والفصول المخزية من التصرف والسلوك وأحكام القيمة على الأوضاع والأشخاص والتدابير والتصرفات، وفي عيون البعض منهم دمع، وفي قلوب الكثيرين حسرة وأسى، وعلى كل الألسن أسئلة مرة محيرة تتعلق بالنتائج والعواقب، بالمستقبل والمصير..

وفي مواقع أخرى من الوجه الاجتماعي – السياسي – الاقتصادي.. إلخ، حيث يوجد من يفترَض فيهم أن يعرفوا ويستشرفوا ويتصرفوا.. تطرح على استحياء قضية التربية والثقافة ودور المثقفين والمفكرين والمبدعين، وما يتوجب فعله لمعالجة آفات تطال التكوين والوعي والمعرفة والإدراك والمنطق والقيم والمعايير التي تحكم الأفعال والأشخاص والتصرفات والتوجهات.. والقلة القليلة التي بدأت مقاربة أسئلة من هذا النوع تتحلى " بفضيلة" أنها استيقظت متأخرة جداً جداً على قضايا وضرورات هي من أهم وأخطر وأولى ما يترتب على الساسة والمسؤولين والمعنيين بأمور الدولة والمجتمع أن يضعوه في أعلى سلم الأولويات وعلى رأس ما يحكم السياسات والخيارات والميزانيات وما يحكمهم من اعتبارات.. أما الشرائح الأوسع في قطاعات مسؤولة بدرجات متفاوتة عن سلامة التكوين الفردي والأسروي والاجتماعي، وعن دور التربية والثقافة والإعلام في هذا التكوين وفي ترسيخ مفاهيم المواطَنة الحقة وواجباتها وحقوقها.. إلخ فما أظن أنها استيقظت من سبات، أو أنها اقتنعت بأن للثقافة دوراً بنوياً أكبر وأخطر وأهم بكثير مما تصورت وقدرت ودبرت ونفذت، وأن ذلك هو الأولى بأن يُعطى الأهمية بامتياز وموضوعية ومعيارية معرفية وأخلاقية ووطنية عالية، وأن يُقدم بمراحل على دور "الطبالين والزمارين والمهرجين والانتهازيين " والثوريين الغوغائيين" والشعاراتيين.. وكل من يشكل بطانة وحاشية وماسح جوخ، ويزين صوراً وسلوكاً، ويشوه صوراً وسلوكاً، ومن يحتلون مواقع مؤثرة في تكوين الرؤى وصناعة القرار، بحكم أنهم ينفخون وينتفخون لا أكثر ولا أقل.

من المؤكد أنه حين تكون المعايير فاسدة والتراتبيات مختلة والشخصيات مهتزة.. يحدث خلل في الجسم السياسي والاجتماعي، ويأخذ بالتنامي حتى يصبح مرضاً خطيراً ويستشري فساداً مهلكاً، ومن ثم يفسد القيم والأحكام بإفساد الأشخاص والعلاقات والمناخ العام الذي تتخذ فيه التدابير والقرارات والتوجهات، وهي لا تعالج بالضرورة أمراض المجتمع ولا تتقدم به بل تفسده أو تزيده فساداً.. ولا يستطيع حاكم مهما أعطي من العلم والحلم والقدرة أن يملك العصمة وإن أدعى ذلك، فلا يوجد الحاكم العليم الحكيم المعصوم الذي يعرف كل شيء ويقدر على كل شيء ويتابع كل شيء ويتمتع بكل القدرات التي تجعل من كل ما يصدر عنه عادلاً وصحيحاً ومفيداً وصالحاً ومصلحاً بالفعل وليس بالتهويل والتأويل.. ومن ثم فإن المجتمع الأقرب إلى الصلاح والإصلاح يُحكم بمؤسسات لا تحكمها أجهزة أو جهات حاكمة، كثيراً ما تكون مخترَقة بأشكال عدة ويصدر النافذون فيها عن مرض اجتماعي مقيم أو ولاء أعمى وهوى مضلل، والأغلب الأعم في حالات كهذه أن تقوم تلك المؤسسات على تعالم الجهل وتعالي الانتهازيين و"صدقية؟!" الكذبة والمدعين الذين يصلون بادعاء والاقتدار وقربات الولاء إلى أماكن تمكنهم من التحكم، أو يضعهم فيها من يرى أنه الحاكم الصالح الآمر الناهي المطلق اليد في شؤون الناس الذي يرى أنه يحتاج إلى من يثق بهم وليس لمن هم أهل للثقة بالضرورة.. وهذا بفرض أنه في سياساته وأحكامه واختياراته لا تحكمه أمراض اجتماعية من أي نوع.. أما إذا كان مصاباً بنوع من تلك الأمراض فحدث عن الخلل والخطل والأذى والتخريب والضرر والضياع ولا حرج.

