خبر ما بعد الدولة.. ما بعد الانتصار../ هاني المصري

الساعة 08:03 ص|06 ديسمبر 2012

لقد انتصرت فلسطين، وحصلت على الدولة المراقبة؛ ما يدل على أن العالم سئم الاحتلال، وأن القضيّة الفلسطينيّة لا تزال حيّة بالرغم من كل ما جرى لها طوال السنوات العشرين الماضية، وما يجري حولها في المنطقة والإقليم والعالم، ومحاولات تصفيتها، خصوصًا منذ توقيع اتفاق أوسلو وحتى الآن.

انتصرت فلسطين بالرغم من استمرار خيار البحث عن تسوية في ظل ظروف ومعطيات وموازين قوى لا تسمح بها، ومع استمرار المشروع الصهيوني التوسعي الذي يستهدف كل فلسطين.

انتصرت فلسطين بالرغم مما رافق هذا الانتصار من تأكيد على أننا لا نطالب بنزع الشرعيّة عن إسرائيل ومستعدون للعودة إلى المفاوضات، ونراهن على الشرعيّة الدوليّة، وعلى المصالحة التاريخيّة، ولا ننوي اللجوء إلى محكمة الجنايات الدوليّة إلا إذا اعتُدي علينا، وكأننا لسنا تحت الاحتلال والعدوان المستمر.

انتصرت فلسطين بالرغم من الأوهام التي لا تزال تعشعش، لأن اللجوء إلى الأمم المتحدة تحقق بالرغم من الضغوطات والتهديدات والإغراءات الأميركيّة والإسرائيليّة والأوروبيّة والعربيّة، ومثل نوعًا من التمرد على مسار المفاوضات العبثيّة، وعلى التزامات اتفاقات أوسلو، رغم الأوهام بأنه يمكن أن يؤدي إلى استئناف هذه المفاوضات.

ما يهمني في هذا المقال، هو إثارة الحوار حول كيفيّة جعل هذا الانتصار مقدمة لانتصارات جديدة، لأن هذا الإنجاز يجب النظر إليه من دون تهويل أو تهوين كخطوة في مشوار طويل، لا يمكن أن تتحقق أهدافه إلا بنضال فلسطيني متعدد الأشكال والمراحل، وبحاجة إلى دعم عربي ودولي حتى يتم تغيير ميزان القوى، بما يجعل الاحتلال خاسرًا وليس مربحًا كما هو الآن.

إن المعيار الأساسي الذي نستطيع أن نحكم - استنادًا إليه - إلى أين سيقودنا هذا الإنجاز، هل إلى انتصارات أم إلى هزائم جديدة يستند إلى نقطتين في منتهى الأهميّة:
النقطة الأولى: أن يدفع هذا الانتصار إلى الإسراع في إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة على أساس برنامج وطني يجسد القواسم المشتركة، وبما يحقق شراكة سياسيّة حقيقيّة على أسس ديموقراطيّة.
وهذا الأمر بات ممكنا؛ أولاً، لأن الحكومة الإسرائيليّة تحارب الإرهاب العسكري الذي تمثله "حماس" أساسًا، والإرهاب السياسي الديبلوماسي الذي تمثله "فتح" أساسًا. وثانيًا، لأن "فتح" و"حماس" تشعران بأنهما في وضع قوي قادرتان على تقديم المرونة اللازمة لإنجاز المصالحة، فـ"حماس" قادت المواجهة ضد العدوان الأخير وانتصرت، و"فتح" قادت المواجهة الديبلوماسيّة وانتصرت، وكان الجميع في وحدة ميدانيّة وراء تحقيق هذه الانتصارات.

وحتى يمكن إنهاء الانقسام واستعادة الوحدة، لا بد من استخلاص الدروس والعبر من الحوار الوطني الثنائي والشامل واتفاقات المصالحة، لمعرفة لماذا لم تؤدِ إلى النجاح؟، فالعمل من أجل إنجاز المصالحة يجب أن يختلف في مرحلة المتغيرات العربيّة والإقليميّة والدوليّة، عن المرحلة السابقة، بما يتطلب تغيير أو تطوير الاتفاقات بما يناسب المرحلة الجديدة.

لقد كانت المصالحة مصممة كطريق لاستيعاب "حماس" والجهاد في السلطة لإعطاء الشرعيّة لخيار المفاوضات والتسوية وما نجم عنها من اتفاقات والتزامات، لذلك كانت عقبة موافقة "حماس" والجهاد الإسلامي على شروط اللجنة الرباعيّة هي العقبة الرئيسيّة التي اعترضت طريق المصالحة، وخصوصًا تشكيل الحكومة وإجراء الانتخابات وإعادة توحيد الأجهزة الأمنيّة وصياغتها.

إن النظرة الجديدة للمصالحة تتطلب إعطاء الأولويّة للمضمون السياسي لاتفاقات المصالحة وليس للخطوات الإجرائيّة والشكليّة، مثل تشكيل الحكومة ولجنة الانتخابات واللجنة الأمنيّة، فلا بد من وضع رؤية إستراتيجيّة جديدة لمواجهة التحديات والمخاطر الراهنة والمحتملة، وإلا سيقود انتصار المقاومة في غزة إلى تكريس الانقسام وتحويله إلى انفصال، وانتصار المنظمة في الأمم المتحدة إلى استمرار الأمر الواقع الراهن، أو العودة إلى المفاوضات العبثيّة.

