خبر الانكماش الجديد في السياسة الأمريكية..محمد السعيد ادريس

الساعة 08:39 ص|12 نوفمبر 2012

حسم جيمس بيكر وزير الخارجية الأمريكي الأسبق (جمهوري)، الجزء الأكبر من الجدل المثار الآن حول جديد السياسة الخارجية الأمريكية في وطننا العربي وقضاياه الساخنة والخطرة وفي إقليم الشرق الأوسط، بمقولة تكاد تكون قد ترسّخت كقانون سياسي حاكم في إدارة السياسة الخارجية لأي دولة، وهي مقولة: “إن قوتنا في الخارج تعتمد على قوتنا في الداخل، لا يمكن أن تكون قوياً دبلوماسياً، إذا لم تكن قوياً اقتصادياً، وأزمتنا المالية تهدد كل هذا، لذلك على قادتنا الاتفاق على تسوية كبرى”.

 

التسوية الكبرى التي يقصدها بيكر هي ما سبق أن وصفه ب”قنبلة الدَيْن الموقوتة«، حيث ينتظر الرئيس الأمريكي المنتخب باراك أوباما استحقاق شديد الأهمية في الأول من يناير/كانون الثاني المقبل 2013 يطلق عليه “حافة الهاوية المالية”بعد أن وصل الدين العام إلى ما يقارب 16 تريليون دولار . والمطلوب أن يتوصل القادة الأمريكيون ديمقراطيون وجمهوريون داخل الكونغرس إلى “تسوية كبرى”تقود إلى تخفيض هذا الدين عبر خطة مالية طويلة الأمد . وقد تحدّث بيكر باستفاضة في محاضرة له بمعهد “وودرو ويلسون”عن تلك “التسوية الكبرى”المطلوبة، وحذّر من أن الدين يقترب من مئة في المئة من إجمالي الناتج القومي، وسيبقى على مدى السنوات الخمس المقبلة، إلا إذا حصلت تغييرات .

 

الشعور بالخطر من تداعيات هذا العجز الاقتصادي يسيطر على الجانب الأكبر من الاقتصاديين الأمريكيين الذين يحذرون من ركود اقتصادي مؤكد، وإمكان خفض ائتماني جديد بعد الخفض الذي حدث في العام الماضي من جانب شركة “ستاندرد آند بورز”ما دفع إلى دخول “وول ستريت”وكبار الشركات الأمريكية لتحذير قادة الحزبين الديمقراطي والجمهوري من خطر الانقسام السياسي القائم على الوضع الاقتصادي والمالي الأمريكي . ففي رسالة أرسلها 15 من كبار رؤساء الشركات الأمريكية الكبرى إلى الكونغرس والرئيس أوباما ونشرتها صحيفة “واشنطن بوست«، حذر هؤلاء من إمكان الركود الاقتصادي ومن التبعات الخطرة إذا فشلت واشنطن في الوصول إلى اتفاق قبل نهاية السنة، وحذروا من خفض جديد وخطر للتصنيف الائتماني للولايات المتحدة، وما يؤدي إليه ذلك من زيادة نسبة الفائدة التي ستزيد بدورها من سوء العبء المالي، وزيادة عدم الاستقرار في الأسواق المالية العالمية . إن وضعاً اقتصادياً على هذا النحو سيؤدي حتماً إلى تقليص في الدور القيادي الأمريكي للعالم، وسيفرض انكماشاً وعزوفاً عن التورط في أزمات ومشكلات وتوترات في مناطق متفرقة من العالم، تجنباً لأي استنزاف متزايد بالقدرات الاقتصادية الأمريكية .

 

هذا الواقع الجديد يدعم من توجهات لدى الرأي العام الأمريكي لا تميل إلى المزيد من التورط العسكري، وتجنب أي دور عالمي نشط يفرض المزيد من الأعباء الاقتصادية في وقت تراكمت وتزايدت الهموم الاقتصادية والاجتماعية فيه وباتت تمثل أولوية لدى قطاع كبير من الأمريكيين الذين سبق أن انتخبوا باراك أوباما منذ أربعة أعوام تحمساً لبرنامجه التغييري الداعي إلى الانسحاب من العراق وأفغانستان، وهؤلاء وغيرهم من فرض التجديد لأوباما، رغم ضآلة إنجازاته، لخوفهم من دعوات منافسه ميت رومني إلى مزيد من سياسات التشدّد في السياسة الخارجية .

