خبر بلغ السيل الزبى وأكثر ..علي عقلة عرسان

الساعة 12:20 م|16 ديسمبر 2012

 

لا يوجد توصيف لما يجري في سورية أصدق من أنه تدمير لها بوصفها دولة وموقف وتاريخ ومركز تعايش اجتماعي وروحي عريق عزَّ نظيره في العالم.. فبين السيارات المفخخة التي تنفجر في أي مكان وفي أية لحظة، وقذائف الهاون والطلقات العمياء، وعمليات القنص والاختطاف التي تستهدف جميعها المدنيين من السوريين بالدرجة الأولى، وبين الاقتتال المستمر في معظم مناطق سورية بمختلف الأسلحة، وما يسفر عنه من موت ودمار وتشرد وضائقات تمتد من فقدان الأمن إلى فقدان الرغيف وما بينهما كثير جداً.. بين هذا وذاك يسقط البلد العريق غريقاً في مستنقع الدم والتآمر والمكابرة والكراهية، ويظهر على جلده طفحٌ طائفي هنا وحقد معتق هناك، ويجتاحه أعداؤه بحرائق تأتي على إنسانه وبنيانه، حرائق من صنع بنيه المتقاتلين بلا رحمة ولا رادع من عقل وضمير ومسؤولية، ومن صنع يدعي أنه يناصرهم ويؤازرهم ويعزز مواقعهم بعضهم ضد بعض، فيزرع الموت والخراب والدمار بالإرهاب في كل مكان من الوطن.. وكل ذلك يجري لتحقيق نصر لمن على من، وبأي ثمن؟ وكل ذلك يتم لكي نفضي، شعباً وبلداً، إلى ماذا يا ترى.؟!

لا يوجد في سورية اليوم ولن يوجد فيها غداً منتصرون بالمعنى الحقيقي للكلمة في هذه الحرب الكريهة التي تجري على أرضية هذا الصراع المقيت.. فسورية " المنتصرة" أياً كان وجهها وتوجهها مهزومة بكل المعاني والمقاييس، لأنها ستعود إلى الوراء عقوداً من الزمن في الوقت الذي تتطلب التحديات المستقبلية والتحريرية والموضوعية تقدمها وفق متوالية هندسية لتلحق برجب التقدم وتحقق التطوير والتحديث، ولأن بناء ما دُمِّر في هذا الصراع المجنون سيكلفها، فضلاً عن التخلف والتقهقر العلمي والعملي، سيكلفهاعشرات السنين من المحن والمعاناة وإعادة الإعمار للبنى التحتية والعمران، عدا عن عقابيل الحرب وما أصاب اللحمة الاجتماعية بين بنيها من خراب..!! وسواء أتم البناء المادي المطلوب، بعد أن تضع الحرب أوزارها وينطفئ ما تبقى من نارها، سواء أتم ذلك على حساب دخلها الوطني أم بمشروع غربي على غرار مشروع "مارشال" يقدره قيمته أغرار السياسة وسماسرة الغرب بمبلغ ستين مليار دولار، يلوحون بها ثمناً للوطن أمام المستعمِرين الجدد في أسواق السياسة وأروقة المؤتمرات.. فإن ثمن ذلك سيكون " حرية السوريين وكرامتهم واستقلال بلدهم ومستقبل أجيالهم"، وستكون تكاليفه الباهظة على حساب فقراء سورية وكادحيها وبسطائها وما تبقى من الطبقة المتوسطة فيها.. وكل أولئك هم من المكتوين بنيران الصراعات في الحروب ومن المستلبين في أوقات السلم..!! أمَّا الحكام والظلَّام والمستبدون والسماسرة وهواة السياسة الجدد ومناضلوا الفنادق فلن يطالهم من الغُرْم شيء بل سيكون لهم الغنم دائماً، وسيتحولون من تجار دم ودمار في وقت الحرب إلى تجار بناء وإعادة إعمار وقت السلم، في بلد خربته الحرب وأعيته الحاجة.. وستخرج سورية مع هذا أو ذاك من " المنتصرين" من تحت الدَّلْف إلى تحت المزراب، وسيزحف الشعب السوري على بطنه عشرات من سنين ليدفع ثمن " نصر" المجانين "استدانة وبؤساً واستكانة".. أمَّا أهداف "الحرية والديمقراطية والكرامة وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية وتداول السلطة و.. وكل هذه الأناشيد التي تدغدغ القلوب والأسماع، فإنها لن تصل إلى السوريين ولن يصلوا إليها بالممارسة الفعلية النظيفة والنزيهة، وسياتي إلى سدة الحكم أو يبقى فيها ساسة يسيرون على مقتضى السياسة، حيث لا أخلاق في السياسة، وحيث يستباح القانون والإنسان على أيدي من يزعمون أنهم سيحمون القانون وينصفون الإنسان!!. سورية وحدها التي كانت تعاني ستبقى تعاني، ولكنها سيخسر فيها الإنسان والبلد أكثر وأكثر وأكثر، بسبب هذا الصراع المأفون، سيخسر شعبها البلد العريق والموقف القومي والتاريخ الزاهي والعلاقات الاجتماعية المميزة.. إلخ، سورية وحدها التي ستخسر وتنهزم وتنتكس وتدفع تكاليف الصراخ والعنتريات والدم والدمار وكل ما يجره عليها الصهاينة وحلفاؤهم وعملاؤهم والمستعمرون ومن يرتبطون بالاستعمار بذريعية تحريرها أو بذريعة الدفاع عنها بوجه من يريد اختطافها.. سورية هي الخاسر في هذا الصراع.

