خبر تعالوا نشعل نور القلب.. علي عقلة عرسان

الساعة 08:55 ص|04 أكتوبر 2012

حلب في الثالث من تشرين الأول 2012، سيف يضعِف الدولة ودولةٌ تمتشق السيف، وربما لا سيف الدولة ولا دولته ولا المتنبي وألا أبو فراس ولا الفارابي ومن قبلهم ومن جاء بعدهم يشغلون البال الآن في خضم المأساة التي نتابع تفاصيلها في ساحة سعد الله الجابري التي كانت بهية وجميلة وخضراء وعامرة، قبل أن يشملها الدمار صبيحة هذا اليوم الحزين، وفي غيرها من ساحات الوطن الحبيب. صِبغة الوطن اليوم حناء حزن، حلب بثوب أسود مطرز بقرمزي تجمع من الساحات أشلاءً بعد الحريق الكبير الذي أتى على معظم أسواقها القديمة العريقة؟ حلب ثكلى وحزينة.. ثلاثة انفجارات لسيارات مفخخة هزت ساحة الجابري، وقذائف هاون نزلت في الساحة إثر الانفجارات، ومفخَّخَان أو ثلاثة كانوا بلباس جند الميدان في الجيش العربي السوري، مموهون بصورة متقنة، يهدفون بتفجير أنفسهم إلى أن يضيفوا شهداء وجرحى ودماراً إلى ما كان من ذلك وسط تجمع الناس الذي يأتون لينقذوا الناس؟! وكان أولئك سينجحون في عملهم ذاك ويضيفون موتاً إلى الموت وضحايا إلى الضحايا، لولا أن تداركت ذلك عناية الله وفطنةٌ وأيادٍ كشفت أمرهم بوصفهم إرهابيين مفخَّخين.

أي بشر يتجرد من الحس الإنساني والوطني، أي عقل شيطاني منفلت من عقاله، وأي فعل هذا الذي يستهدف مدنيين وعسكريين هم أخوة وأبناء وطن واحد وشعب واحد في مدن وبلدات سورية العربية البلد الذي كان على قلب رجل واحد؟ وأي معنى مما يمكن أن يلامس الروح ويهزّ الكيان ويؤثر في الوجدان يريد أن يصل إليه المتقاتلون على جثة الوطن يفني كل منهم غيره؟ وأي معنى سامٍ في وعي أو لا وعي من يكبِّر لنجاح الفعل الإجرامي المدمر الفظيع، وذاك الذي يرفع التكبير في الوقت ذاته عبر فضاء المكان والوجدان استفظاعاً له وإدانة لفاعله ولما حدث ويحدث في كل مكان من البلد العزيز سورية.. والكل يكبر باسم الله، ويرى أنه ينصر الحق ويطلب من الله أن ينصره!؟ وكيف يلتقي فعلان متضادا الهدف في فضاء واحد من مواطنين في بلد واحد يتطلعون إلى إله واحد ويدعون أنهم يخدمون الوطن والشعب كل بفعله!؟ ماذا يعني أن يقوم شخص، ابن شعب ووطن وأمة وتاريخ وعقيدة سامية، بمثل هذا الفعل الرهيب " التدمير والقتل والإرهاب والتعذيب والقهر"، باسم الدين والوطن، في مدينة ذات تاريخ وبلد هو مهد الأبجدية والحضارة؟!.. ويقوم به ضد شعبه ذي الماضي العريق والقيم السامية والعلاقات الحميمة؟! لا أكاد أصدق ما يجرى لولا مثول ما أرى بقوة وحدة وقسوة. أفلا يثقل ذلك الضمائر بما تطيق وبما لا تطيق؟! أفلا يطرح ذلك أسئلة جوهرية وجذرية عميقة تتصل بالخلل التربوي والثقافي والعقائدي والروحي والسياسي الذي يجعل من أشخاص أدوات بيد أعداء أو متفجرات بوجه البلد والشعب؟ ويجعل الوطن قابلاً للاختراق بل لأشكال لا تطاق من الاختراق؟ بلى.. بلى.. وعلينا أن نسأل أنفسنا ونلومها قبل أن نلوم العدو ونسأله عن حقوق وقيم، وقبل أن نعتب على الشقيق والأخ والصديق ونطالبه بمراعاة الأخوة والصداقة وصلة الرحم.؟! أليس من الضروري مقاربة ذلك كله بموضعية ومنهجية ومسؤولية خارج حدود الإدانة والمؤامرة والاتهام وتبادل الموت ورد المسؤوليات كل على الآخر.؟! أعتقد أن نعم، وتلك مسؤولية تلقى على عاتق العارفين والمعنيين والمسؤولين ولا يطالب بها من يجمعهم طبلٌ وتفرقهم مقرعة، أو من ارتبطوا بغير أرضهم وثقافتهم ودينهم وقيمهم الوطنية والقومية والروحية والحضارية.. وهم يطالبون بها نظرياً وميدانياً ومتابعة حتى لتأخذ النتائج العلمية طريقها إلى القرار السياسي والهدف الاستراتيجي في مجالات التربية والتعليم والسياسة والثقافة والإعلام والفن.. ومعطيات الحياة والعمل والسلوك في بلدنا، ومقومات ذلك كله والمعايير والقيم والاعتبارات التي تحكم الفعل ورد الفعل والممارسة وما يترتب عليها، وأشكال التدخل الخارجي وكيفية التعامل معه من خلال مجتمع متماسك متوافق متآزر، لا ظلم ولا ضيم ولا ثغرات ولا نعرات فيه، مما يضعفه ويزلزله ويقوده إلى مهاويه، يعي من هو وما ذا يريد، وما يستهدفه وكيف يتم الاستهداف، وكيف يواجَه الاستهداف ويمضي إلى أهدافه ويحقق تقدماً وتنمية ونهضة.