 

على هذا النحو يصعب توقع قبول الرئيس المنتخب أوباما أي تورط في حرب ضد إيران مهما كانت الضغوط “الإسرائيلية«، كما يصعب توقّع قبول أوباما التورط في حرب ضد نظام بشار الأسد، لكنه سيكون أميل إلى دعم معارضة لا تأتي بنظام بديل يسيطر عليه السلفيون الجهاديون الأقرب إلى تنظيم القاعدة، وربما يسعى إلى تنشيط محدود لعملية التسوية الراكدة بين “إسرائيل”والسلطة الفلسطينية . وإذا كان أوباما قد تعهد مع رومني على منع إيران من التحول إلى دولة نووية، فإنه لن ينساق إلى استفزازات نتنياهو الداعية إلى الحرب ضد إيران، خصوصاً بعد التوتر الشديد الذي حدث في العلاقات بينهما بسبب تعمد نتنياهو إحراج أوباما انتخابياً ومطالبته، في وقت شديد الحرج، “بالتعهد بوضع “خط أحمر”أمريكي بشأن الحرب ضد إيران . نتنياهو الذي تمادى في إحراج أوباما ولم يستجب لمطالب كل من وزير الدفاع الأمريكي ورئيس الأركان الأمريكي بتأجيل أي مطلب للحرب ضد إيران إلى ما بعد الانتهاء من الانتخابات الرئاسية، لم يستطع أن يخفي انحيازه إلى المرشح الجمهوري المنافس رومني، ما دفع مراقبين كثيرين للنظر إلى الموقف العدائي من جانب نتنياهو للرئيس أوباما على أنه مشاركة في الحملة الانتخابية للمرشح الجمهوري: ولم تخف الإدارة الأمريكية امتعاضها من التدخّل الفظّ لنتنياهو في الحملة الانتخابية للمرشح رومني، حيث كان نجماً في العديد من أشرطة الدعاية الجمهورية التي وجدت في خلاف نتنياهو مع أوباما ذخائر لمهاجمة الأخير واتهامه “بالتخلي عن “إسرائيل«، وإلقائها تحت عجلات الحافلة”.

 

كل هذا يعرفه أوباما جيداً، لكن هذا لا يعني حدوث أي تحول في مواقفه الداعمة ل”إسرائيل”التي سبق أن عبر عنها أفضل تعبير عندما تعهد في خطاب له في الرابع من مارس/آذار الماضي 2012 أمام مؤتمر منظمة “إيباك”الصهيونية، بحماية وجود “إسرائيل”التي وصفها بأنها “تتقاسم مع بلاده المصالح والمبادئ”.

 

موقف التحسب لعدم التورط العسكري في أية حروب جديدة يمتد أيضاً إلى الأزمة السورية للأسباب نفسها، لكن هناك حسابات أمريكية أخرى أكثر تعقيداً تحكم الموقف الأمريكي المتردد من التورط في حرب ضد نظام الأسد، ولكن من دون تفريط في هدف إسقاط هذا النظام عبر حزمة من الوسائل والسياسات البديلة .

 

فالقرار الأمريكي من الأزمة السورية محكوم من ناحية، بخصوصية هذه الأزمة ومحكوم أيضاً بالمصالح “الإسرائيلية”.

 

فنظراً لتعدد أطراف الصراع في سوريا تحرص واشنطن على ألا يكون تدخلها سبباً في أن تتورط مع أطراف إقليمية ودولية في صراعات لا تفضلها واشنطن، كما أنها لا تريد أن يكون تدخلها لإسقاط النظام لمصلحة أطراف سورية أو غير سورية معادية ل”إسرائيل”.

 

ومن ثم فإن أي تدخل أمريكي أو أي دور أمريكي فعال في أزمة سوريا، سيكون مرتبطاً بالإجابة عن سؤال: من سيحكم سوريا بعد بشار الأسد . حيث ترفض واشنطن أن يأتي إسلاميون متشددون إلى السلطة في دمشق وعندها تجد “إسرائيل”نفسها محاطة بحزام إسلامي شديد العداء .

 

إضافة إلى القيود السابقة هناك من يرى أن إطالة الأزمة السورية مصلحة أمريكية و”إسرائيلية«، فهي استنزاف لقدرات القوى الداعمة للرئيس الأسد خاصة إيران وحزب الله وروسيا، كما أن إطالة الأزمة تؤدي إلى استنزاف قدرات القوى السورية المعارضة هي الأخرى، ويسمح بتفكيك الكيان السوري ويفاقم من العداءات بين معظم مكونات الدولة السورية، ما يؤدي إلى تحويل سوريا إلى كيان هزيل وعاجز غير قادر على أن يكون، على المديين القريب والمتوسط، مصدراً لتهديد أمن “إسرائيل”ووجودها، كي تكتمل دوائر العجز العربية بتدمير العراق، وقبله احتواء مصر ب”كامب ديفيد”ويكمل السقوط السوري باقي أضلاع مثلث العجز العربي .


هذه الحسابات مجتمعة تأتي لتتوافق مع احتمالات حدوث انكماش حقيقي في سياسة أمريكا الخارجية، وهو انكماش مطلوب كي تتفرغ الإدارة الأمريكية لمعالجة الاختلالات الهيكلية شديدة الخطورة في الاقتصاد الأمريكي التي تتهدّد المستقبل الأمريكي كله .