لا أكاد أصدق نفسي وما تسمعه أذناي وما تراه عيناي وأنا أتابع ما يجري في هذا الوطن الحبيب الحزين العزيز الذي كان زهرة أمان ومساحة اطمئنان.. وحين أتقصى ما فيه من رعب وفقر وجوع وبؤس اجتماعي وروحي وسياسي، وافتقار للحكمة والمسؤولية، وتعال واستعلاء على الحقائق والوقائع والمعارف.. ويصدمني أن أرى بعض من هو في حضيضه الوطني والمهني والمعرفي يتولى تمثيلَه لدى الآخرين، لا سيما من أصدقائه، وقد كان سمساراً وتابعاً من جهة ولا تربطه بالعروبة والإسلام، بالقومية والوطنية، بالديمقراطية والحرية.. سوى علاقة العداء والادعاء من جهة أخرى.؟!

قل إن هذا من طبائع الأمور في أوساط وبلدان وأزمان تختل فيها الموازين والقيم، ويساق فيها الناس على وجوههم إلى حتوفهم، من دون أن يكون لديهم لا الوقت ولا الرغبة ولا القدرة على التدقيق والمحاكمة وتصويب ما اعوج.. وفي سورية يحدث حتى في أوقات وأزمان، ليست هي أوقات الأزمات والضائقات، أن تطفو على السطح الاجتماعي والثقافي والسياسي والإعلامي طفاوة تستقر مثل غشاوة تصيب البصر والبصيرة.. ففي هذا البلد تولد أحياناً " معجزات" من نوع فريد، ويكاد يكون أحياناً مظنَّة لمن يبحث عمَّا جعلته العرب من المستحيلات ومطلق المفقودات أو شبه المفقودات: "الغول والعنقاء والخل الوفي".

