خبر يا غزة ستبقين بارتفاع قامة هاشم.. علي عقلة عرسان

الساعة 01:17 م|09 أكتوبر 2012

غزة بقامة هاشم، شهامة وصمود ومقاومة، يتجدد قصف العدو الصهيوني العنصري لها مع استمرار الحصار عليها منذ سنوات، ويتجدد صمودها ووضوح خياراتها، فالمقاومة طريق، وفلسطين هدف، وامتلاك الوسائل والأدوات وكل الإمكانيات والقدرات والمهارات وسائل، والإرادة حاكم وموجِّه ومنار. وفي غزة روح المقاومة تترسخ، ونخوة الشرفاء وشهامتهم تتعزز، والحس الوطني والقومي – الإنساني ينمو ويتجسد في سلوك، والاستعداد للتضحية يولد بعد كل عدوان وكل فجيعة، وتنهض من حريقها بعد كل اشتعال.. فهذا البلد العزيز على القلب قدَّم للأمتين العربية والإسلامية، مثلما قدَّم لفلسطين وقضيتها وشعبها، جرعاتٍ من الأمل والإرادة والعزِّ في أوقات عزَّ فيها الأمل، وتهافتت الأرادة، واضمحلت تجليات العزِّ.. وكم شعرنا نحن بالحزن والبؤس والإحباط والتضاؤل.. يوم بدأ العدو الصهيوني يكتسحها ويستبيحها ويدمرها ويقتل أطفالها وشبابها ونحن صياح ودموع لا أكثر، وبقي شيء من ذلك يترسب في أعماقنا يوم حاصرها بالجند والسلاح والنار والجدران، إضافة إلى حصار الخنق الاقتصادي التام من البر والبحر، والخنق الأمني والعسكري.. وبقينا على نارها قعود وعلى مشاهدها شهود.. ثم يوم "تفرَّجنا" على مساهمة الرئيس حسني مبارك مع العدو الصهيوني في تعزيز الحصار عليها بإقفال البوابات وبناء جدار حديدي عازل وجعل جند مصر الأعزاء حراساً على المشارف والمفارق، يأمرهم بأن يسدوا الطرق على طالب العيش والملح من الغزاويين في رفح وغير رفح، ثم يكلفهم ما لا يطيقون حين أمروا بتنفيذ وعيد وزير خارجيته الذي أعلن أنه " سيكسر رجل من يتخطى الحدود من أهلها"؟!.. نعم سمعنا وشهدنا وصرخنا وبقينا قعوداً وشهوداً. وحين تنادى شرفاء وإنسانيون ووطنيون وقوميون وإسلاميون، من أنحاء العالم، ليكسروا الحصار عن غزة، كان من بين المساهمين في ذلك الفعل النبيل بلدانٌ وأشخاصٌ نكبر فيهم نجدتهم ومشاعرهم وحسهم الإنساني ووقوفهم بوجه الطغيان العنصري الصهيوني.. يومها تهللت وجوهنا، وغزا بعض قسماتنا التحدي مشوباً بالرضا، ويومها كان من بين تلك البلدان وأولئك الأشخاص الذين ساهموا بكسر الحصار سورية وسوريون.

وقد أحزنني اليوم وضع سورية ووضع السوريين، وشق عليَّ الكلام والسكوت، وشقَّت قلبي شفرة حادة شقاً لا يُخاط ولا يلتئم ولا يبرى.. فمن أجل سوريين وسوريات تُجمع تبرعات ومساعدات من أي نوع، حيث أوضاعهم في مخيمات التشرد والنزوح واللجوء لا تطاق، وهم/ وهن.. هناك فيها يحتاجون إلى كل شيء؟! ضاقت عليَّ الدنيا بما رحبت.. ليست هذه سورية التي أعرف. واستعدت صورة هذا البلد سورية وشعبها الذي حرره من الحاجة والاستكانة لأعدائه والإفلات من قبضتهم تمكُّنُه من توفير الغذاء والضروريات في أيام الحصار والضائقات، وتوفيره المحاصيل الاستراتيجية لا سيما الحبوب والزيوت والحاجات الضرورية لمواطنيه، فعاشوا بأمن من جوع وبقيت في شغاف قلوبهم تحديات، وبقي شيء من خوف ونار تعسَّ لأسباب أخرى لا تخفى على من يدقق من الأنام. ونجت سورية من قبضة " الحصار الاقتصادي، ولم تحتج للمساعدات الخانقة السالبة للإرادة والقرار السياسي".. وها هي سورية اليوم تغرق في الدم والدمار وتحتاج، وبعض أبنائها يتشردون وتُجمع لهم المساعدات والتبرعات وهم رقودٌ في المخيمات.؟!

