خبر باب الشمس وبسام الشكعة ..علي عقلة عرسان

الساعة 11:47 ص|15 يناير 2013

 

 

 

قبل أيام معدودة زحف الليل الصهيوني الدامس بأسلحة وقيود على قرية "باب الشمس"، الأنموذج النضالي الجديد الذي أبدعه شباب فلسطينيون يقاومون جيش الاحتلال وزحف الاستيطان على ما بقي من أرض فلسطين. وبهمجية معهودة في جيش إرهاب الدولة العنصرية الصهيونية، دُمرت الخيام التي شهقت بوجه الفجر مستنكرة أن تتحول بوابة الشمس إلى ركام وحطام وجرحى ومعتقلين.. ولكن شهقتها بقيت أملاً في فضاء فلسطين المقاوِمة ولم تنغرس في أرضها عمراناً وبقاء كما تجارب إبداعية نضالية سابقة في إطار المقاوَمة السلمية ضد الاحتلال.. فسيدة القرى المبدعة في المقاوَمة، قرية بلعين، ربما كانت أكثر نماذج إبداع المقاومة السلمية الفلسطينية ديمومة في وجه زحف الظلام الصهيوني بأشكاله: "العنصرية والاستيطان والاستيلاء على الأرض والقتل والاعتقال والعدوان الهمجي الذي لا نظائر له..إلخ"، وكان آخره الزحف الوحشي على غزة.

لم تكن قرية " باب الشمس" أول الإبداع الفلسطيني السلمي المقاوِم الذي حاول الاحتلال العنصري إجهاضه، ولكنها القرية البداية التي سوف تتكرر وتتوالد نماذج إبداع ومقاومة في الإبداع، لتغرس أقداماً في تربة الأرض وتقول للعدو: " هنا كنا وهنا سنبقى" وأنت إلى زوال.. فمن حيث أتيت عدت، فلن تكون للعنكبوت في أرضنا بيوت تبقى فهنا أرض كنعان العربي، وهنا سيبقى ونحن أحفاده وأبناء أبينا الجليل إبراهيم الخليل.. أما أنتم فيهود الخزر عبء الشر على بني البشر.

منذ بداية المشروع الصهيوني في فلسطين كانت المقاومة الشعبية السلمية، فإضراب الـ 36 "أي الإضراب الشعبي المشهور عام 1936 الذي دام ستة أشهر، بوجه المشروع الصهيوني وقوة الاحتلال البريطاني التي أشرفت على تنفيذ ذلك المشروع.. كان الأول في نوعه بحجمه، واستمر الإبداع بأطياف ألوانه حتى كانت الانتفاضات الشعبية العارمة التي كانت أولاها عام 1987 وما زال الشعب الفلسطيني يبدع أساليب الصمود والمقاومة بأشكالهما، ويكرِّم الشهداء والرموز ومن يقومون بوجه العدو ويبدعون على طريق المقاومة، ويرفع الدم والشهادة راية وأهزوجة ومشاعل طريق إلى النصر والتحرير.. فعل ذلك بإبداع مع محمد جمجوم وفؤاد حجازي بالأغنية الحزينة" نادي عليهم يا شعبي نادي.. إلخ"، وحتى آخر أهازيج غزة بالنصر وإكبار الشهداء.

وهذه الأيام يقبل الشعب الفلسطيني في الضفة على الاحتفاء بأنموذج من نماذج المقاومة الإبداع، في رجل رمز لمرحلة مقاومة البلديات في الضفة الغربية للاحتلال ومشاريعه في سبعينيات القرن العشرين.. إنه الاحتفاء بالمناضل بسام الشكعة الذي يقارب في توقيته واقعة قرية " باب الشمس" من حيث الإبداع والاحتفاء، وتلك وقفات شعبية تجدد العزم، وتكرم المبادرات والمبادرين والإبداع والمبدعين من المقاومين والصامدين والمناضلين، ذكوراً وإناثاً، وتفتح الطريق أمام الأجيال لمزيد من النضال.. وفي نور باب الشمس وظلال التكريم.. أتوقف عند ذلك الرجل من نابلس الذي كان لكل فلسطين ولكل أمته العربية..