لكن ليس هذا ما يهم ويوجع ويشغل بال المرء اليوم، بل ما ينبغي أن ينصب عليه الاهتمام من أمور عاجلة لا تحتمل التأخير، أمور وأهداف منها أمران أو هدفان منشودان: الأول "إخراج سورية من دائرة العنف الدامي وسيل الدم وزحف الدمار، إلى فضاء وقف الاقتتال والكف عن إطلاق النار بأشكاله.".. والثاني" وضع حد لمعاناة ملايين السوريين داخل سورية في المخيمات والقرى والبلدات وأحياء المدن، ومئات الآلاف خارجها في مواقع اللجوء الكثيف، في المخيمات حيث البؤس البشري بلا حدود ولا يكاد يصفه كلام. ويبدو أن الهدف الأول ينأى كلما اقتربنا منه أو تفاءلنا باقترابه، وقد وضَعَنا على مشارف الهاوية من جديد ما قدرناه وتوقعناه وحذرنا منه، لا سيما بعد الإرهاصات الإيجابية التي حملتها اجتماعات بلفاست وجنيف بين المسؤولين الأميركيين والروس والمبعوث الدولي الأخضر الإبراهيمي، أي خداعُ الساسة الأميركيين المعهود.. وهو ما يحقق أهدافهم، حيث تبقى سورية في عين العاصفة وتتوالى الاحتمالات السيئة عليها من جديد.. فقد ركز الأميركيون بعد الاجتماعات المشار إليها، أو راهنوا، على احتمال "انتصار المسلحين" في سورية على الجيش، ومن ثمة سقوط النظام، وجاء ذلك بعد أن اتفقت كلنتون ولافروف على تقديم الحل السياسي للأزمة السورية وفق مرجعية جنيف على ما عداه من حلول!!. وفي هذا الإطار يمكن أن نتقرَّى آثار ضربات سياسية، إيجابية وسلبية، متزامنة تُبقي الباب مفتوحاً على ما تقدمه ساحة المواجهة الساخنة في سورية من ترجيحات، ومن تلك الضربات الاعتراف الأميركي بالائتلاف ممثلاً شرعياً للشعب السوري من جهة وتصنيف جبهة النصرة منظمة إرهابية من جهة أخرى، وهي المسلح الفاعل الأول على الساحة السورية؟!.. ومن تحت الطاولة يستمر تسليح المعارضة أو الإيعاز به، ويستمر التدريب والتسهيلات والعمليات اللوجستية بأوامر أميركية أو بضوء أخضر أميركي، لتحقيق ما يشكل انتصاراً لمشروعها ومشروع حلفائها في المنطقة، وهو انتصار لا يمكن أن يتحقق إلا في استمرار العنف والفوضى وسيل الدم ونهج التدمير في سورية، حتى يتم تآكل كل الأطراف الداخلة في الصراع، لا سيما الجيش العربي السوري، ويتم القضاء على الدولة السورية، ومن ثم يحدث فراغ في الساحة إلا ممن تريدهم الولايات المتحدة الأميركية ويريدهم حلفاؤها هناك، وتريد سورية لهم ولها من خلالهم.

أما الأمر أو الهدف الثاني الشاغل بقوة وعمق فهو: إنساني، أخلاقي، إسلامي، وطني، اجتماعي.. لا يحتمل التأخير، وتقع مسؤوليته على الدولة السورية وعلى الأطراف المتقاتلة وعلى السوريين جميعاً بالدرجة الأولى، كما تقع مسؤوليته على من يئزّ النار ويستمر في التحريض على العنف والاقتتال، ولا يفسح مجالاً أمام وقف لإطلاق النار يمهد إلى حل سياسي للأزمة.. هذا من جهة، ويقع على الجهات المضيفة للاجئين سوريين ممن خرج منهم خائفاً هارباً، أو مرغماً باحثاً عن أمن وبقاء على قيد الحياة، أو مغرراً به بصورة من الصور.. من جهة أخرى. وهو هدف يتصل بمعاناة السوريين المشردين والخائفين والمحتاجين داخل البلاد وخارجها.

إن معاناة هؤلاء وصلت إلى درجة لا تُحتمَل ولا تُطاق، وتمتد حاجتهم من الرغيف إلى الماء إلى الغطاء إلى الدواء.. ولا نتحدث عن الكهرباء والمازوت والمواصلات والاتصالات و.. و.. إلخ، وهم يقعون في قسمين كبيرين، قسم داخل سورية وقسم خارجها، ومن هم في الداخل أقسام أيضاً، منهم من يلجأ إلى قرى ومدارس وملاعب ومخيمات وأحياء آمنة، وإلى بيوت عند أصدقاء، ومنهم من يستضيفهم العراء.. ومنهم من لديه ما يكفيه بعض الحاجة، ولكن معظمهم يعاني مر المعاناة من فقدان كل ما يتصل بضرورات الحياة وأسبابها الأولية.. وقسم من السوريين خارج سورية، يتعرض لما هو أسوأ وأشد ألماً وفتكاً بالجسد والروح والكرامة. وأولئك جميعاً سوريون يعناونون الأمرَّين، لا سيما أولئك الذين يقيمون منهم في مخيمات على الأراضي السورية قرب الحدود التركية، أو في مخيمات أقامتها لهم دول اللجوء. ويكاد يكون من الاستحالة بمكان الدخول في تفاصيل الأوضاع والاحتياجات وأشكال المعاناة لأنها صعبة ومتنوعة وبعيدة الأثر، لا سيما على الأطفال والنساء وكبار السن، حيث تنتشر بين بعضهم الأوبئة، كما ينتشر في بعض المخيمات الجرب والقمْل، ولا نتكلم عن المرض والجوع والبؤس والقهر.!!