وكبر في عيني، على الرغم من ألمي وضيقي والعاصف العنيف الذي يعصف بي، كبر في عيني أن أقرأ من غزة المحاصرة منذ سنوات.. غزة التي يشن عليها العدو الصهيونني العنصري المحتل عدواناً بعد عدوان، ويقتل من أبنائها أطفالاً وشباباً، ويضيق مجالاتها الحيوية ويضغطها بين الرمل والبحر.. أحزنني أن أقرأ منها، كما من مصر والأردن ولبنان ودول والخليج العربي.. إلخ، إعلاناتٍ لجمع تبرعات لمن؟ لسوريين وسوريات عالقين بين القفار والغبار والابتزاز والحاجة للماء والطعام والملابس والمدارس.؟! يقول الإعلان الغزاويُّ الذي هو كما أسلفت من بين إعلانات، وهو بالذات جعلني أشعر بالحزن والزهو في آن معاً وليس سواه، يقول: " ساهم في انقاذ نفس من الموت، تبرع من أجل سوريا، يمكنك التبرع لصالح سوريا ارسل رسالة لـــ 9596 بــ جنــ 5 ـيهات".. يا الله.. غزة المحاصرة تجمع التبرعات؟! لقد وجدت في هذا الفعل من غزة المحاصرة رصيد شرف قومي وإنساني فطربت، بمعنى الطرب لغوياً.. أي أنه الحزن أو الفرح وقد يتداخلا كغيوم شفافة تخترقها أشعة الشمس وينبعث منها رذاذ دمع يغسل الأنفس ويخفف عن القلوب بعض ماتجد.. طربتُ واشرأب مني العنق نحو الأعلى فالأعلى.. في غزة هاشم، على الرغم من الحصار والقتل الصهيوني للأبناء، هناك نبض الحياة وشرف الانتماء وفيض المشاعر الأخوية وسموها.!! وما لبثتُ أن تحولتْ نفسي في مراياها لترى في ذلك الفعل - المشهد "الحالَ الذي آل إليه وضع سوريين والوضع في بلدهم سورية"، فانسرب مني الطرب إلى شعبة من شعبتيه، شعبة الحزن المأساوي.. فانحنى عنقي وانحنت قامتي وصرت مثل نخلة تذوي في الصحراء بلا ماء، تأوهت وغضبت: أ.. سورية الوطن والموئل والعزة الوطنية والقومية ودار الأمن والخصب.. بيت العرب ودار الإسلام.. تغرق في دمها ويلفها البؤس ويغزوها الحقد والإرهاب والظلم والطغيان والظلام.. ويتشرد بعض أبنائها ويجوعون، ويحتاجون إلى من يجمع لهم بعض ما ينقذهم من براثن الحاجة والجوع والموت؟! أين كنا يا شعب وأين أصبحنا وإلى أين المصير؟! وماذا بوسعك يا سورية العزيزة أن تقدمي اليوم لنفسك ولعزة شعبك، ولغزة في محنتيها "الحصار والعدوان" وأنت محاصرة وتقتلين نفسك ويقتلُك غيرُك؟! غزة المحاصرة منذ سنوات يستفرد بها الصهاينة معظم الوقت فيقتلون ويقتلون، كما يستفردون بالقدس والضفة فيستوطنون ويهودون، ويفعلون في أرض فلسطين ومقدساتها كل ما يريدون، في سُبات من أمة العرب وتململ سلحفاة من أمة الإسلام؟!.. حتى أنت يا سورية الحبيبة لا تستطيعين فعل شيء لها، لأنك حتى إن رفعت الصوت فلا تستطيعين أن ترفعي السيف، لأن سيفك في رقاب أبنائك وسيف أبنائك في رقبتك، ويكاد الكل يقتل الكل.. وأعداؤك لا يرتوون من دمك ولا يشبعون من لحمك ويطلبون المزيد.؟! فبئس هذا الحال من حال.. بئس هذا الحال من حال.!!

