خبر كارتر ودستور كامب ديفيد..د‏.‏ محمد السعيد إدريس

الساعة 01:53 م|06 نوفمبر 2012

في كل مرة يزور فيها الرئيس الأمريكي الأسبق جيمي كارتر مصر أشعر بالخطر وأحس بأن كارثة تتهددنا رغم كل ما يبدو عليه المظهر الخارجي لهذا الرجل وما يحرص عليه من وداعة ودماثة خلق‏.‏

فأنا أري الرجل دائما نذير شؤم منذ أن أوقعنا وأرغم الرئيس المصري الأسبق أنور السادات علي أن يوقع علي ما سمي كذبا بـ معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية عام 1979, التي تعرف إعلاميا بمعاهدة كامب ديفيد, وهي المعاهدة التي استهدفت استئصال كل نجاح حققه المصريون في حرب أكتوبر1973, ومنع مصر من أن تعود ثانية دولة قوية قادرة علي أن تحارب وتنتصر علي الكيان الصهيوني, وتحويلها, عبر حزمة من السياسات, إلي كيان رخو عاجز عن الفعل المقتدر, إلي كيان تابع للإرادة الأمريكية, وخاضع للإرادة الإسرائيلية, ومنفصل عن دوره التاريخي كقيادة لأمته العربية.

هذا الرئيس الأمريكي لم يكتف بإرغام الرئيس السادات علي القبول بهذه المعاهدة لكنه أجبره أيضا علي سحب طلب شديد الأهمية كان قد تقدم به فريق التفاوض المصري في محادثات كامب ديفيد كشرط للقبول بتلك المعاهدة وهو أن توقع إسرائيل علي معاهدة حظر انتشار الأسلحة النووية, علي نحو ما وقعت مصر, كي تكون المنشآت النووية الإسرائيلية مفتوحة دون قيود أمام المفتشين الدوليين التابعين للوكالة الدولية للطاقة الذرية, والالتزام بكل الضمانات المفروضة من هذه الوكالة. كارتر أجبر الرئيس السادات علي سحب هذا الشرط رغم علمه بأن الجيش الإسرائيلي كان قد تهيأ في لحظة حرجة في أثناء حرب أكتوبر 1973 لاستخدام السلاح النووي الإسرائيلي ضد الجيش المصري.

أتذكر هذا كله وغيره الكثير للرئيس جيمي كارتر لكن كل هذا لا يقارن بما تجرأ عليه يوم الثلاثاء الماضي (30 أكتوبر الفائت) في لقائه مع المستشار حسام الغرياني رئيس الجمعية التأسيسية للدستور. فقد تناقلت صحف مصرية بعض ما دار في هذا اللقاء, وذكرت أن كارتر طلب من المستشار الغرياني مطالب تذكرني بذلك العهد البائد للاستعمار البريطاني لبلدنا, عندما كان حضرة المندوب السامي البريطاني يفرض شروطه ويعطي أوامره لملك مصر فيستجاب لها فورا ودون تردد; فقد طالب بسرعة الانتهاء من الدستور, وتساءل عن بقاء مجلس الشوري, وإمكانية وضع معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية في الدستور, وحقوق النساء والأقباط.

هذا التجرؤ السافر للرئيس الأمريكي الأسبق علي التدخل في شئوننا الداخلية لم يكن ليحدث لو أنه يعلم أننا دولة مستقلة ذات سيادة.

يبدو أن الرئيس الأمريكي يعلم عنا حقيقة ما لا نعلمه. نحن نعتقد أننا دولة مستقلة تتعامل مع كل دول العالم من هذا المنطلق, وأن سيادتنا الوطنية هي عنوان شرفنا وكرامتنا, لكن كارتر, وربما غيره كثيرون يعلمون ما لا نعلمه. يعلمون أننا دولة تابعة, وأن التبعية هي العنوان الجديد لـ الاحتلال. ونحن ومنذ بدأنا في الالتزام بالتعليمات الأمريكية وشروط صندوق النقد الدولي وقبلنا ببيع القطاع العام, ومنذ الأخذ بسياسة الخصخصة والتحول للنظام الرأسمالي والاعتماد علي المعونات الخارجية وخاصة الأمريكية, وتصفية الاقتصاد الوطني والتراجع عن دور الدولة المنتجة إلي الدولة المتسولة فقدنا استقلالنا وأصبحنا نتلقي الأوامر والتعليمات, تماما كما كان يحدث في سنوات الاحتلال البريطاني لمصر.

