خبر ما بعد الردع: غزة المقاومة فرصة مصر ..سيف دعنا

الساعة 12:45 م|21 نوفمبر 2012

«قد أقبلوا فلا مساومة، المجد للمقاومة»

الشهيد معين بسيسو

«ماذا ستكون مفاعيل وصول الإخوان المسلمين إلى السلطة في مصر على التزاماتهم الايديولوجية المعلنة؟ هل سيتبع مرسي وحزبه نموذج السادات الذي طوعته السلطة باتجاه الاعتدال والبراغماتية، وأخيراً نحو التخلي المطلق عن أيديولوجيته القومية «المتطرفة» لمصلحة خيار «التعايش؟» أم سيتبع مرسي نموذج الخميني ولاحقاً الخامينئي اللذين أظهرا مرونة تكتيكية في بعض الاحيان حين فرضت الظروف ذلك، لكنّهما لم يتخلّيا مطلقاً عن نظمهما الايمانية أو إصرارهما على إبراز وضوحهما الايديولوجي حتى حين كانت الظروف تقف ضد خياراتهما تلك؟». هذه الأسئلة ناقشها مارك هيلير من معهد الأمن القومي الصهيوني في أعقاب انفضاح رسالة الرئيس المصري الى رئيس الكيان الصهيوني، والارتباك الذي واكبها من إنكار أولاً، ثم اعتراف خجول لاحقاً (قصة الرسالة الضائعة: المبدأ والبراغماتية في العلاقات المصرية ـ الإسرائيلية. رؤية رقم 360، معهد الأمن القومي الإسرائيلي. آب 2012). لا داعي إلى الخوض في افتراضات محللي معهد الأمن القومي الصهيوني حول توقعات نتائج تأثيرات السلطة المحتملة على الالتزام الأيديولوجي في الحالة المصرية. مقاومة غزة اليوم تقلب المعادلات وتصوب النقاش.

فرصة مصر

السلطة المصرية الجديدة والرئيس المصري الجديد أمام فرصة نادرة هذه الأيام، لم يحدث أن حصلت عليها أي سلطة عربية اخرى. فحتى لو تصرفت السلطة المصرية الجديدة بوطنية مصرية بحتة، وبأنانية محلية مفرطة، وبلا أي اعتبار إنساني أو أخلاقي للمأساة التي تضرب أهلنا في غزة، وبلا أي اعتبار عروبي أو إسلامي، وحتى بلا أي اعتبار سياسي لمعنى القيمة الاستراتيجية الهائلة للمقاومة التي كشفت عنها تطورات المواجهة الجارية، يبقى خيار إسناد المقاومة واستثمار الحقائق الجديدة هو المسار الذي يجب عليها اتخاذه إن هي فكرت في مصر أولاً وفقط. وهذا المسار، الذي تفترضه مصلحة مصر أولاً، هو فرصة مصر الوحيدة الممكنة الآن للعودة سريعاً الى مركز السياسة الإقليمية، وبلا تكاليف ولا تبعات على الإطلاق. الشروط الموضوعية لقلب المنطقة رأساً على عقب والذهاب بها الى حالة ما بعد الردع مع الكيان الصهيوني أصبحت الآن أكثر من متوافرة بارتفاع القيمة الاستراتيجية للمقاومة ـ وهذا درس كان على العرب إدراكه من حرب تموز 2006، لكن المقاومة تبدو اليوم كأنّها تعطيهم فرصة اخرى. ما ينقص، وقد يغيب للأسف، وبالتالي يضيع فرصة فريدة يمكن أن لا تتكرر قريباً، هو الإرادة السياسية المطلوبة للسلطة المصرية الجديدة.

بعد تفاصيل الأيام الخمسة الاولى من المواجهة الراهنة بين قوى المقاومة في غزة والكيان الصهيوني، التي لن تنتهي حتماً مع نهاية جولة «غزة مقابل تل أبيب»، أصبح واضحاً، أنّه يمكن المقاومة أن تمثّل أساس انقلاب في المشهد الجيوسياسي وتثبيت حقائق جديدة جرت صناعتها بالدم، ويمكن أن تجعل من مصر ما بعد الثورة، ومعها العرب جميعاً، الرقم الإقليمي الأصعب والقوة الإقليمية الأساسية مرة اخرى. ويمكن، لذلك، لمقاومة غزة والمقاومة العربية، أن تمثلا ذخراً استراتيجياً، وقيمة سياسية هائلة لمصر الجديدة، ويمكن لإسنادهما مصرياً أن يمثل مفتاح عودة مصر بقوة وبسرعة الى مركز المسرح الإقليمي والدولي، إن هي أرادت ذلك.

