خبر الكفاح الفلسطيني بين العودة للانتفاضة وابتكار طريق النضال الجديد..حلمي موسى

الساعة 12:45 م|17 ديسمبر 2012

تكاثر الحديث في الآونة الأخيرة الحديث عن بوادر ما يمكن أن يسمى بالانتفاضة الثالثة. وأكثر معلقون إسرائيليون من الإشارة إلى ذلك بينما هدد فلسطينيون بتفجيرها في إطار ضغوطهم إما على إسرائيل أو على بعضهم بعضا. ولكن كان هناك على الدوام من أشار إلى أن عهد الانتفاضات، بمعناها الحقيقي ضد الاحتلال، ولى جراء اختلاف الظروف وتغيير صورة الاحتلال بوجود السلطة الفلسطينية. وهناك بين الفلسطينيين من أكد أن لا وجود للانتفاضة في ظل بقاء السلطة الفلسطينية وأن شرط وجودها هو عودة الاحتلال لممارسة سيطرته المباشرة على حياة الفلسطينيين.

ولذلك فإن ظواهر المقاومة ضد الاحتلال الإسرائيلي، سواء ذاك الذي لا يزال يتحكم بقطاع غزة أو يفرض سيطرته على مدن وقرى الضفة الغربية وحتى على السلطة الفلسطينية ذاتها يمكن أن تسمى أي شيء إلا الانتفاضة. فالانتفاضة، حالة شعبية، نشأت وتبلورت في صفوف الشعب الفلسطيني في ظل سيطرة إسرائيلية تامة ليس فقط على المعابر وإنما أيضا على الطرق ومناحي الحياة. وكانت الانتفاضة مشهدا يوميا عند الخروج إلى المدرسة والعمل وبعد العودة منهما وتوجهت ليس ضد قوات الاحتلال وحسب، وإنما ضد دوائر تحكمه بحياة الفلسطينيين اليومية.

ومن المؤكد أن الأهداف العامة للانتفاضة حينذاك كانت هي نفسها أو أنها تقع ضمن الأهداف العامة للحركة الوطنية الفلسطينية. غير أن الانتفاضة كانت ليس مجرد أسلوب نضال وإنما نمط حياة نجم عن واقع تشظى بوجود السلطة الفلسطينية وخروج الاحتلال ليس من الطرق والمراكز وإنما من العلاقة المباشرة مع الحياة اليومية لعموم الجمهور الفلسطيني. فقد أنتجت اتفاقيات أوسلو واقعا مشوها غدت فيه السلطة الفلسطينية ذاتها حاجزا بين هذا الجمهور والمحتل حينا وغلافا يغطي عورات ذلك المحتل حينا آخر. وصار من المنطقي الافتراض أن لا معنى للانتفاضة إلا إذا كانت موجهة ضد المحتل وأغلفته، إلا إذا انتقلت السلطة تماما من موقعها إلى موقع الجمهور من دون تردد أو التباس.

على أي حال يبدو أن الفلسطينيين بحاجة إلى نحت تعبير جديد يفسر الحالة النضالية الجديدة التي تتبلور والموجهة ضد الاحتلال في واقع متشابك وبالغ التعقيد. فمن ناحية هناك في قطاع غزة، وهو لا يزال يعتبر أرضا محتلة بالمعنى القانوني الدولي، ما يمكن اعتباره أرضا محررة مع وقف التنفيذ. إذ نشأت هناك سلطة فلسطينية بغير رضى المحتل ورغما عنه وهي تعلن جهارا نهارا أنها في موقع العداء والاشتباك معه. وهي سلطة تمر بين حين وآخر بفترات صدام وتهدئة وتحاول التشديد على أنها تريد لهذه البقعة من الأرض أن تكون منطلقا لتحرير بقية المناطق. لكن هذه السلطة تصطدم بواقع الحاجة إلى إدارة شؤون نسبة كبيرة من الفلسطينيين الباقين على أرضهم في ظل الاشتباك.

ومن ناحية أخرى هناك الضفة الغربية، التي تركز الجهد الإسرائيلي الأساسي فيها على سلب الأرض وفرض واقع الاستيطان والبانتوستانات، وهي أرض محتلة بكل معنى الكلمة. صحيح أن السلطة الفلسطينية هناك ترتدي أحيانا مظهر الدولة وتحاول التأكيد على حريتها إلا أن الرئيس الفلسطيني نفسه يقر بأن حريته مرهونة. وتحاول السلطة الفلسطينية في الضفة، استنادا إلى اتفاقيات أوسلو و«الشرعية الدولية»، المناورة محليا ودوليا لاكتساب أو لترسيخ وقائع في مصلحة الفلسطينيين.

عموما كان الجميع، بلا استثناء تقريبا، يعتقد أنه يصعب جدا بلورة حالة نضالية فلسطينية موحدة في ظل الانقسام. غير أن استمرار الانقسام وتدهور الوضع الفلسطيني قاد في النهاية إلى الضجر من ذلك الوضع والتمرد عليه بتظاهرات مناهضة للانقسام قبل حرب غزة. لكن حرب غزة وفرت الفرصة للقفز عن جراحات الماضي وللتلاقي ولإحياء الأمل بإنهاء الانقسام. كما أن نتائج حرب غزة ساعدت في تحويل الجهود التي بذلت لنيل الاعتراف من الجمعية العمومية للأمم المتحدة إلى مكسب وطني عام.

وبديهي أن ذلك كله ما كان ليحدث لولا تغير المناخ الإقليمي في ظل ثورات الربيع العربي وخلقها ظروفا، رغم آلامها، مساعدة للوضع الفلسطيني. على أن كل ذلك لم يخفف من شدة الصراع مع العدو الإسرائيلي الذي يزداد تعنتا. فالمركب الإسرائيلي الذي تعود على الإبحار، على الأقل في العقدين الأخيرين، في محيط عربي مدجن لم يستوعب بعد المتغيرات الجديدة. ولذلك فإن اندفاعته التاريخية نحو اليمين واليمين المتطرف تتواصل بشدة أكبر. والمشكلة أن هذا ليس شأنا داخليا حتى في إسرائيل وإنما هو موضع قلق إقليمي ودولي.

فهذه الاندفاعة لا تترك مجالا لما رأى العالم فيه «حلا وسطا»، سواء كان «دولتين لشعبين» أو أي «تسوية سياسية» مرحلية أو نهائية. ففي إسرائيل الحالية يهيمن يمين يجمع بين الفاشية والأصولية ويفكر بمصطلحات صدامية متشددة تجعل من شبه المستحيل التوصل إلى تسوية. ولذلك فإن الصدام السياسي وربما العسكري محتوم مع القيادة الإسرائيلية الحالية والمستقبلية. وهذا ما يلقي على الفلسطينيين أعباء هائلة لا يمكن حملها فقط من خلال الحديث عن انتفاضة ثالثة أو استمرار الوضع الراهن.

فالمطلوب ليس فقط توحيد الصفوف وإنما إعادة قراءة الواقع من جديد واستشراف الآفاق الممكنة لتطوير النضال الوطني الفلسطيني في إطار الكفاح العربي العام للتحرر من التجزئة والجهل والديكتاتورية. فلم يعد يكفي استخراج التوصيفات من الماضي وإسقاطها على الحاضر، صارت مهمة الوعي والتجديد أكثر تحديا من أي وقت مضى. وبديهي أن إنهاء الانقسام هو المدخل الشرعي لتأكيد وعي الواقع الجديد للكفاح الفلسطيني الجامع.