فعندما ظهرت أصوات في إسرائيل تحذر من احتمال تعرض معاهدة السلام المصرية الإسرائيلية للخطر من جراء نجاح الثورة المصرية وسقوط نظام حسني مبارك حليفهم الأمين, خرج من يؤكد, عن يقين, من داخل إسرائيل ومن داخل أمريكا أن المصريين لن يستطيعوا والسبب أنه مادام أن الاقتصاد المصري يعتمد علي مصادر خارجية بالأساس( السياحة وقناة السويس والمعونات الأمريكية) فإن مصر ستبقي عاجزة عن أن تقول لا للولايات المتحدة أو إسرائيل, لذلك كان منطقيا, ووفق هذا اليقين أن يخرج علينا روبرت ستالوف مدير معهد واشنطن لدراسات الشرق الأدني( أحد أهم أذرع اللوبي الصهيوني بالولايات المتحدة) في مقال منشور له يوم6 أغسطس الماضي ليهددنا بـ قطع المعونة العسكرية وبالحرمان من التأييد الدولي ومن دعم الاقتصاد المصري المترنح إذا لم نحرص علي التأمين الكامل لسيناء ضد كل ما يهدد أمن إسرائيل وإذا لم ننسق أمنيا مع إسرائيل, وإذا لم نمتنع عن التحريض ضدها عبر ما وصفه بحقارة شديدة: الألعاب الطفولية التي تلبي أسوأ غرائز المصريين ويقصد ضرورة التوقف عن أي نقد لإسرائيل, ويعتبر هذا النقد ألعابا طفولية.

وقتها لم يخرج أي رد رسمي مصري علي هذا التطاول, تماما علي نحو ما حدث من صمت شديد السوء علي مطالب كارتر من المستشار الغرياني.

نحن نتعارك بل ونتصارع الآن حول الدستور ومحتواه وبالأخص حول الشريعة, وحول شرعية الجمعية التأسيسية دون أن نقترب من قريب أو بعيد من الكارثة التي لا نعيها ولا ندركها, وهي حقيقة أنهم يتعاملون معنا باعتبارنا دولة محتلة.

نتصارع حول الشريعة كمصدر رئيسي للتشريع, ولا ندرك أنهم يفرضون علينا أن تكون إسرائيل ومعاهدة السلام معها هما المصدر الرئيسي للتشريع وليس الشريعة. لقد تحولت معاهدة السلام مع الكيان الصهيوني بالفعل إلي مشروع سياسي يحكم النظام المصري, وعندما طلب الرئيس كارتر تضمين تلك المعاهدة في الدستور المصري فإنه حتما كان علي وعي بأنه لا يطلب شيئا خارجا عن المألوف أو شيئا ليس من اختصاصه أو لا يحق له, بل أنه كان يتحدث عن وعي وإدراك كاملين لما يعتقده أنه حقائق أو ثوابت تحكم السياسة المصرية ويجب أن يجري تضمينها في الدستور.

أين نحن من هذا كله, وإلي أين تتجه علاقاتنا مع الولايات المتحدة التي تنتخب رئيسها الجديد اليوم, وأين نحن في العلاقة مع الكيان الصهيوني, وأين الدستور المصري من هاتين العلاقتين وبالتحديد من الاختيار بين الدولة المستقلة ذات السيادة, والدولة التابعة, وبين الدولة القوية المقتدرة والدولة الضعيفة العاجزة أو الدولة الرخوة.

لن نستطيع أن نبني دولة الشريعة الحقة ولا دولة الحرية الكاملة( حرية المواطن وحرية الوطن) ولا دولة العدالة الشاملة (القانونية والاقتصادية والاجتماعية والسيادة) ولا دولة العزة والكرامة دون بناء مصر القوية المقتدرة المستقلة غير التابعة المتحررة من كامب ديفيد والقادرة علي إلقاء مطالب كارتر في مزبلة التاريخ.