بعد الأيام الخمسة الاولى بدا واضحاً أيضاً أنّ وهم تناقض الثورة والمقاومة وفلسطين الذي نَظَّر له أعداء المقاومة وأعداء فلسطين من رموز الثورة المضادة قد بدأ يسقط. وسقط أيضاً وهم الفصل بين القضايا المحلية العربية وقضية فلسطين الذي نظر إليه من تسلق للسلطة على ظهور الثوار (لم تَدّع الثورة الايرانية، حتى لا ننسى، مثلاً دواعي محلية وضرورات مخترعة مماثلة ولم تؤخر قطع العلاقة مع الكيان الصهيوني، فلماذا يفعلها إخواننا العرب!). فمن غزة ومن لبنان يمكن مصر أن تكمل ثورتها نحو الزعامة الإقليمية المطلقة وغير القابلة للتشكيك التي ننتظرها جميعاً ـ هل يمكن تخيّل المكانة الإقليمية المتميزة التي تمتعت بها سوريا رغم صغر حجمها وقلة مصادرها نسبياً لو لم تدرك القيمة الحقيقية والاستراتيجية للمقاومة؟

أين مصر الآن؟

لم يبالغ الصهاينة حين وصفوا مبارك بـ«الكنز الاستراتيجي» لكيانهم. وليس ذلك صحيحاً لأنّ مصر كامب ديفيد (منذ السادات حتى مبارك؟) خرجت فقط من ساحة الصراع مع الكيان الصهيوني وأنهت حالة الحرب معه، بل أيضاً لأنّ تبعات ذلك كانت أكبر حتى مما حلم به الصهاينة أنفسهم. فمعاهدة «السلام» مكنت «اسرائيل» من القيام بحربين مع لبنان (1982 و 2006) وحربين مع الفلسطينيين (الدرع الواقية والرصاص المصبوب)، يقول الجنرال غيورا أيلاند من معهد الدراسات الأمنية الصهيونية. فإدراك الكيان التزام القيادة المصرية المخلوعة بعدم التدخل حرره كلياً من أي قيود أو تبعات لشن الحروب على الاراضي العربية الاخرى، ومكنه من إعادة ترتيب أولوياته العسكرية وإعادة تركيب ميزانيته العسكرية كمّاً ونوعاً بما يضمن تجاوز أي إرهاق عسكري أو بشري أو اقتصادي ممكن. فكما يشير أيلاند ذاته، رغم أنّ الميزانية العسكرية الصهيونية بقيت ثابتة منذ عام 1974، إلا انّه بسبب النمو الكبير في الانتاج القومي المحلي في السنوات السبع والثلاثين اللاحقة (منذ 1974) فإنّ الحاجات الامنية انخفضت من 30% في 1974 الى 7% فقط في 2010 (الانتفاضات في الشرق الاوسط وأمن إسرائيل. مجلة تقديرات استراتيجية، مجلد 14، عدد 2. ص: 7-14).

حتى بداية الجولة الدائرة الآن من المواجهة، كان التقدير الصهيوني أنّه «لا داعي إلى تغيير الافتراضات الأساسية (التي سادت أيام مبارك) في ما يتعلق بمصر. فحتى لو أصبحت السياسة المصرية تجاه إسرائيل عدائية، وحتى لو وصلت إلى الحكم سلطة ذات نهج محارب، فسيتيح ذلك الزمن المطلوب لترجمة هذه السياسة الى تهديد حقيقي، إضافة إلى المعوقات التي ستواجهها مثل هذه الحكومة (كانقطاع الدعم العسكري الأميركي)، لاسرائيل في الوقت الكافي للتأقلم مع الحالة الجديدة» (المصدر السابق. ص:9)، لكن إذا أصبح «التغيير الاستراتيجي» جلياً، فهذا يفرض على إسرائيل «إعادة النظر في ميزانيتها العسكرية/الأمنية من ناحية المدى أو المجال، ومن ناحية التركيب (كماً ونوعاً) ــ هذا ينطبق تحديداً على أكثر المركبات تكلفة: حجم القوة البشرية المقاتلة (براً وبحراً وجواً) وحجم المخزون الاحتياطي للسلاح، قطع الغيار، والوقود (الجواب الأدق على التقدير الإسرائيلي الحقيقي يمكن تلمسه مستقبلاً وقريباً من أي تغيير في خطة الجيش الصهيوني فوق السنوية للتسلح، والمعروفة بخطة حلميش/حجر صوان ــ رغم أن الجنرال ايلاند يُقر فعلاً بأن بعض هذه التغييرات في الكم والنوع قد بدأت فعلاً). تقديرات أيلاند الاستراتيجية أصبحت متقادمة (لو استخدمنا عبارة عرفات الشهيرة عن الميثاق الوطني الفلسطيني) فعلاً كتقديرات هيلير خلال الأيام القليلة الماضية مع المعطيات الجديدة التي صنعتها المقاومة. فالافتراض الذي يبني عليه هو افتراض مواجهة تقليدية مع مصر تتطلب فعلاً الوقت الطويل للإعداد لها، وهو ما يمكن أن يستخدمه الكيان للتأقلم (مع أنّ هذا لا يبرر الجمود السياسي عند مسلمات وافتراضات مبارك الإقليمية والدولية عند السلطة الراهنة).

