خبر رسالة إلى الشهيد في يومه: المقاومة مشغولة بالمقاومة.. نصري الصايغ

الساعة 08:42 ص|12 نوفمبر 2012


هذا يوم للشهيد؟
فليكن يوماً مديداً، تطول أزمنته، فلا يحده مساء أو نسيان. هو يوم، لا نسأله فيه، بل يسألنا عنا. يريد أن يطمئن إلى ما تركه عندنا أو فينا. وديعته التي تعتقت في الأرض هل أزهرت حرية بطعم خاص، يلتذ بها من اعتصره الألم، ومن وَجَعِهِ فاض فرح إنساني عام، لا فرح يفوق طعمه؟
هذا يوم للشهيد، وللشهداء في أوطانهم ساحات تسمى بأسمائهم، يؤمهم الزائرون ويضعون الأكاليل على أنصابهم. ومن حق الشهيد أن يسألنا، ليس عن الساحات ـ ما زال الوقت باكرا ـ بل عن أحوالنا في الوطن وعن الوطن في تحولاتنا... يسألنا هل بلدنا تعافى من... ومن... ومن...؟ هل كان النصر حلوا على الجمع، أم أن بعضهم وجد فيه مرارة؟ ربما يستطرد متفائلا جداً، هل تغير مكان شروق الشمس مثلا؟ كانت الشمس قبل دمنا تشرق من الغرب، فهل عادت لتشرق شمس من فلسطين؟
هو يوم يسألنا فيه الشهيد عن لبنان: أما زال منقسما؟ كم دماً يحتاج بعد كي يلتئم، فلا ينفصم؟ كم دماً يعوزه قلبه المعطوب المشطور نصفين على كراهية وأحقاد؟ ما الذي يشفيه من وهن الحب فيه؟
أسئلة الشهيد صعبة جداً. لعله كان يتوقع ان تولد حياة الآخرين، دفعة واحدة، من فوّهة دمه. لعله ظن انه معجزة التحول، وان موته فاتحة الطريق إلى الحرية والكرامة والأخوة. لعله كان يحلم كثيراً، إذ، من غير الشهداء يحلم بالسماءين: سماء الله الأبهى وسماء الإنسان الأبهى.
ماذا نقول له في يوم ذكراه؟ بماذا نجيبه؟ أنقول له إنه متهم، من قبل بعضنا، لأنه السبب في دمار لبنان؟ ألا نخجل من أنهم يبرئون إسرائيل من قتلنا ويحملونه مقتلنا؟ أنعذبه بقولهم ان شهادته مطعون بصدقها؟ أنغدر به ونسمعه ما يقال، بأن دمه مأجور.
لا يقال له كل ذلك. فلندعه على تفاؤله.
أيصدقنا الشهيد، إن اعترفنا له بأن لبنان يجثو على جبهته، ويعفر سياسته بالغضب، لأن بعضاً منه لا يريد أن يعترف بالحرية والتحرير، وبسبب ذلك، هو منقسم، وبسبب ذلك بات نصف شعبه عدواً لنصفه الآخر. يتربصون بسلاح الشهيد، ويتوعدون زناد الشهيد، ويتورطون في استحضار ترسانة الأحقاد المذهبية.
هل نقول له، ونحن في بلد مقعد، مغلق، مقفل، مسدود، مرمي على الهاوية، يراودها طائفيا بكل ما أوتي من دعم وتأييد وتجييش؟ هل يعقل ان نقوله له، ان لبنان فقد عقله عندما فقد قلبه. ولأنه كذلك، بات يفضل اللعب بحبل المشنقة، فيضعها على عنق خصمه، ويختنق هو معه؟
ليس من حقنا، نحن الذين هنا، أن ننغِّص عليه سماءه، فنقص عليه حكاية علي بابا والأربعين حرامي، المنتشرين في الأصقاع اللبنانية كافة.. .ليس من المستحسن واللائق، وفقط من باب عرفان الجميل، أن نكشف للشهيد، شهاداتنا الكاذبة في حق الوطن. فلا وطن لنا بعد. والجنوب متهم بأنه أخذ الوطن والدولة، وأن الدولة مطعونة سيادتها بالسلاح، وأن غيرة الطوائف، سببها الغيرة السياسية من السلاح.
ليس من حقنا ان نقول له: لبنان لا يشبه شهداءه الذين سقطوا من أجل الحرية. بل هو يشبه قتلاه الذين يسقطون في خنادق المذاهب والطوائف وحثالات السياسة.
