خبر خالد مشعل في غزة: على خُطى ياسر عرفات ..يزيد صايغ

الساعة 01:21 م|13 ديسمبر 2012

حين اعتلى رئيس حركة «حماس» خالد مشعل المنصة ليخاطب المهرجان الجماهيري في الذكرى الـ 25 لتأسيس الحركة في مدينة غزة، في 8 كانون الأول (ديسمبر)، من دون أن يخشى الاغتيال من قِبَل إسرائيل، بدا ذلك تأكيداً لمزاعم «حماس» بتحقيق الانتصار في المواجهة المسلّحة التي كانت قد انتهت قبل 17 يوماً فقط. وعبَّر مشعل عن تلك الثقة في خطابه، الذي ظهر فيه مُنافِساً لتولّي الزعامة الوطنية، وليس فقط رئيساً لـ «حماس» أو صانع قرار في غزة. وتعتقد «حماس» أنها في خطّ تصاعدي فيما تتّجه حركة «فتح» والسلطة الفلسطينية برئاسة محمود عباس في خط تراجعي لا عودة عنه.

لكن على الرغم من نشوة الفوز هذه، تواجه «حماس» التحديات والخيارات الاستراتيجية عينها التي واجهتها منظمة التحرير الفلسطينية برئاسة ياسر عرفات، وقيادة «فتح» منذ السبعينات فصاعداً. وقد قدّم مشعل الدلائل على سلوك «حماس» درباً سبَقَ لمنظمة التحرير أن سلَكَته، على الرغم من إعادة تأكيده أيضاً مجموعة من «الثوابت الوطنية» المعهودة في خطابه.

عند الوهلة الأولى، تبدو الفروق بين الخط البياني لـ «حماس» وبين خط منظمة التحرير أكبر من أوجه الشبه. فحين عاد عرفات إلى غزة قبل 18 عاماً، في 4 تموز (يوليو) 1994، فَعَلَ ذلك بعد تبادل رسائل الاعتراف المُتبادَل وعقد اتفاق «غزة ـ أريحا» مع إسرائيل. وقد حدّد المهمة الرئيسة التالية بتحقيق «الانسحاب الإسرائيلي الشامل من كل الأراضي المحتلة، وفي مقدّمتها القدس، عاصمة دولتنا المستقبلية» عبر التفاوض. أما مشعل، فقد نادى في خطابه الأخير بـ»التحرير أولاً، والدولة الحقيقية ثمرة التحرير لا ثمرة المفاوضات»، مشدّداً من جديد على وجوب عدم الاعتراف بإسرائيل.

يمكن لـ «حماس» أن تزعم، وثمة ما يبرّر ذلك، أنها طبّقت هذه المقاربة في غزة. لكن كما كانت الحال بالنسبة إلى عرفات ومنظمة التحرير في العام 1994، فإن تحقيق الاستقلال الذاتي الجاد في الضفة الغربية والقدس الشرقية ـ ناهيك عن بلوغ الاستقلال والسيادة الكاملَين ـ يشكّل تحدّياً أعظم بكثير. وإذا كانت قدرات «حماس» العسكرية توفّر لها بعض القوة الضاغطة ـ ما كان كافياً في تشرين الثاني (نوفمبر) الفائت لردع إسرائيل عن دخول قطاع غزة برّاً وثنيها عن تغيير الأمر الواقع هناك ـ إلا أنها لم تثبت إطلاقاً قدرتها على إرغام إسرائيل على وقف نشاطها الاستيطاني في الضفة الغربية والقدس الشرقية ـ ناهيك، ثانياً، عن تفكيك المستوطنات والانسحاب، في نهاية المطاف، من الأراضي المحتلة بشكل كامل.

ولن تسمح إسرائيل لـ «حماس» ببلوغ ذلك المستوى من القدرة العسكرية. فقد مرّت منظمة التحرير في تجربة مشابهة في أواخر السبعينات، حين عملت إسرائيل على منعها من بناء قوّتها العسكرية في جنوب لبنان. ففي تموز (يوليو) 1981، وجّهت إسرائيل ضربات جوية قاسية إلى مقار القيادة الفلسطينية في بيروت، مخلِّفةً حوالى 500 قتيل، أغلبهم من المدنيين، لتعود وتقبل بوقف إطلاق النار بشروط غير مناسبة لها، أتاحت لمنظمة التحرير مجال البناء العسكري بأمان، بعد أن عجزت إسرائيل عن وقف نيران المدفعية الفلسطينية المتواصلة على مناطقها الشمالية. ثم قامت، في غضون أقل من سنة، باجتياح لبنان وإجبار المنظمة على مغادرة بيروت.