ومن أسف أن يتم هذا الفعل في حلب بعد أن حُرقت أسواقها التاريخية القديمة، وأن يستهدفها الإرهاب الأعمى كما استهدف دمشق وحمص وحماة وإدلب ودرعا والقامشلي وغيرها وغيرها من مدن سورية وبلداتها قبل ذلك؟!، وهو فعل مكلف جداً لسورية وشعبها، بشرياً ومعنوياً ومادياً، اقتصادياً واجتماعياً.. إن مليارات ومليارات الدولارات يتكلفها الوطن والشعب إضافة إلى خسارة الذاكرة التاريخية والتراث والوجدان الفردي والجمعي والعلاقات الاجتماعية والصلات الفريدة التي تربط أبناء مجتمعنا بعضهم ببعض.

ما ذا يريدون من أهل حلب أو أهل دمشق، من السكان المدنيين في أية مدينة وبلدة وقرية ومزرعة؟ أن ينخرطوا جميعاً في دوامة العنف والحقد والمقت والاقتتال ليكثر الموت ويباد الشعب ويدمر ما تبقى من البلد والإرادات والأنفس.!؟ ليس كل أفراد المجتمع، في أي مجتمع، على رأي واحد، ضد أو مع.. وإجبار الناس على موقف بالتهديد والوعيد والتنكيد والإرهاب والعنف والقهر والقوة الطائشة فيه بلوى وكارثة من جهة وفيه رفض ضمني من الناس لمن يطبل ذلك أو يفرضه ويتبع شتى الطرق للوصول إليه، وفيه رفض للأسلوب الذي يتبعه، وفيه شقاء للناس، ولا سيما الأطفال والنساء والشيوخ منهم.

إن من يريد أن ينقذ الشعب أو أن يحميه أو أن يعزز إرادته ومواقفه وقدرته على الاحتمال لا يقتله ولا يشقيه ولا يذله ولا يفنيه.. بل يرحمه ويحترمه ويشعره بالأمان ويساعده على توفير الأمن والاستقرار له.. ومن يريد حاضنة شعبية له لا يفجر قلبها لكي يدخله ويسكن فيه، بل يصل إلى ذلك بالحسنى؟! ومن يفعل ذلكيرتكب أكثر من حمق وجنون ويتسبب بمآسٍ وفوضى مدمرة.. ويقوم بما هو أكثر من الترامي على ما فعل ما يهلك الحرث والنسل ولا يرضي الله ولا البشر، فضلاً عن أنه لن يجعل من يقع عليه فعله يحترمه أو يتمكن من كسبه إلى جانبهً، لأن خير وسيلة لكسب قلوب الناس أن تقدم لهم من نفسك قدوة بالسلوك والتعامل والعمل، وأن تقنعهم بالممارسة قبل الكلام بأنك على حق وأنك تستحق ما تدعوا إليه وترفعه من شعار.. فالفعل مقدم على الكلام في هذا المقام وفي غيره مما يُعتد به بين الأنام..

