خبر ما بعد التهدئة أخطر ..عبد الباري عطوان

الساعة 11:59 ص|22 نوفمبر 2012

اصبت بخيبة امل كبيرة عندما لم أجد رفع الحصار عن قطاع غزة احد البنود الرئيسية في اتفاق التهدئة الذي جرى اعلانه امس في القاهرة، بحضور السيدة هيلاري كلينتون وزيرة الخارجية الامريكية، ولكن الأمر اللافت ان المقاومة لم تستسلم، ولم تخضع للشروط الاسرائيلية الابتزازية، وخاصة تلك التي تطالب بهدنة طويلة غير مشروطة، وتسليم الاسلحة، ومنع تهريب الصواريخ.

القصف الوحشي الاسرائيلي للقطاع الذي اسفر عن استشهاد 161 شخصا، وما يقرب من الألف جريح لم يحقق الهدف منه، اي القضاء على مخزون المقاومة من الصواريخ واغتيال قياداتها، بل ما حدث هو العكس تماما، فقد عزز شرعية هذه القيادات ونهجها السياسي، ووضعها على الخريطة الاقليمية والدولية بقوة، بينما تراجعت حظوظ السلطة الوطنية الفلسطينية المعتدلة، التي نبذت 'الارهاب' واعتمدت التفاوض كطريق للسلام.

متغيرات عديدة برزت بقوة وسط الدمار المادي والخسائر البشرية التي وقعت في قطاع غزة، يمكن رصدها والتأكيد على اهميتها في الوقت نفسه، والتأثيرات التي ستترتب عليها، في ما هو قادم من ايام:

اولا: نتنياهو كشف عن سوء تقديره وغبائه السياسي عندما اعتقد ان الشعب في القطاع، ومعه رجال المقاومة، سيهربون 'هلعا' من شدة القصف، مثلما كان عليه حال جيوش عربية رسمية، وما حدث هو النقيض تماما، فلم يهرب احد، وكان القادمون الى القطاع عبر الحدود عشرات بل مئات اضعاف مغادريه، ومعظم المغادرين كانوا من طالبي العلاج في المشافي المصرية نتيجة اصابتهم.

ثانيا: تمرّد الضفة الغربية واهلها الشرفاء ضد حالة الجمود الوطني التي فرضتها السلطة وقوات امنها على مدى السنوات العشر الماضية تقريبا، وشاهدنا مئات الآلاف من ابناء الضفة يتدفقون الى الحواجز، ويصطدمون بقوات الاحتلال، ويلحقون خسائر بشرية في صفوفهم، ويقدمون الشهداء تضامنا ومساندة لابناء القطاع، في خطوة تضامنية اعادت التأكيد، وبقوة، على وحدة المصير، ووحدة الكفاح بأشكاله كافة، وقد توقفت طويلا عند مشاركة بعض افراد الأمن، وقيادات من 'فتح' في هذه الاحتجاجات، مما يعني ان 'ثقافة الجنرال دايتون' و'السلام الاقتصادي' بدأت تتهاوى.

ثالثا: عودة القضية الفلسطينية بقوة، وعلى مدى ايام الحرب الثمانية، الى الواجهة السياسية العالمية والاقليمية بقوة، بعد ان تراجعت بفعل ثورات الربيع العربي، ومحاولة بعض الحكومات العربية 'المعتدلة'، حرف الانظار عنها، واستبدال ايران بإسرائيل كعدو اول للأمة. فكلينتون طارت الى المنطقة للمرة الاولى منذ عشرين شهرا من اجل التوصل الى التهدئة، وهي التي كانت تزورها من اجل قضايا عربية اخرى تراها اكثر الحاحا، ليس من بينها الاحتلال الاسرائيلي. ولا ننسى اتصالات رئيسها باراك اوباما بقادة المنطقة، وهرولة بان كي مون امين عام الامم المتحدة الى القاهرة.

رابعا: احياء ظاهرة العمليات الاستشهادية في قلب تل ابيب، وربما مدن اخرى، وهي ظاهرة اختفت منذ 15 عاما، وشاهدنا قنبلة تلقى على حافلة وتصيب 19 اسرائيليا، بعضهم في حال خطرة.

خامسا: سقوط خيار الحرب البرية الذي استخدمته اسرائيل سيفا مسلطا على رقاب الشعب الفلسطيني، بسبب توازن الرعب الناجم عن وجود صواريخ مضادة للدبابات، وتصاعد احتمالات خطف او أسر جنود اسرائيليين في حال حدوث مثل هذا الاجتياح.

اسرائيل تفرض الحصار على القطاع تحت ذريعة منع وصول الاسلحة، وها هي تكتشف عمليا، ان هذا الحصار فشل في هذه المهمة، وان ما خسرته المقاومة من صواريخ ستعوضه في اسابيع معدودة، وربما بأنواع اكثر قوة وابعد مدى، ولن نستغرب ان تضاف الى المجموعة صواريخ مضادة للطائرات.

هناك نظريات تآمرية عديدة تتردد في بعض الاوساط حول وجود صفقة بين حماس واسرائيل، لتعزيز مكانة الاولى، وابراز مكانة حليفها الاخواني الرئيس المصري محمد مرسي، من خلال الحرب الاخيرة، والرد عليها بسيط وهو ان حركة حماس ليست الوحيدة في القطاع، كما ان قيادتها التي قدمت ابناءها شهداء لا يمكن ان توقع صفقات على حساب الشعب الفلسطيني، ومضافا الى ذلك ان العملية الفدائية التي اشعلت هذه الحرب نفذتها خلية تابعة للجبهة الشعبية لتحرير فلسطين، وهي جبهة علمانية قومية.

المقاومة هي التي فرضت على نتنياهو، وهي التي كسرت كبرياءه وغروره، عندما اجبرته على توقيع اتفاق التهدئة بعد تلكؤ، وتحدته ان يقدم على تنفيذ تهديداته باجتياح قطاع غزة، والأكثر من ذلك لم تكتفِ بضرب تل ابيب بالصواريخ، وانما بتنفيذ عملية استشهادية في قلبها، في رسالة مفادها انها قادرة على الوصول اليه من الجو وعلى الارض معا، وربما من البحر في المستقبل.

شهر العسل الاسرائيلي مع الهدوء والاستقرار والرخاء الاقتصادي اوشك على نهايته، وبدأت الابقار السمان تهزل مقدمة للاختفاء، فقد اوشكت دورة الاذعان الفلسطيني والعربي من الوصول الى نقطة النهاية، لتعود بعدها دورة المقاومة وبقوة، ليس في القطاع فقط، وانما في الضفة، وربما جنوب لبنان والاردن ايضا.

نعم.. اعترف انني مغرق بالتفاؤل، وقد ابدو مغرّدا خارج سرب الهوان والاذعان السائد حاليا، ولكنني قارئ جيد للتاريخ، ومستوعب اجود لدروسه وعظاته، فمن يجرؤ على الحديث عن السلام ومعاهداته ومبادراته بعد وصول صواريخ المقاومة الى معظم المدن الاسرائيلية، وخاصة القدس المحتلة ومستوطناتها حتى في الاحلام؟!