أي تحول استراتيجي الأبعاد (سياسي بحده الأدنى يظهر تمايزاً على الأقل عن الافتراضات الأساسية لنهج مبارك) في مصر (والأردن أيضاً، كما يشير ايلاند في المصدر السابق، ص: 13) سيكون له تبعات عسكرية واقتصادية وبشرية هائلة ووخيمة على الكيان الصهيوني (يمكن أن يمثل مصدر إرهاق اقتصادي وبشري هائل بدأ الكيان يتحسس مخاطره وتبعات تأثيراته على شريحة مهمة في الكيان، حتى قبل الانتفاضات العربية، يمكن النظر اليها على أنها القاعدة الشعبية للمشروع الصهيوني، وحالتها، أو رفاهيتها تمثل محور قلق استراتيجي للكيان كما جاء في تقرير مؤتمر هرتسليا 2012). هذه ستكون ربما، أقل تبعات إعادة التموضع العسكرية الصهيونية لمواجهة استحقاقات ظروف مجرد إسناد مصر للمقاومة، فيما يمكن أن ترتقي السياسة ذاتها بمكانة مصر إقليمياً ودولياً دون أي تكاليف واستحقاقات مماثلة على كاهلها.

بعد النشوة، المحقة كما يجدر القول، التي طبعت ردات الفعل العربية الاولى على الحراك الشعبي، والنشوة ايضاً من الارتباك والقلق الصهيوني الكبير والوجودي الطابع في البداية (انظر وثاثق مؤتمري هرتسليا 2011 و2012)، يؤلم جداً أن نرى الاستعادة التدريجية للثقة بالنفس لدى بعض الخبراء الصهاينة الذين ميّز القلق الحقيقي ردات فعلهم الاولى. عاموس يادلين (جنرال سابق في سلاح الجو، الملحق العسكري في واشنطن، ومدير الاستخبارات العسكرية «أمان») مثلاً، يعيد تركيب كل الاحداث في الوطن العربي بعد عام بالقول إنّ الزخم الكبير للحدث تركز في ست دول عربية فقط من اثنتين وعشرين، وتغيّر النظام في دولتين فقط (تونس وليبيا ــ بالتدخل الخارجي للثانية)، أما في مصر واليمن، فلقد جرى التخلص من رأس النظام ولا تزال بقايا النظام القديم في مكانها، وفي البحرين يبدو انّ الانتفاضة جرى قمعها، في الوقت الراهن على الأقل، أما في سوريا، فالصراع لا يزال مستمراً بلا أفق (عاموس يادلين، الربيع العربي بعد عام. معهد الأمن القومي، مذكرة 113). طبعاً الحالة السورية تحديداً مربكة للكيان الصهيوني، لكن السيناريو المفضل كما يبدو، لدى الجنرال أيلاند مثلاً، بخصوص الحالة السورية هو سقوط النظام وانتشار حالة من الفلتان ــ حتى لو أدى ذلك إلى حالة من عدم الاستقرار الأمني على الحدود، فذلك يمكن التعايش معه، يقول أيلاند، ولا يمكن أن يرقى إلى مستوى الخطر الاستراتيجي من جهة، ويستحق أن يكون ثمناً مناسباً لتفكيك محور المقاومة من إيران الى سوريا الى حزب الله من جهة اخرى (سقوط النظام الاردني، على العكس، يشير أيلاند قد يكون مرهقاً اقتصادياً وعسكرياً بسبب طول الحدود التي ضمن أمنها النظام الاردني بفعالية حتى قبل معاهدة وادي عربة).