أبو نضال مقاوم من جبل النار، وهج روحه من وهج أرضه وعزم شعبه، وثباته الموحي المتألق مع معاناته الطويلة المرة يستمدان دفعاً من عدالة قضية وخيار مقاومة يقول بهما وينتمي إليهما.. هو رجل ذو موقف ومبدأ ورؤية ومنهج، أخلص لفلسطين وخلُص كلياً لها، ولم يرها إلا من منظور انتمائه الأعم والأعمق لوطنه العربي وأمته العربية العريقة بأهدافها الكبيرة وتطلعاتها المشروعة.. عايش بسام الشكعة تفاصيل قضية فلسطين من مبتداها، وشرَّشت في عروقه حتى صارت لحمة حياته وسداها، وصار حق العودة وحق تقرير المصير لهذا الشعب المكافح فوق أرضه التاريخية فلسطين، عنوانه ونسغ حياته ومحور نشاطه وشواغله العليا. هو رجل لا يحتلب ضروع قضية شعبه ليشرب ويأكل ويثري، ويرى ألا حل لها تأتي به مفاوضات تقوم على التنازلات لأن طرفها الفلسطيني أعزل ولا يتسلح بالمقاومة، بل يرى أن الحل هو بتحرير فلسطين كلها من النهر إلى البحر، لأن المحتل الصهيوني يريد فلسطين كلها ويعمل على إبادة شعبها مادياً ومعنوياً، ولا يكون الرد على ذلك المشروع العنصري = الصهيوني الإبادي بالاستسلام له وتسليمه فلسطين دولة " يهودية"، وجعله ينفذ مخططاته بأمان واطمئنان حسب مرحليات يضعها ويفرضها بكل الوسائل والسبل على فلسطينيين يعزلهم عن بيتهم العربي، وعلى أمة يدفعها وحلفاؤه الغربيون لترى إلى القضية بوصفها نزاعاً فلسطينياً- "إسرائيلياً"، وليست صراعاً عربياً صهيونياً ويهودياً ضمناً!!.. وتفعل ذلك تحت ستار المفاوضات والعمل من أجل " السلام"، بينما حقائق الأمور كلها تشير إلى أن العدو العنصري يستوطن ويعزز وجوده بالقوة الشاملة، وبامتلاك كل أنواع الأسلحة النووية والاستراتيجية والتقليدية.. وهذا يعني بوضوح أنه يؤسس للعدوان وأنه لا تعايش ولا سلام مع كيان محتل هذه صفاته وأهدافه وأساليبه ووسائله. ولذا كان جل هم الشكعة وجوهر دعوته ومحور اهتمامه جعل الشعب الفلسطيني يعي هذه الحقائق ويواجهها باستراتيجية وطنية وقومية ثابتة ومستمرة ومتنامية.. هذا هو شاغل المناضل بسام الشكعة ومرتكز تفكيره ومحور نضاله وتدبيره، وجوهر مواقفه المبدئية كما أراه، وسبب رفضه التعاون مع الاحتلال وحلفائه الأميركيين، وسبب خلافاته مع قيادات وشخصيات  فلسطينية لها رؤى أخرى مختلفة عن روآه وخياراته.

ومدخل مناضلنا الكبير إلى الحل الذي يراه ويرتضيه لقضية روى شعبُه كلَّ حرف من حروف تاريخها بالدمع والدم، هو المقاومة حتى النصر والتحرير الشامل للأرض والعودة المظفرة للشعب إلى وطنه التاريخي، ليمارس فيها بكرامة واقتدار حقه في تقرير مصيره بحرية تامة فوق تراب وطنه المحرر.. والعمل الدؤوب على جعل الشعب الفلسطيني كله يقف بثبات وراء هذا الخيار، ويجعله بالتضحيات والمثابرة خيار الأمة العربية كلها. وهذا هو أصلاً المنظور الذي قامت من أجله الإضرابات والهبَّات الشعبية والاعتصمات والثورات والانتفاضات الفلسطينية منذ وعد بلفور المشؤوم، وهو ما قامت عليه منظمة التحرير الفلسطينية ورسخه الميثاق الوطني الفلسطيني، وما يأخذ به كثيرون من الفلسطينيين والعرب، وتتأكد صحته يوماً بعد يوم وخطوة بعد خطوة، لكل من يتتبع نهج الاتفاقيات والمفاوضات والمبادرات الفلسطينية والعربية التي تخلت عن المقاومة، وأدانها بعض قادتها ووصفوها بالإرهاب في وقت من الأوقات. وقد ثبت من خلال التجربة الطويلة المرة أن المفاوضات مع الكيان الصهيوني لن تعيد وطناً إلى شعب ولا شعباً مشتتاً إلى وطنه، ولن تقدم حلولاً ناجعة لقضية عادلة بحجم قضية فلسطين وعمقها وأبعادها، ولن تحقق سلاماً دائماً ومستقراً في المنطقة.. وهي مخدر للشعب ومضيعة للوقت ومبدد لإرادة الأمة، لأنه في ظلها وبانتظارها تموت الهمم ويفسد الرجال ويتزعزع ولاء الدول العربية للقضية الأم، ويزحف الاستيطاني على القدس ومعظم الضفة الغربية، ويستمر العدو الصهيوني في تطوير قواته وقدراته وفي قضم الأرض وتهويد القدس وقتل الشعب. وعلى هذا فالمفاوضات تسفر عن مزيد من المعاناة للشعب الفلسطيني، ومزيد من التنازلات للعدو الصهيوني، وتكرس المشروع الاستيطاني – الاستعماري في المنطقة وهو المشروع الذي يستهدف كل مقومات الأمة العربية وهويتها وتقدمها ونهوضها ووجودها الحي ذاته. ومن هذا المنظور كانت قضية فلسطين قضية قومية ومسؤولية قومية ويجب أن تبقى كذلك لأن ما يملكه العدو المحتل من آلة حرب، وما يعمل على تعزيزه من قدرات عسكرية، نووية وغير نووية، أكبر من قدرات الشعب الفلسطيني وحده على إنجاز التحرير وهزيمة الاحتلال واستعادة فلسطين ويحتاج إلى قوة الأمة، ولهذا ولسواه من الأسباب الاجتماعية والتاريخية والثقافية والعقيدية..إلخ تبقى قضية فلسطين قضية قومية ومسؤولية تحريرها تقع على عاتق الأمة العربية وفي طليعتها الشعب الفلسطيني.. فهكذا كانت منذ نشأتها وهكذا ينبغي أن تبقى قضية مركزية في النضال العربي لمواجهة المخطط الاستعماري – الصهيوني الذي رسخ " إسرائيل" قلعة متقدمة للاستعمار الغربي بوجهيه القديم والجديد، وهو أعتى ما استهدفت به الأمة العربية وأحلامُها وتطلعاتها ونضال أبنائها من مشاريع الاستعمار الهادفة إلى ضرب الوحدة والتحرير والحرية والتقدم الاجتماعي والنهضة الحضارية العربية الشاملة.