إننا اليوم في حال المريض، نبحث عن طب وعلاج وتمريض، في الوقت الذي لا نجد فيه الوقت والإمكانيات والمناخ الملاءم لمن حالته تلك الحالة ويطلب الشفاء ويحتاج إلى شروطه ومناخه ومقوماته.. فمن أين نبدأ يا ترى والحال هو هذا الحال.؟! إن تشخيص المرض مدخل المداخل إلى العلاج، والتشخيص يقوم به عارفون متمكنون قادرون ومخلصون، وهم لا يستغنون عما يقدمه لهم المريض من معلومات ووصف لحالته وتحديد لما يشكو منه، فذاك رافد من أهم روافد التشخيص، وأظن أن الطبيب الذي يعرف لغة المريض وبيئته ومحيطه وظروف حياته ويعايشه ويتحسس آلامه.. هو أقدر من سواه على فهيم المريض وكشف اضطراباته وتشخيص مرضه ووصف العلاج له والأخذ بيده إلى التعافي.. ولأن في حالتنا المرضية الراهنة عوامل تسميم وتلوث وتدبير خارجي ضار، فلا بد من تعزيز المناعة والمقاومة، وقطع روافد المرض بعد كشفها، والانطلاق من حقيقة أنه لا يشفينا ولا يصلحنا، ونحن في وضعنا هذا، إلا نحن، وأنه من العوامل المساعدة على ذلك أن نثق بمن نكل إليهم هذا الأمر من بيننا، بعد تبصر وتدبر وحسن اختيار، وأن نتوجه كلياً وبإخلاص ونقاء وأمل إلى مرحلة من الأداء والتعاون تحقق لنا الشفاء والتعافي شيئاً فشيئاً ومرحلة بعد مرحلة. وفي وضعٍ مركَّبٍ ومتداخلٍ ومعقدٍ مثل وضعنا لا يتوقف الأمر على ما يخصنا فحسب بل يتعداه إلى غيرنا، فالمناخ العام والمحيط عاملان مؤثران فينا، ووضعنا المرضي عامل مؤثر في المناخ والمحيط من حولنا، وهكذا يمكن أن تتداخل الدوائر وتتسع لتصبح بوسع فضاء بشري أشمل بعضه من بعض.  

            ويبدو لي أن كل ما يبني الإنسان جسدياً ونفسياً واجتماعياً وروحياً يكون مصلحة بشرية عامة ومسؤولية إنسانية مهمة، ويبقى في صالح الحياة والتقدم والاستقرار والازدهار ويشكل الرصيد الإنساني والحضاري الحق، ومن ثم يمكن القول إنه يدخل في الأخلاقي والحقّاني والحيوي والبنيوي: فهو أخلاقي من حيث القيمة والمبدأ والسمو، وهو حقّاني من حيث العدل واحترام ما ترتبه الحقوق، وهو حيوي من حيث أن صحة البنية الفردية التي ترتبط بصحة البنية المجتمعية والثقافية وبسلامة مناخ العيش والعلاقات المتبادلة بين الأفراد والمجموعات البشرية، سواء أكانت أمماً وشعوباً أم دولاً ومناطق إقليمية.. وما يبني المجتمع يبني الفرد، والعكس يمكن أن يكون صحيحاً، وما يبني الجماعة يبني الدولة، إلا في حالة وضع فرد لنفسه أو مجموعة بشرية أو دولة لنفسها فوق الآخرين بالقوة والطغيان والجهالة والغطرسة العنصرية، وقيام أفراد وفئات ببناء ذات فردية أو جمعية متضخمة على حساب المجتمع ومصالحه، أو بناء جماعة أو سلطة في دولة لذاتها المتورمة على حساب حضور الأفراد الآخرين وحقوقهم وحرياتهم، أو على حساب مصالح شعوب ودول أخرى " في حالات تورم الدول وغطرستها" وعلى حساب علاقات الاعتماد المتبادل بين الدول واستقرار الأمن والسلام والتعاون بين الدول والشعوب على أسس سليمة.