نحن هنا، وبهذا القول، لا نستنفر المشاعر الطيبة لكي نصل إلى مجرد ما يُبقي ويذر منا ومن بلدنا وكرامة شعبنا ووحدتنا الشاملة وقوتنا وموضع الأمل منا في التحرير وحماية الذات.. بل نأمل أن نستنفر العقلَ والمسؤولية والوعي ونوقظ الضمير، لكي نسأل في الصحو واليقظة كل من يبقى بانتظار الجوع والموت: لماذا لا توقف كل من يجلب عليك الجوع والخوف والموت..؟! أنت السيد ولا سيد سواك.. وأنت المستهدف وأنت الموقد والنار والشواء.. وأنت في الوقت ذاته المنقذ الحق وصاحب الحق في أن يقول لا.. وكفى.؟!! ولكي نقول أيضاً لمن "يشكلون مجالس الحكماء"، ولمن يقولون بحكمة الحكم والمسؤولية.. أين الحكمة فيما يجري في أرض الوطن وعلى الشعب؟ أين الحكمة في العداء والاستعداء وجلب الخيل والليل على الوطن وعلى الناس؟! ولنقول لمن يطلبون رؤوس بعضهم بعضاً: إنكم تسقطون رأس الوطن والشعب وكل العلاقات الطيبة والقيم السليمة.. ولمن يريدون إنقاذ سورية من نفسها نقول بكل القوة والوضوح: ليس هذا هو الفعل المنقذ، ولا هذا هو الطريق، وليس هذا هو الانقاذ أصلاً إنما هو الإفناء بكل صوره.. ومن بعد نسأل أهل الحكمة والمسؤولية من كل الأطراف وفي كل الأطياف: ما هي تجليات الحكمة إن لم تكن بدايةً ونهايةً في حفظ الإنسان والقيم والأوطان؟ في حماية الناس وتوفير أسباب الأمن من جوع وخوف لهم، وجعل الأحياء يشعرون بمعنى الحياة والكرامة بحرية.. نعم بحرية صانها الله واختطفتموها أو ادعيتم أنكم دعاتها وحماتها والأوصياء على من يمارسونها أو يستحقوقنها؟! متى تجودون على الشعب والوطن بقول وفعل وسلوك يحقن الدم، ويحمي العرض، ويكفّ يد الغريب والقريب عن القتل والإرهاب والتدمير والنهب والسلب والفتك؟ متى يقف كلُّ "حكيم عظيم.." مع نفسه ليبسط أمامها الأسباب والأهداف والوقائع والواقع والوسائل والنتائج.. ومن ثم يسألها عما فعلت وعما يجب أن تفعل ليكون هناك وطن لشعب، ولكي يكون في الوطن وللشعب أمن من جوع وخوف، ثم بحث عن مقومات الحياة الكريمة وقيم العيش المشترك في بلد سيد كان على التاريخ خير من يحمي العيش الواحد لا العيش المشترك.. ولا نتكلم هنا عن الحرية والتحرير والبناء والإعمار والتقدم والازدهار والعلاقات الأخوية وتاريخ سورية الأبية.. ولا نتناول ما يتصل بذلك كله على الصعد الوطنية والقومية والإسلامية والحضارية.؟!