ليس من حقنا أن نرسم له مشهد لبنان، في ذروة عجزه. وفلسطين في درجة الصفر من النضال، الضفة تعيش على بطاقات التموين الأوروبية، وغزة استبدلت البندقية بالعمامة واللحية. ليس من حقنا ان نروي له يوميات المذابح في سوريا. سوريا التي أمنت له غطاءً لسلاحه، تعيش جحيمها. سوريا اليوم، بلا شعب. بلا قيادة، بلا قضايا، بلا دمشق أو حلب أو درعا أو حماه أو... سوريا، ما عاد فيها سوري واحد، كنا نعرفه. إنهم سوريون على ضفتين: قاتل ومقتول. ولا منزلة بين المنزلتين.
لا، ليس من حقنا أن نقول له، أننا نخشى ان تحضر اللحظة التي نعلن فيها: «وداعاً سورياً»، بعدما أصبحت مسلخاً بشريا. في سوريا الأخ يقتل أخاه. في سوريا اليوم مقتلة متصلة بمقتلة.
علينا ان نكذب على الشهيد. ونقول له: نحن بخير سوريا متوعكة فقط، دول الخليج صديقة لإيران، إيران تصالحت مع السعودية، الكل يعيد تطبيع العلاقات بأخوة عروبية صادقة... علينا أن نكذب عليه بشكل يقنعه، ان «الإسلاميين» أخوة في الدين والدنيا والآخرة، متفقون متضامنون وموحدون بين مذاهبهم ومتفقون ان ما يفرقهم هزيل. «الاخوان» ما عادوا يروجون كذبة التشيع. «الاخوان» عادوا إلى فلسطين من بوابة الإيمان، ولو أن السياسة الواقعية تمنعهم من فك الحصار عن غزة. علينا أن نكذب بشدة وذكاء، ونقوله له: الربيع العربي... ترى ماذا نقول له عن الربيع العربي؟؟! لا شيء أفضل. سنبدو كاذبين جداً، إذ لا يعقل ان يصدق بأن ممالك الخليج تقود جحافل الربيع العربي الديموقراطي في أرجاء الوطن العربي، «سيشتلق» علينا. ويفضح كذبتنا... فلنتحايل عليه، ولنقل له: إن الفصول الأربعة العربية، عادت إلى انتظامها بين اعتدال غير متطرف، وتطرف اعتدل. لم تعد إيران مشكلة، والعراق تآخى فيه الكرد والعرب، وينام الشيعي والسني في بيت واحد.
فلنكذب عليه، كي لا تدمع عيناه، ولنختم جوابنا عليه، بصدق الآية عن المقاومة.
أيها الشهيد: من دمك نستسقي القوة. لا سلاح أقوى من دمك. أدخلت في علم العسكر، معادلة جديدة: انتصار الدم على السيف. المعادلة جديدة وليست قديمة. لأن، ولا مرة في تاريخ العرب، انتصر الدم على السيف. عاداتنا، خسارة الدم بالدم والسيف معاً.
كنتَ سلاحنا الأول، وبه كان النصر. كنت كسناء محيدلي وكسهى بشارة وقافلة ممن سبقوك وممن تبعوك. لا تخاف إسرائيل أسلحتنا بقدر ما تخاف رجالنا... كل واحد منهم جبهة، لأنه مشروع شهيد، ولدمه ما لحبة القمح. تموت في التراب، فتنهض سنبلة، وفي كل سنبلة مئة حبة.
المقاومة بخير. لولا نشاز من شوك السياسة يصيب ظهرها... المقاومة تزداد مقاومة. المقاومة مشغولة بالمقاومة. السياسة ليست شغلتها. ولا يزال المقاوم، على ما تأكدنا منه، مؤمنا بالله وبفلسطين معاً، وهذا هو الصراط المستقيم، صراط الين أنعم عليهم بالمعرفة واليقين والثبات والصبر وبحبوحة العطاء.
لا تقلق أيها الشهيد. كل شيء فان غداً، سوى وجه فلسطين. فلسطين، بوابتنا إلى السياسة والعروبة والوطن والدولة والديموقراطية والحرية. من دونها، نقيم دولة تابعة، ديموقراطية منقوصة، وحرية بلا قضية...
ختاماً... ان طريق الشهادة الأصعب، هو على المدى الطويل الطريق الأسهل، لبلوغ دولة الحرية والعدالة.