في البال طفلان حلبيان صغيران هربا من الاقتتال الجاري في بعض شوارع حلب وأحيائها، هربا من النار المستعرة ولجأا إلى قبو بناء في ساحة سعد الله الجابري الجميلة، ناما في قبو ذاك البناء، ناما ولم يجدا خبزاً ولا ماء، فالليل والخوف والجوع من القهارين ولكن الرعب أشد قهراً.. ناما وربما حلما.. كانت أحلام يقظتهما بأمن ورغيف.. وربما بلعب ممتع.. أما أحلام نومهما فلا نعرف عن تفاصيلها شيئاً. حلما.. وربما كانت أحلامهما كوابيس تضاف إلى ما يعيشانه في اليقظة من كوابيس.. من يدري؟! فالطفولة تشير ولا تشرح.. ولم يتح لأحد أن يسألهما عن أسرتيهما وعن آلامهما وأحلامهما لأنهما ناما ولم يستيقظا.. استشهدا هناك.. قتلا بفظاعة في التفجير مثلهم مثل أبرياء كثر، بعضهم كان يسعى ليطعم أولاداً، وبعضهم يركض ليصل إلى عمله، ومنهم من جاء في الصباح ليفتح محلَّه ويستفتح، أو لشرب قهوة الصباح في ظل ظليل ومنظر جميل.. وطلعت الشمس صباح يوم الأربعاء الحزين على حلب، وهي بنظر الكثيرين تبكي على مدينة منكوبة، وشعب أبي يذبح بعضُه بعضاً بعبثية غبية وجنون رهيب، تنفيذاً لماذا ووصولاً لماذا إذا كان الذبح طريق والموت نهاية؟! أهو لتنفيذ مخطط يستهدف سورية بكامل أبعاد اسمهما وموقعها وتاريخها ومقومات وجودها وقيمه ومعانيه، يستهدفها بأيدي أبنائها، وفق ما يُدّبره لها ولهم أعداؤها وأعداؤهم؟! إذن أين الوعي والمسؤولية واللائحة الطويلة من المقومات البشرية والثقافية والنضالية والحضارية؟!.. لقد غُيب جمالُ المكان كما غُيب العمران، وفاض الدم وتراكم الردم في الساحة الجميلة، ويتم أطفال ورُملت نساء وثكلت أمهات، وفقد أشخاص حياتهم أو مصادر رزقهم وأصيبوا بالجسم أو بالمال والملك والحال.. نعم حدث ويحدث في معظم مدن سورية وبلداتها وقراها ومزارعها.. نعن حدث هذا ويحدث. أشرقت الشمس على حلب وغيرها، وربما كانت تشفق وتستحي وهي تنظر إلى هذه المدينة أو تلك في هذا البلد سورية.. حدث هذا وكلٌ شريك فيه يحمل سهم شراكته من الظلم والإثم والجرم بمقدار ما دمر من عمران وأنفس وقلوب، وبمقدار ما يلغ في دم الأبرياء ويدمر من الحيوات، ويتسبب به من الجرائم، ويستثيره من أحقاد، ويبذره في الأرض والأنفس من الشرور، وبمقدار ما يكبد البلد والشعب من خسائر، ويجعل فضاء الوطن يضيق بالشعب الطيب ويضيق به الشعب الطيب المتطلع إلى أمن من جوع وخوف، وعدل وحرية وتحرير واستقرار وازدهار، وكرامة تليق بالإنسان في كل مكان وزمان.؟!. فيا أيها الناس.. يا أيها السوريون من الناس.. هناك عشرات آلاف من أبناء شعبنا ".. صبايا ونساء وأطفال وشيوخ.." قيد الابتزاز والانتهاك والعذاب والإذلال والمعاناة المرة من جراء الاقتتال وغياب الأمن واستباحة حرمة البيت والنفس والملك.. هناك مئات الآلاف منهم مشردون داخل الوطن وخارجه، يعانون ويعانون وينتظرون الفرج..

