خبر مسار جنيف نحو الحل السياسي ..علي عقلة عرسان

الساعة 12:13 م|11 ديسمبر 2012

 

 

 

في اجتماعات جنيف التي عقدت في 9 و10/12/2012 بين نائب وزير خارجية روسيا الاتحادية ميخائيل بوغدانوف ووليم بيرنز مساعد وزير خارجية الولايات المتحدة الأميركية هيلاري كلنتون بحضور الأخضر الإبراهيمي، تم تأكيد مرجعية جنيف والعمل على حل سياسي للأزمة السورية كان قد اتفق الوزيران لافروف وكلنتون في بلفاست على تعزيزه، وأكدا ذلك للإبراهيمي من خلال دعمهما لمهمته وللحل على أساس بيان جنيف.. وجاء تأكيدهما " الدعم الكامل لمهمة الإبراهيمي في التوصل إلى صيغة تضمن التوصل إلى توافق بين أعضاء مجلس الأمن لاستصدار قرار يفضي إلى انتقال السلطة وتشكيل حكومة انتقالية كاملة الصلاحية".
وفي المواقف المؤشرة أو الإرهاصات المبشرة يسترعي الانتباه قول الوزير لافروف " إن بلاده لا تجري مباحثات مع أي جهة حول مصير القيادة السورية وليست متمسكة بأحد.. معتبراً أن جميع المحاولات لتصوير الوضع بشكل مغاير هي غير نظيفة.."، كما يسترعي الانتباه ما جاء عن المنظمة الدولية قولها عن الاجتماع بين الطرفين: "إن الاجتماع كان بناء وعقد في جو من التعاون وسعى المشاركون فيه إلى حشد المزيد من العمل الدولي لصالح حل سياسي للأزمة في سورية".

إن ثبات مثل هذا التوجه السياسي لكل من الدولتين الأعظم، وعدم لجوء الولايات المتحدة الأميركية إلى الخداع وتبييت سوء النية، كما فعلت بعد إقرار خطة عنان ذات البنود الست وبيان جنيف في حزيران 2012، يعني أن وجهة النظر الدولية قد استقرت على حل سلمي جاد يقوم على الحوار بين الأطراف السورية المعنية بالأزمة السورية، يفضي إلى سلطة سياسية مستقرة تجيء بها صناديق الاقتراع، وترسيخ لسلطة الشعب من دون انتقاص أو مراوغة أو " شطارة" تفرغها من مضمونها وتبقيها شعاراً ولافتة ودريئة.

وفي ظني أن مرور واحد وعشرين شهراً على الأزمة السورية الخانقة، من دون حسم تام لها لمصلحة طرف من أطرافها، ومن دون تغيير في المواقف الدولية الجذرية منها، لا سيما موقف كل من روسيا والصين، وثبات الجيش العربي السوري ومؤسسات الدولة الأخرى، ودخول تنظيمات مقاتلة إلى سورية ليست من السوريين صنفتها الولايات المتحدة الأميركية مؤخراً بوصفها منظمات إرهابية، والخشية من تسرب أسلحة فتاكة لها ومن ثم للجوار، وملامح انتشار الأزمة في الغلاف الجغرافي والسكاني لسورية على أرضية "فتنة مذهبية وطائفية تشعل المنطقة.. كل ذلك إضافة إلى ما خفي وما تفاعل من سياسات واستراتيجيات ومصالح للقوى العظمى والأطراف الضالعة في هذه الأزمة، ساهم في كشف مستجدات وإنضاج رؤية سياسية في المنطقة وإليها، تختلف عما كانت عليه تلك الرؤية السياسية عندما بدأ التحرك الجديد في الوطن العربي ومن ثمة سورية تحديداً، بتوافق جهات عربية وغربية قبل سنتين ونيف.

صحيح أن مثل هذه الرؤية الجديدة نضجت على نار وقودها دماء السوريين وحطام الكثير مما بنوه في بلدهم خلال عقود من الزمن، ولكنها أيضاً نضجت في ضوء تطور الأحداث في أقطار عربية أخرى وتجمعات بشرية في مساحات من الوطن العربي، وبسبب تداخل مصالح دول كبرى أو تضارب مصالحها وسياساتها ومواقفها من جراء هذه الأزمة، وما يمكن أن تولده من مواقف وسياسات أكثر اتساعاً من رقعة انتشارها الحالية، ومن رقعة المنطة التي تشكل غلافها الديموغرافي.