ليس من الضروري أن تتضمن الرؤية الجديدة قطعًا فوريًا للحبل السري الذي يربط المنظمة بخيار المفاوضات، والتسويّة، وبالتزامات اتفاق أوسلو، فتغيير الواقع السيئ غير ممكن فورًا، خصوصًا في ظل الأوضاع العربيّة الحاليّة، بل يتطلب التعامل معه شرطًا وهو أن يكون الهدف منه منذ البداية تغييره لا تكريسه، فالحصول على الدولة المراقبة يوجه ضربة إلى أوسلو، ولكن لا يسقطه فلسطينيًّا، لأن أوسلو التزامات سياسيّة وأمنيّة واقتصاديّة معروفة ولا ينتهي إلا بانتهائها.

إن الذي أفشل حوارات المصالحة واتفاقاتها أن هناك ثلاثة ملفات من ملفاتها الخمسة تتحكم بها إسرائيل تمامًا، وهي: (الحكومة، الانتخابات، الأمن). فإسرائيل تستطيع إفشال الانتخابات، سواء بعدم السماح بإجرائها، أو بمنع إجرائها في القدس، أو بإعلان كتل انتخابيّة مثل كتلة التغيير والإصلاح أو كتلة الإسلاميين، كما حصل فعلا مؤخرًا، كمنظمات إرهابيّة لا تسمح بمشاركتها، أو تقوم باعتقال رموزها قبل الانتخابات وأثناءها وبعدها، مثلما شاهدنا في الانتخابات السابقة، حيث اعتقلت إسرائيل 45 نائبًا ووزيرًا، ما أدى إلى تعطيل المجلس التشريعي.

وما ينطبق على الانتخابات ينطبق على الحكومة، فعلى الحكومة أن تلتزم بشروط الرباعيّة، وإلا تمنع إسرائيل تشكيلها أو التعامل معها أو تقاطعها أو أن تعترف بوزراء وتقاطع وزراء، كما حدث فعلا مع حكومة الوحدة الوطنيّة التي شكلت إثر توقيع اتفاق مكة في مستهل بداية عام 2007.

أما الأمن، فإسرائيل تتحكم به تمامًا وتصر على الالتزامات الأمنيّة والتنسيق الأمني، الذي حول السلطة إلى وكيل عند الاحتلال لأجل غير مسمى، بينما كانت السلطة تأمل أنه بإمكانها إقناع الاحتلال بقيام دولة فلسطينيّة مستقلة بعد الاعتراف بجدارتها بتوفير الأمن.

لا بد من إعطاء الأولويّة لبلورة إستراتيجيّة جديدة، والعمل على إعادة تشكيل منظمة التحرير، بحيث تضم الجميع، وتستند إلى برنامج وطني يحفظ الحقوق والأهداف الوطنيّة، ويستند إلى القانون الدولي وميثاق وقرارات الأمم المتحدة كلها، التي تحفظ الحد الأدنى من الحقوق الوطنيّة الفلسطينيّة، ويطالب بحل في إطار عقد مؤتمر دولي مستمر وكامل الصلاحيات بعيدًا عن المفاوضات الثنائيّة برعاية أميركيّة، التي وضعت الجانب الفلسطيني الضعيف وحيدًا ومنعزلا في مواجهة الجانب الإسرائيلي القوي المدعوم أميركيًّا دعمًا مطلقًاً.

النقطة الثانيّة: الاقتناع العميق مرة واحدة بأنه لا يوجد أفق لحل سياسي، على الأقل على المدى المنظور، فالحكومة الإسرائيليّة متطرفة، ورفضت بالإجماع القرار الأممي بالاعتراف بدولة فلسطين، والحكومة القادمة ستكون أكثر تطرفًا، وتسيبي ليفني، "حصان الرهان الأخير" عند أصحاب التسوية، انتقدت حصول فلسطين على دولة غير عضو، واعتبرته خطأ إستراتيجيًا.

إذا سارت الأمور في الاتجاه الصحيح، يتم إعطاء الأولويّة لإعادة تشكيل منظمة التحرير التي لا تستطيع أن تتحكم بها إسرائيل أو غيرها، من خلال تشكيل قيادة انتقاليّة مؤقتة بتمثيل واسع ومختلف للشعب الفلسطيني في مختلف أماكن تواجده، وخصوصًا الشباب والمرأة والشتات، وليس من خلال تشكيل لجنة استشاريّة تسمى تارة لجنة تفعيل المنظمة، وتارة أخرى لجنة استشاريّة، وفي كل الأحوال لا تملك أي صلاحيات حقيقيّة، ولا تنسجم مع ما جاء في اتفاق القاهرة الذي حدد صلاحيات الإطار القيادي المؤقت بوضوح، بحيث تكون قراراته غير قابلة للتعطيل، وبما ينسجم مع صلاحيات اللجنة التنفيذيّة لمنظمة التحرير. ويمكن لهذا الإطار القيادي الانتقالي أن يقود الشعب الفلسطيني والسلطتين في الضفة وغزة إلى حين إجراء انتخابات المجلس الوطني والانتخابات الرئاسيّة والتشريعيّة، التي ستكون قضيّة نضاليّة يتم السعي لفرضها على الاحتلال وعلى البلدان التي تتواجد فيها التجمعات الفلسطينيّة، وفي إطار توافق وطني يضمن مشاركة الجميع، كل حسب حجمه، بصرف النظر عن نتائج الانتخابات والأقليّة والأغلبيّة.

"السفير"