هكذا أرى وأقرأ رؤية هذه السنديانة الفلسطينية بسام الشكعة لقضية شعبه وأمته، وهكذا أتقرَّى صموده في خضم الهزات التي انتابت وتنتاب الوضعين الفلسطيني والعربي، منذ مصائر جيش الإنقاذ الذي انضم إليه أبو نضال عام 1948، وردد مع استاذه الرائد عبد الرحيم محمود، بحمية وحماسة:

سأحمل روحي على راحتي        وألقي بها في مهاوي الردى

فإما حياة تسر الصديق             وإما ممات يغيظ العدا

هكذا.. منذ ذلك التاريخ المشرف إلى أوسلو المشؤومة وما سبقها على يد السادات وما تلاها من بعد في وادي عربة من اتفاقيات ومعاهدات وما توالد عن ذلك وبسببه من سياسات ومبادرات عربية جماعية تعطي العدو الصهيوني المحتل اعترافاً عربياً جماعياً به وتطبيعاً معه وأمناً تكفله له.. وتقدم للفلسطينيين قبض الريح.

تعرفت على المناضل العربي الكبير بسام الشكعة في أثناء لقاءاتنا في مؤتمرات وندوات واجتماعات جمعتنا في دمشق وطرابلس الغرب وبيروت وربما في عواصم عربية أخرى، وكان ذلك في إطار الأمانة العامة لملتقى الحوار العربي الثوري، والمؤتمر القومي العربي، والمؤتمر العربي الإسلامي، والمؤتمر الوطني الفلسطيني الذي انعقد في دمشق وترأسه هو كما ترأس اللجنة التنفيذية التي تشكلت لتتابع تنفيذ مقرراته.. وازددت معرفة به وتقديراً له من خلال متابعتي لبعض ما كتب الرجل ولنشاطه الدؤوب رغم وضع يعيق رجالاً عن الحركة.. هذا فضلاً عن متابعة أخباره ومواقفه يوم حُكم وابتعد عن فلسطين وبقي في بلاد الشام، وشدني إليه أكثر منذ ترأس بلدية نابلس في انتخابات نيسان 1976 وتعرضه لعدوان من "التنظيم الإرهابي الصهيوني السري للعنصريين الصهاينة " 2 حزيران (يونيو) 1980، حيث تم تفجير سيارته وأدى ذلك إلى بتر رجليه. وقد تطابقت رؤانا وآراؤنا ومواقفنا القومية من قضية فلسطين وفي الكثير من قضايا عربية أخرى، والتقينا أكثر في مركزية العمل القومي والرؤية المبدئية لأهمية ذلك وضرورته وتنظيمه واستمراره والارتفاع به إلى المستوى الأعلى من دون أن يمس ذلك أبعاده الإنسانية، ولذا أوافقه القول: إن " كل المعطيات المبدئية والسياسية التي يستهدي بها أي شعب على الكرة الأرضية هي أن نهوضه مرتبط بالاتجاه القومي لأنه الإطار الوطني والجغرافي والتاريخي الذي يجمع أفراد الأمة ويوحدها"، وذاك مدخل إلى الوعي والقوة والنهضة والتحرير، تحرير الإرادة والقرار العربيين من أشكل الهيمنة الخارجية، لا سيما الغربية – الصهيونية، ومن أنواع العجز والخوف وضعف الرؤية السياسية المستقبلية أو انعدامها.. والتأسيس بالوعي والانتماء لانحسار المنظور القطري الضيق المتقوقع في " أنا أولاً" التي تعني في نهاية المطاف لا أنا ولا أمتي آخراً وأخيراً؟!! وظهور مشروع تحرير بهذا المعنى والمبنى والشمول لا يكون إلا بتحرير السياسة العربية من الاستبداد والفساد والادعاء والتبعية، وإخراجها من دائرة الاحتماء بالآخرين والدخول في عباءة الهيمنة إلى الاعتماد على الشعب، والتخلص من الانتهازية والغلو والفردية المتورمة، وشرط ذلك ومدخله تحرير الإنسان العربي اقتصادياً، وتحريره من الجهل ومن كل أشكال الاستعباد والظلم والقهر والفساد والإفساد، وكل ما يشل مبادراته الخلاقة وقدراته وإبداعه ويجعله عاجزاً عن التصدي لتحديات العصر والعلم والتقانة والتنمية، ومقيداً بتخلف من أي نوع ولون.