إن الإرهاصات التي أشرنا آنفاً إلى أنها تشي بتوجه دولي متماسك نحو حل سياسي للأزمة تتفاهم عليه الدولتان الأعظم، تحتاج إلى وقت لتصبح حقائق راسخة يُبنى عليها ومؤثرة فاعلة تسير التحرك وتوجهه، ولكن هذا لا يعني أنها لن تؤثر في الأزمة السورية وفي المناخ العام المحيط بها، وأنها لن تعمل على تهيئة ذلك المناخ ومن يتنفسون هواءه ليتقبل كل منهم التغيير ويسلك مسالكه بإيجابية وتفهّم ومسؤولية.. ومن المؤكد أن ذلك سيقتضي وقتاً تحتاج إليه أصلاً الولايات المتحدة الأميركية التي تنتقل إلى ولاية أوباما الثانية بما تحمله من تغييرات سياسية ومعطيات وشخصيات جديدة ترسم السياسة وتنفذها، ويحتاجه الأوربيون أيضاً لإنضاج مواقف ورؤى تتلاءم مع توجهات الدولتين الأعظم اللتين تعملان في جنيف على أرضية بيان جنيف الذي لم يمت، ولم تمت معه خطة النقاط الست التي رسخها كوفي عنان وقال الأخضر الإبراهيمي إنها تصلح أرضية للحل مع شيء يسير من التعديل أو الإضافة.. ومن هنا يمكن القول إن صمود بيان جنيف وخطة النقاط الست لم يكن لأن روسيا الاتحادية والصين تشبثتا بهما من حيث المبدأ بعد الاتفاق عليهما فقط، بل لأن البيان والخطة يحملان في طياتهما منطقاً ومعطيات عقلانية وواقعية، تجعل منهما أرضية صالحة للبناء عليها بالفعل. وإذا كان كوفي عنان قد حُكِم عليه بالفشل فإن خطته وبيان جنيف الذي وقف وراءه يدفعان عنه ذلك الحكم وينتشلانه من وهدة أريد له أن يوضع فيها، مثلما ينتشل تغييب الدابي وتقريره عن جلسة مجلس الأمن الدولي المشهودة من وهدة الحكم السلبي الذي حكم عليه وعلى فريقه به.

لا يعني هذا التحرك الذي يسفر عن تقارب في الرأي والموقف بين أكبر وأهم لاعبين في الأزمة السورية أن العنف الدامي فيها سيتوقف فوراً والآن، وتتوقف معه إراقة الدماء وأشكال الدمار وأنواع المعاناة التي يتعرض لها السوريون وفاقت كل قدرة على الاحتمال.. بناء على هذه الإرهاصات التي يمكن قراءتها في اجتماعات جنيف، ولكنه سيعني بالتأكيد، في حال ثبات التوجه الجديد وصدق النوايا وعدم الخداع من جانب الغرب المخادع، أن تبدأ عمليات متنوعة ومتداخلة ومتزامنة تساهم في خلق المناخ الجديد، وتعمل على الحد من العنف وإراقة الدماء، وعلى التخفيف الفعلي من حدة معاناة السوريين المشردين داخل وطنهم وخارجه، أو الواقعين تحت أشكال من الخطر والمعاناة بسبب العلميات العسكرية، في القرى وأحياء بعض المدن.. وتلك معاناة شديدة الوقع تضاف إلى الأزمة الاقتصادية وارتفاع الأسعار وفقدان مواد وسلع أساسية يحتاج إليها المواطن حاجة ماسة ولا يمكن الاستغناء عنها.

ومن المؤكد أن هذا لن يكون سهلاً نظراً لتعدد اللاعبين في الداخل السوري، ولتعدد مصادر التمويل والتوجيه والتأثير وتنوع الغايات من جهة، ولوجود أكثر من لاعب خارجي لكل منهم أهداف ووسائل وأدوات من جهة أخرى.. ولكنه ليس مستحيلاً على الإطلاق، وتستطيع كل من الدولتين الأعظم، بما لهما من نفوذ، التأثير في ذلك كله، والسير بالأزمة السورية وأطرافها نحو الحوار وصولاً إلى الحل السياسي المنشود. وما من شك في أن هناك أفعالاً وعمليات لوجستية ومراكز تدريب وتسليح وتمويل، ووقائع على الأرض، ومظاهر استفزاز كثيرة تجعل سورية بكل ما فيها ومن فيها موضع استهداف واستنزاف. وعلى الجهات المجتمعة في جنيف أن تدرك أبعاد ذلك جيداً ومردوده، وأن تضع، مع الأخضر ومن خلاله، خطة فاعلة يمكن أن يساهم فيها مجلس الأمن الدولي بتوافق واتفاق تامين، وبصورة فاعلة على نحو ما، تمنع استمرار تغذية الأزمة وتصعيدها، وتجبر الأطراف السورية كلها، كما قالت روسيا، على "إلقاء السلاح والجلوس حول طاولة المفاوضات."، فتجميد الموقف على حال من الأحوال يشكل مدخلاً لبداية العد التنازلي أو العكسي المبشر بتراجع حدة مدمرة، أو المنذر لكل من يعنيه الأمر بضرورة كبح الجماح والتراجع عن العنف والتدمير والقتل والإرهاب وترويع الناس وزعزعة ما تبقى في نفوس السوريين من أمل.. ويدخل في ذلك قيام الولايات المتحدة الأميركية وغيرها من الدول المعنية بالأزمة في سورية، أن تضع حداً لتدخلها فيها بأية صورة من صور التدخل السلبي المعيق لحلها، وأن تسحب قطع أساطيلها وقواتها المسلحة من شرق البحر المتوسط، لأن من شأن ذلك أن يؤثر بقوة في الأطراف الداخلة في الأزمة السورية دخولاً دموياً مباشراً، لجهة التهدئة أو لجم الجموح والتطرف والعنف، مهما كانت أسباب ذلك كله ومسوغاته وأشكاله، ويشعرها بأن العالم مجمع بجدية تامة على وضع حد لهذه المأساة التي طال أمدها.