لكن استعادة الثقة بالنفس لدى المحللين الصهاينة مصدرها الأساسي، كما يبدو، طبيعة مسار السلطات المصرية ما بعد الثورة على نحو أساسي (قبل المواجهة الراهنة في غزة). فإسرائيل لم تكترث كثيراً للحدث التونسي مثلاً، ربما لأنّها لم تستوعبه كما يجب، أو لأنّها لم تدرك أو تتوقع إمكان انتقاله الى مناطق اخرى، وأقلقتها الحالة المصرية في البداية (وعدم قدرتها على توقع تبعات الحدث التونسي، ولاحقاً بداية الحدث المصري، يمكن أن تسجل في نطاق الفشل الاستخباري والمعرفي الكبيرين). التحولات الممكنة في مصر كانت مقلقة لأنّها تمس بالبقرة الصهيونية المقدسة المتمثلة في موازين القوى الإقليمية والدولية، حيث يمكن تلمس حساسية خاصة وكبيرة لدى العقل السياسي الصهيوني اتجاه أيّ تغيير فيها ضد مصلحة الكيان. ربما لهذا السبب كان الأداء الأميركي شبه العاجز في البداية في الحالة المصرية تحديداً (والارتباك في الحالة التونسية) والتسليم السريع بمصير مبارك وعدم دعمه كما توقعت (أو أرادت «إسرائيل» والنظام السعودي، كما يشير معهد الأمن القومي) مثّلت جميعها مصدر عدم رضى وقلق في الكيان. وهذا القلق لا ولم يتعلق بالمسارات المحتملة حينها لمصر فقط، بل لاعتباره أيضاً مؤشراً مهماً إلى بداية التراجع الأميركي في المنطقة، وهذا أكثر ما يقلق الكيان، الذي يعدّ الولايات المتحدة «أحد أهم مركّبات الأمن القومي»، كما أشار موشيه يعلون، وزير الشؤون الاستراتيجية الصهيونية في محاضرة له في جامعة بار ايلان أخيراً.

ربما لهذا السبب يذكر الراحل جورج حبش، وبحسرة كبيرة كما يبدو، في تقديمه لكتاب «الصراع العربي ـ الاسرائيلي: إسرائيل من الداخل» رحيل الرئيس جمال عبد الناصر وتأثيره الهائل على وجهة الصراع العربي ــ الصهيوني. فخسارة عبد الناصر، وبالتالي خسارة العرب مكانة مصر ودورها المركزي عقب صعود السادات إلى موقع رئاسة الجمهورية، وتوقيعه لاحقاً اتفاقية كامب ديفيد المشؤومة، تعادل بتأثيرها الاستراتيجي الهائل انهيار الاتحاد السوفياتي، كما جاء في مقدمة الحكيم. والحسرة على عبدالناصر ليس مردها وطنية فلسطينية أنانية، وهي ميزة لم يُعْرَفْ بها الحكيم العروبي مطلقاً، بل إدراك عميق لمعنى قضية فلسطين للمنطقة العربية أجمع، لكن حتى الرئيس عبد الناصر لم تتح له فرصة ذهبية كالتي يضعها التاريخ في متناول السلطة المصرية الجديدة.

هنا الوردة، فلنرقص هنا

محقة هي قناة الميادين حين ترفع شعار «غزة برسم العرب والربيع»، لكن بعض عِبر الجولة الدائرة الآن تفرض علينا القول، ليس فقط إن غزة والمقاومة في غزة برسم الإخوان المسلمين الذين عابوا، محقين كما يجدر القول، على النظام السابق مواقفه الخيانية، بل إنّ مستقبل مصر الآن، وبالتالي مستقبل المنطقة العربية كلها، هو برسم الإخوان المسلمين في مصر.

التاريخ الذي يُكتب اليوم بدماء أطفال فلسطين والعرب لن يرحم أحداً. لن نقول، وإن كان هذا سيبدو حقاً وواجباً مستحقاً، أنّه ربما يجب على من أعطته المقاومة مثل هذه الفرصة التاريخية تقبيل أقدام المقاومين فرداً فرداً. يكفي أن ننتظر ماذا سيفعل من عاب على مبارك مواقفه الخيانية من فلسطين وغزة ومصر والمنطقة، ولهم نردد تلك العبارة الإغريقية الشهيرة عن امتحان الصدقية التي رددها صاحب رأس المال أكثر من مرة: «هنا الوردة، فلنرقص هنا»!

ــــــــــــــــــ

* أستاذ علم الاجتماع والدراسات الدوليّة في جامعة ويسكونسن ـ بارك سايد