إننا لا نتوجه للأدوات فالأداة لا تملك افرادة والسيادة، بل نتوجه إلى من يعتبرون أنفسهم أعلى من الأداة وأصحاب إرادة وسيادة، ويشرفون على الأدوات ويحركونها ويستثمرون قدراتها، نتوجه إليهم ومن خلالهم إلى كل من يعنيه أمر البلد والشعب والعدل والبقاء بكرامة قائلين: ألا اتقوا الله وتعالوا جميعاً إلى كلمة سواء، تحت سقف الوطن البيت والأمة الخيمة.. ولترجع كل نفس إلى ذاتها قليلاً بعيداً عن الكِبْر والتحدي والتجارة وشهوة السلطة والعناد الفارغ وإعلاء منطق القوة على كل منطق.. إن في المراجعة والتراجع فرصة لكل ذي موقع وموقف ورأي وشأن- ولا نتكلم عمن لا يملكون من أمرهم شيئاً- ولكل من نراه يغرق في تيار الدم والدمار ويغرقنا معه فيه.. إنها فرصة له وفرصة لغريمه وفرصة لنا جميعاً وللوطن ولمن هم أبعد، ممن قد تطالهم نارنا وتطالنا نارهم.. إنها فرصة يصحو فيها العقل من سُبات، ويتنفس الضمير من اختناق، وتزول عن البصر والبصيرة غشاوات.. ألا افعلوا وسترون أن من يرفع الحقَّ والعدلَ والمنطقَ فوق كل اعتبار وكل شيء سوف يستفظع القتل وإراقة الدم وترويع الناس والإرهاب وكل فعل مصدره الشر ويرتبط بالشر ويغذي الشر، وسوف يستصغر عندها ما يدفعه إلى قول وفعل وسلوك كل منها يؤدي إلى التهلكة، ولا تلقوا بأنفسكم إلى التهلكة ولا تكونوا أداة حقد وموت.. وسوف يجد المرء منكم نفسه مسوقاً في طريق تفضي إلى الحكمة، لأن الحكمة في نهاية المطاف سلوك ينبع من تقوى الله ويبنى على تقوى الله.. وسيفقه جيداً المسؤولية الكامنة في قوله سبحانه وتعالى، وما فيه من الحكمة والتقوى، حيث يقول في كتابه االعزيز: ﭽ ﭙ  ﭚ   ﭛ  ﭜ   ﭝ  ﭞ  ﭟ  ﭠ  ﭡ  ﭢ  ﭣ   ﭤ  ﭥ  ﭦ  ﭧ  ﭨ  ﭩ  ﭪ   ﭫﭬ  ﭭ  ﭮ  ﭯ  ﭰ  ﭱ  ﭲ  ﭳ                 ﭴ  ﭵ  ﭶ  ﭷ  ﭸ  ﭹ  ﭺ  ﭼ المائدة: ٣٢  

إن سورية ستبقى، وهي لأبنائها البسطاء الأوفياء الطيبين الذين لم يرفعوا السيف عليها، ولم يغرقوها في الدم والدمار والحقد والخوف والجوع والجهل، ولم يشوهوا صورتها أمام شعوب العالم ودوله.. ستبقى سورية لأمتها، وما سورية إلا ثوابتها ومبادئها وتاريخها العريق وموقفها القومي.. فسورية لكل أبنائها المنتمين الشرفاء الطيبين الأوفياء، وهي لكل عربي يرى فيها بيته ويحرص عليها كما يحرص على بيته.. ونريد لها أن تخرج من محنتها بسرعة لتكون لكل أمتها.. لتكون سنداً لأهلنا في الجولان وفلسطين والقدس وغزة وفي كل موقع من الوطن العربي.. فما هي سورية غير مواقفها وتاريخها الوطني والعربي والإسلامي والحضاري..؟! إنها هكذا تكون ذاتها، وهكذا نريدها أن تكون: قوة لنفسها ولمن يحتاج إليها من أبناء أمتها.. سنداً للقدس والأقصى ولغزة في حصارها وصمودها.. غزة التي هزَّني إعلانُها الإنساني وموقفها النضالي وحركا وجداني.. فيا غزة الصامدة العربية الإنسانية ستبقين بارتفاع قامة هاشم، جد الرسول عليه الصلاة والسلام، تقاومين وتصمدين وتنتصرين مع أبناء فلسطين كلهم وأبناء الأمة العربية كلها، لتكون فلسطين حرة محررة وعربية من البحر إلى النهر.

 

دمشق في 9/10/2012

 

علي عقلة عرسان