لا يمكننا، ونحن نتطلع إلى جهد دولي من هذا النوع وبهذا الحجم، أن نغفل أمر لاعبين رئيسين في الأزمة السورية ودورهما على الأرض وفي تحقيق التطلع والطموح المشروعين: دور الدول العربية، ودور الأطراف السورية المعنية عملياً بالأزمة والاقتتال.. أما بشأن الدول العربية المنغمسة بصورة من الصور في الصراع الدامي في سورية، ومعها جامعة الدول العربية، فنرى أن دورها وفعلها على الأرض يتوقفان، إلى حد بعيد، عند حدود ما تتفق عليه الدولتان الأعظم وما تتوافقان عليه كل مع شركائها أو حلفائها.. ومنهم بعض العرب، ولا سيما ما تتفق عليه الولايات المتحدة الأميركية مع شركائها الأوربيين وغير الأوربيين في هذا الموضوع. وإذا ما تبقى شيء من التحرك العربي، الرسمي والشعبي، بعد ترسيخ توجه عالمي فاعل ونظيف وجاد، نحو الحل السياسي ووقف العنف وإراقة الدماء، فإن التحرك العربي إن بقي في مساحات محددة، سيكون تحركاً محدود التأثير وهامشياً ولن يدوم طويلاً ومآله إلى السكون. وأما ما يتصل بالأطراف السورية في الأزمة، الرسمية وغير الرسمية، وتلك المتدخلة في الأزمة السورية من غير السوريين، فإنه دورها العنفي سيتأثر بالتدريج بما سيحكم الفعلين الدولي والعربي من توجهات وقرارات وضوابط، مادياً ومعنوياً وسياسياً وإعلامياً، وحين يتوقف العنف الدموي والقتل والاقتتال وتجلس الأطراف السورية المعنية إلى طاولة الحوار، أو إلى طاولة المفاوضات كما يطيب للبعض أن يسميها، فإن الأطراف غير السورية ستنكفئ لانتفاء المسوغات القتالية والحواضن السورية لتلك الأطراف، أو أنها ستواجَه بقوة لا قبل لها بها بعد أن تتفرغ قوة الجيش العربي السوري لها، ويخف الدعم الخارجي عنها أو يحجب استجابة لعمل دولي. وفي كل الأحوال لا يمكن ضمان توقف الحرب الإعلامية التي تستبيح كل شيء بما في ذلك الأساليب والمحرمات، ومن شبه المؤكد أن بعضها على الأقل سيلعب دوراً سلبياً مؤثراً، ولكن لا بد من وضعها فيي حجمها الفعلي والطبيعي، قياساً إلى مصلحة سورية وشعبها وأمنها واستقرارها ومكانتها ومصلحة أجيالها. 

وتلك الأمور جميعاً، تستحق ممن يتصدى لها وينهض بمجملها، أن يتعب ويسهر ويبذل الجهد ويضحي بالكثير.. لأن ما يمكن أن يحقنه من الدم، ويزيله من أسباب المعاناة وأشكالها، وما يحققه من تجفيف لمستنقعات الدم والإثم والفتنة والحقد والكراهية وتصفية الحسابات الصغيرة أو الكبيرة، يفوق بما لا يقاس، إنسانياً وأخلاقياً، قومياً ووطنياً، روحياً ودينيناً واجتماعياً.. كل ما يمكن أن يبذله من جهد وما يفعله وينجزه المرء في حياة بل حيوات، سواء أكان ممثلاً لدولة، أو لمنظمة عالمية، أو لحزب، أو لمجموعة بشرية ذات توجهات إنسانية، أو لذاته الطموح.. من إنجازات فذة ورائعة وباقية على الزمن.. لأن في ذلك حياة للناس وصوناً للحياة، ولأن فيه خدمة لأعظم القضايا وأكثرها نبلاً وأشدها نفعاً لبني الشر، ولو كان ذلك في حيز من الجغرافيا الطبيعية والبشرية على أرض البشر.

والله من وراء القصد