لقد كان لمواقف أبي نضال تأثير في شرائح من شعبه، وغرس في فلسطين ومخيمات الشتات شتلات مباركة أثمرت مقاومين ومقاومات، وكان له ولزملائه المخلصين من رؤساء البلديات في الضفة الغربية ولما تعرضوا له من محاولات اغتيال وملاحقة واضطهاد من الاحتلال الصهيوني.. تأثير في الانتفاضات الشعبية وتجذير المقاومة وخيارها، فهم في مواقفهم ونضالهم ضد مخطط العدو الصهيوني المتمثل في مشروع الحكم الذاتي الذي لم يكن رفضهم له " رفضاً لشعار، بل رفضاً لكل تطبيقاته على الأرض والمجتمع، ووقوفاً ضد محاولات الفصل والعزل، ومن أجل الاحتفاظ بروح ووعي الانتماء".. وفي تشكيلهم للجنة التوجيه الوطني من أجل مقاومة مشاريع الاحتلال و" تجسيد وحدة نضال الشعب وقيادته ميدانيا".. ساهموا في التأسيس لتحرك شعبي فلسطيني غير مسبوق، كان مفتاحاً للانتفاضة الأولى التي أسست لما بعدها من تحرك شعبي فلسطيني واسع النطاق، دفع باتجاه تكوين حركات وتنظيمات مقاومة، سلمية ومسلحة، أكدت قدرتها ورسوخ قدمها في ساحة النضال والرد على عدوان الكيان الصهيوني المستمر.. وبذلك أعيد ترسيخ نهج المقاومة الفلسطينية الرافض للاستسلام والموازي لنهج التفاوض عرياً من كل ورقة ضغط مجدية بمواجهة عدو لا يفهم إلا لغة القوة.

 إن الاحتفاء بأبي نضال، سنديانة نابلس ووهج جبل النار وروح الشعب الفلسطيني الأبي، بسام الشكعة.. احتفاء برمز من رموز النضال الفلسطيني، ووفاء لشخصية وجيل وقضية، وتعزيز لخيار المقاومة ونهجها بوصفه طريقاً للتحرير والعودة، وتذكير بالبعد القومي لقضية فلسطين والمسؤولية القومية عنها، ورفد للذاكرة الفلسطينية الزاخرة بالرموز والشهداء والمناضلين والمقاومين على الأرض وفي سجون العدو الصهيوني ومعتقلاته.. وهذا الاحتفاء قبل ذلك كله وبعد ذلك كله إعلان بصوت العقل والوجدان والروح، تلهج به الحناجر، وتسطره دماء الشهداء والكلمة الموقف، إعلان يقول: " إن فلسطين عربية من البحر إلى النهر، وهي لشعبها الأصلي الأصيل مهما طالت غربته عنها واغترابها عنه، وأن النصر آت.. آت.. آت.. والمقاومة نهج وخيار وقرار وعنوان شعب وبهجة انتصار.".

تحية وتهنئة لرفيق النضال والدرب الطويل أبي نضال بهذه المناسبة العزيزة على القلب، وتحية لباب الشمس ونماذج افبداع في المقاوَمة، والمجد لشهداء فلسطين وشعبها ولشهداء الأمة العربية على طريقها، والحرية للمعتقلين، وإنها لثورة حتى النصر بعون الله.

 

دمشق في 15/1/2013