إلا أن التهديد الذي كانت الحكومة الإسرائيلية اليمينية برئاسة مناحم بيغن تردّ عليه لم يكن عسكرياً، بل تَمثَّلَ باتّجاه منظمة التحرير نحو تبنّي حلّ الدولتين عبر التفاوض، ما انعكس في تنامي تعامل أوروبا الغربية مع المنظمة، وفي بدء حوار غير رسمي مع الإدارة الأميركية. فلم تقدر منظمة التحرير على استخدام قوّتها العسكرية في لبنان لإرغام إسرائيل على التخلّي عن أي جزء من الأراضي المحتلة، ولكنها تمكّنت من ترجمة تلك القوة إلى مكاسب ديبلوماسية.

ويبدو أن مشعل قد وصل إلى الاستنتاج نفسه. فحين اعتبر «أشكال النضال السياسي والديبلوماسي كافة... لا قيمة (لها) من دون مقاومة مسلّحة»، جاء ذلك تأكيداً على شرعية العمل الديبلوماسي وإدراجاً له في قاموس «حماس»، أكثر مما جاء تهميشاً له. وفي تشديده على أن «مَن يريد التحرّك في السياسة، عليه أن ينطلق مع الصاروخ»، أشار مشعل بذلك إلى العزم على القيام بمثل ذلك التحرّك.

كما اقتربت ملاحظات مشعل الختامية من خطاب عرفات أمام الجمعية العمومية للأمم المتحدة في تشرين الثاني (نوفمبر) 1994، حين قال: «جئت اليوم أحمل غصن الزيتون وبندقية المقاتل من أجل الحرية، فلا تدعوا غصن الزيتون يسقط من يدي». وفي العام 2012، خاطب مشعل العالم بطريقة أقلّ شاعرية، قائلاً: «جرّبناكم 64 عاماً ولم تفعلوا شيئاً، فإذا ذهبنا إلى المقاومة، فلا تلومونا. فلو وجدنا طريقاً غير الحرب لسلكناه».

ترى «حماس» فرصة استراتيجية أتى بها «الربيع العربي» لإنهاء عزلتها والحصول على الاعتراف الخارجي بها وبحكومتها في غزة. غير أن قبول انضمامها إلى النظام الإقليمي سوف يتطلّب منها العمل بموجب قواعده ومصالحه، حتى لو باتت الأحزاب الإسلامية «الوَسَطية» الشقيقة في مصر وغيرها تؤدّي دوراً مؤثراً في إعادة تشكيل ذلك النظام. وبهذا أيضاً تسلك «حماس» درباً سلَكَته منظمة التحرير قبلَها. فحين اعترفت الدول العربية بالمنظمة «ممثّلاً شرعياً ووحيداً» للشعب الفلسطيني، وساعدتها على الحصول على صفة مراقب لدى الأمم المتحدة في أواسط السبعينات، ترتَّبَ على المنظمة، في المقابل، أن تمتنع عن التدخّل في الشؤون الداخلية للدول العربية ـ وهو الأمر الذي تعهّد به مشعل أيضاً في خطابه ـ وأن تتبنّى استراتيجية ديبلوماسية تستطيع تلك الدول أن تدعمها لدى الأسرة الدولية.

لا تزال «حماس» بعيدة عن التعامل السياسي المباشر مع إسرائيل، على عكس ما فعلته منظمة التحرير في نهاية المطاف. بل تفضّل «حماس»، كما تفضّل إسرائيل، أن تلتزم بهدنة طويلة الأجل تستند إلى تفاهمات والتزامات ضمنية وغير مباشرة متبادلة حيال الأمن، في موازاة الحفاظ على الترتيبات الوظيفية القائمة وتوسيعها في ما يخصّ النشاط الاقتصادي، والبنية التحتية، والخدمات العامة. فـ «حماس» تسعى إلى تأمين الاستقرار وتعزيز حكمها، ولذا تعتبر النمو الاقتصادي وخلق فرص العمل مفتاحاً لإدامة سيطرتها السياسية على غزة في المستقبل المنظور، بغض النظر عن نجاح أو فشل مساعي المصالحة الوطنية مع «فتح»، وإعادة دمج مؤسسات السلطة الفلسطينية في الضفة الغربية وقطاع غزة.

بعد أن صمدت طيلة سبع سنوات عجاف في 2006 ـ 2012، تتوقّع «حماس» أن تنعم بسبع سنوات سمان. لكنّ ذلك ينطبق على غزة وحدها. فقد غيّرت «حماس» «قواعد الاشتباك» مع إسرائيل هناك، ولكنها لا تزال بعيدة عن تحقيق ذلك في الضفة الغربية ـ فهل تلحق بخُطى منظمة التحرير لتصوغ استراتيجية ديبلوماسية؟

ـــــــــــــــــ

* باحث أول في مركز كارنيغي للشرق الأوسط ـ بيروت