وسلامة المجتمعات وصحتها واستقرارها وازدهارها.. إلخ، كل ذلك منوط بالدول والسياسات وأحكامها وتوجهاتها ومعاييرها وأهدافها ووسائلها.. إلخ وبالثقافة ومستواها ومكانتها في الحياة الاجتماعية والسياسية، أعني الثقافة بمفهومها الشامل الذي يتضمن التربية والتثقيف والإبداع. فالسياسات تبني الأوطان والمجتمعات أو تهدمها، تعزّها أو تذلها، تصلحها أو تفسدها، تنعشها أو تميتها، وتؤثر في المحيط الاجتماعي والدولي القريب والبعيد، ومن ثم في المناخ السياسي العام الذي يحكم حياة المجتمعات والدول وعلاقاتها، ومناخ الحياة البشرية في عصر من العصور. والصلة بين الثقافي والسياسي في هذا المجال تفاعلية وحيوية ووطيدة، ولا يمكن أصلاً فصل الثقافي عن السياسي فهما يتداخلان وقد يتكاملان، ولكن ينبغي ألا تقوم العلاقة بينهما على التبعية ولا على معطيات ومقومات مرَضيَّة يداخلها وبال المصالح والفساد والإفساد والتلميع وما إلى ذلك من أعراض الأمراض، لأن الثقافي من حيث العمق والأبعاد والشمول له تأثير بعيد وعميق في تكوين السياسي من جهة وتكوين الوجدان الفردي والجمعي من جهة أخرى، وهو مؤتمن على معرفة وقيم من خلال شرف الفكر والكلمة والموقف، ومؤتمن على هوية الأمة ومستوى المسؤولية وفعالية الانتماء، وعلى رسالة ومصالح وخصوصيات هي للمجتمع، للشعب، للأمة، للوطن، للدولة، للإنسانية.. وهي للسياسي وعهده أيضاً إذا أراد أن ينتفع بها.

ولأننا نأخذ بمبدأ عدم التبعية الذي يشكل حجر الزاوية في حضور الشخصية واستقلاليتها ونموها وفرادتها في الغنى والإغناء، فإننا نرى ضرورة تكوين/ واستقلالية كتلة، أو " جبهة" ثقافية، تحرر ساحتها من التبعية أولاً لتدافع عن الحرية وتجلو مفاهيمها، جبهة وتوضح رؤاها، وتعلن مواقفها، ويتكامل جهد أعضائها فيما بينهم بوصفهم مخلصين للحقيقة والعدالة والحرية والمصلحة العليا للوطن " وللقومية في الحالة العربية"، وللمواطنة، والأمة، والقيم الإنسانية والمصالح العليا للبشر أولاً وأخيراً.. جبهة ترفع القيمي والمبدئي والأخلاقي والإنساني فوق الاعتبارات الأخرى، لا تأكل بثدييها ولا تسمح لمن هم من هذا الصنف من البشر بأن يسودوا أو يقودوا أو يشكلوا مفاهيم الناس ومعيار القيمة على المستويات المختلفة، وتوازن بحكمة بين المادي والروحي، وتعلن رأياً وموقفاً من السياسات والممارسات التي لا تنسجم والشرائع والقوانين وكرامة الإنسان وحقوقه وحرياته، ولا تحافظ على سلامة مناخ العيش وصحة البيئة واستمرار النمو المادي والروحي للأفراد والمجتمعات والشعوب.. وتكون صفاً واحداً مهما اختلف أفرادها وتنوعت مشاربهم ومواقفهم ضد الظلم والطغيان والاستبداد والعدوان والإرهاب والانحلال بأشكاله..

وعلى هذا فإن على جبهة ثقافية منشودة في هذا الإطار أن تغلق سوق الكلام الذي يفتحه ساسة أو مثقفون وإعلاميون وأجهزة من أي نوع..إلخ، وأن تدعوا إلى إغلاقه ذلك السوق لتقوم علاقة سليمة بين الثقافي والسياسي وعيارها الأعلى وحاكميتها العدل والمصلحة العليا للناس والقيم المكرسة والمرسخة في سلوك، وعليها أن تخلص لرسالة الفكر والكلمة، وتثبت حضورها وفعاليتها واحترامها لدى الجمهور المتلقي للفكر والمعرفة والرأي ليكون درعها الواقي وحاميها، وتثبت حضورها الكريم المقتدر في لدى صانع القرار.. جبهة لا يطعن أي من أعضائها وأطرافها ظهر الآخر، الشريك في الأهداف، ولا يسلمه أو يخذله مهما كانت التوجهات والأيدلوجية وخلافات الرأي، ولا تبيح الأساليب المتردية قيمياً في العمل والتعامل والتعبير، وتقف بوجه الظلم والقهر والبؤس والابتزاز والسياسات المتحللة من كل مبدأ وقيمة وخلق ومسؤولية، لأنها تأخذ على عاتقها رسالة الثقافة والكلمة، وتعمل وفق سلم قيم ومعايير سليمة للتعامل والتفاعل والتواصل مع من يطلب المعرفة ويحتاج إليها، ومع من ينبغي أن تشكل له المعرفة رافعة للرأي والقرار والحكمة والمستوى المعيشي والحضاري.. وعليها أن تَثبت على مبادئ ومنهج وقيم، وأن تعمل على تجسيد ما تنادي به في السلوك والممارسات وترسخه في التكوين الفردي والجمعي لتكون قدوة في القول والعمل، وتقود باتجاه تحقيق الأهداف المنشودة.

 

دمشق في 22/1/2013