وما هو مطلوب من السوريين بإلحاح وسرعة بالدرجة الأولى، من الدولة ومؤسساتها ومن مؤسسات المجتمع الأخرى بكل أنواعها، ومن الجيش العربي السوري، ومن المسلحين بأطيافهم وأصنافهم وصفاتهم ومواصفاتهم وانتماءاتهم وغاياتهم.. ما هم مطلوب هو أن ينهضوا سريعاً بمسؤولية إنسانية وأخلاقية ووطنية ودينية تتلخص في أن يسمحوا لكل من يريد من أولئك السوريين المشردين خارج بيوتهم وخارج وطنهم، لا سيما النساء منهم والأطفال والشيوخ، بالعودة إلى كل إلى بيته في وطنه " القرية والبلدة والمدينة.. إلخ"، وأن تكون تلك العودة آمنة بكل الأبعاد والمعاني والمقاييس، من دون أن يُسأل الواحد منهم أو يؤذى أو يخشى على حياته ولقمة عيشه وكرامته، وأن تتكفل الدولة ومعها من يقدم مساعدات إنسانية من منظمات عربية وإسلامية ودولية بالتوافق والتعاون فيما بينها، بتأمين متطلبات تلك العودة ومتطلبات بداية العيش، بتوفير مستلزماته الأولية الضرورية.. ومن ثم فإن أهل كل بيت يعرفون كيف يتدبرون أمورهم في بلدهم مع جيرانهم وأصدقائهم. فلتكن تلك أيام معدودة لله وللإنسانية والقيم والشرف والدين والمواطَنة.. أيام يقف فيها الاقتتال من أجل الحياة والإنسان الذي كرمه الله، ومن أجل الأطفال مستقبل سورية.. أيام يُرفع فيها ويرفع من بعدها، عن أماكن سكن المواطنين المدنيين، وقعُ النار وأنواعُ الدمار ووجودُ المسلحين ومسببات الموت والخوف والرعب والإرهاب، بأي شكل من الأشكال. تلك مسؤولية تاريخية وأخلاقية ملقاة على عاتق كل من تعنيه المسؤولية وتعنيه سورية وحرية الوطن والمواطن، وكرامة الأمة العربية ذات التاريخ والقيم، وكل من يعنيه وجود وطن مستقل سيد هو سورية بصرف النظر عمن يحكم، ووجود شعب كريم بصرف النظر عمن يسوس. ألا إن تلك مسؤولية مقدمة على كل مسؤولية..

والأخضر الإبراهيمي القادم إلى سورية بعد أيام، مطلوب منه أن يعمل على هذا مع كل الأطراف المعنية، لكي يحضر إلى سورية وعلى لسانه بُشرى لمن يعانون وفي يده غصن زيتون لمن يتقاتلون.. وعلى السوريين أولاً وأخيراً، بكل أطيافهم، مسؤولية أن يحقنوا دمهم، ويحفظوا شعبهم، ويبقوا على ما تبقى من وطنهم.. فلن ينفعهم أبداً أن يندبوا على ما فات بعد فوات الأوقات، ولن يوفرهم أعداؤهم، ولن يكون الصديق أرحم بهم من أنفسهم.. ألا كفى.. ألا كفى.. ألا كفى.. وليحذر الجميع ممن يتعاطون السياسة والقتل والاقتتال وأنواع السمسرة والتجارة بالسلاح والدم والإنسان والحرب.. وليحذروا من ثورة الجياع والمنكوبين والمتألمين.. ألا فيحذروا غضبة الشعب كل الشعب وثورته من أجل الخبز، وليحذروا ثورة دم الأحرار والجياع في العروق.. فقد بلغ السيل الزبى وأكثر.. وأكثر.