من يموت من الناس تبدأ المصيبة به كبيرة ثم تضمر وتصغر، وهو مغيب عن كل إحساس بشري بشيء مما جرى له ويجري لغيره، أما من يعاني من أشكال الموت والجراح وهو حي فمصيبته تكبر ومعاناته تستمر.. فاتقوا الله في الصغار والكبار، في الأحياء الذين يعانون من الموات وفي الأموات الذين خلفوا وراءهم أحياء.. أرض سورية الوطن ليست لمن يحمل السلاح ويفجر ويقتل ويقاتل وينفخ في النار، أرضها لجميع أبنائها وهي بيت أمن وعيش واطمئنان قبل أن تكون ساحة حرب لأشهر وأشهر وأشهر.. الوطن ليس لكم وحدكم يا أصحاب الثارات والتحديات والحسابات والدويلات والمقامات والشعارات.. إلخ بل هو لكل أبناء الشعب السوري المنتمين للأرض والشعب والمواطَنة، وكذلك هو القرار والأمن والرغيف والدواء والعشب والماء والرجاء والشراكة في كل شيء. لا تغلقوا أبواب الأمل بوجه هذا الشعب الطيب، لا تفتحوا عليه النار وتلقوه في خضم البؤس واليأس. 

وأنتم يا أصدقائي وزملائي وأهلي في حلب العزيزة وفي غيرها من مدن الوطن الحبيب وقراه.. أخبروني عنكم، عن أطفالكم في المدارس، عن دمائكم في العروق، عن أعمالكم وآمالكم وجامعاتكم وعن كتبكم ومكتباتكم، عن جلساتكم في مزاهي حلب وغيرها التي دمرت على بعضكم وهم يثورون على جنون الحقد يزوبع الدم، ويصرخون من أجل أمن للناس وعقل يحكم الفعل والناس، وضمير يقيد الأشخاص والأفعال والأقوال، وحكمة تتعالى فوق الجنون والشر وانفلات الانفعالات والغرائز لكي تلجم وتحكم وتوقف عربدة الإرهاب والشر والظلم والقهر والمقت في مغاني سورية الحبيبة وبلداتها وقراها ومزارعها وسهولها وجبالها ووديانها.. يا أصدقائي ماذا نقول ونحن في وضع لا يُطاق ولا يُقبل ولا يرحم أحداً، هل نقول غير ما قيل: " اتقوا فتنة تجعل الحكيم حيراناً.".. أم لنا موقف آخر وقول آخر في مناقع الدم والإثم غير "لا حول ولا قوة إلا بالله"؟!.

أجيئ إليكم وفي راحتي بعض تراب الوطن، ذرات من أدناه إلى أقصاه، لنشم معاً رائحة التراب الذي جمعنا وأعطانا وأمتعنا بكل نبت جميل وعَرفٍ طيِّب، أجيء وملء راحتي تراب من تراب أرضنا لنستذكر معاً ونذكر بأننا سنعود إلى التراب لنبعث منه من جديد، فلا يجحدن أحد ولا يشمخن براسه فوق الحق والخلق أحد.. أجيئ معزياً ومواسياً ومشجعاً على العمل من أجل سورية والأمة والإنسان والقيم والحضارة التي بدأت براعمها تتفتح في أرض الشام كلها.. ولكي أقول لكم، ومن خلالكم لكل السوريين في كل مكان من هذا الوطن الآسر الجريح وغيره من أرض الله الواسعة.. بلدنا يستحق أفضل من هذا، ونحن لا يليق بنا هذا الفعل وهذا الوضع وهذا المصير.. فتعالوا نرفع راية الحكمة والرحمة فوق كل راية، ونشرِع كلمة الحق سيفاً بوجه الظلم والإرهاب والجاهلية والجهل والحقد والتآمر، ونستعيد في ظلال الوعي والمسؤولية والشرع والقانون كل ما يؤهل للحرية والكرامة والعدل والعيش الآمن الكريم في بلد يستحق تاريخَه ويستحقه تاريخُه.، تعالوا نشعل معاً في هذا ليل بلدنا وأمتنا البهيم شموع الوعي والانتماء والمسؤولية الوطنية والقومية والأخلاقية والإنسانية، نستعين بها على القتل والإرهاب والدمار والاستبداد والاستعباد، نستعين بها على الجهل والظلم والتآمر وضيق الأفق والفتنة بأشكالها واستعمار بألوانه وقابليات بعضنا له.. وعلى ظلام العقول والأنفس والقلوب.. تعالوا نجعل نور البصائر والقلوب منارات في دروب الناس في هذا المجهل الصعب.. فنحن وشعبنا وبلدنا نستحق ما هو أفضل.. وليس لنا إلا نحن لنخرج من المحنة والامتحان والمؤامرة والفتنة..إلخ، بعد كل الذي كان وصار.

 

والله من وراء القصد