خبر كتب المحرر فاروق موسى:فتحي الشقاقي..مظلُوميّة أمّة!

الساعة 11:28 ص|03 أكتوبر 2012

 

على مرأى الوطن المحتلّ انتفضت دماؤه إيذاناً بالتحرير، لم يتنازل أو يساوم، بل كان امتداداً لإنسانية تمتد من داخله جسراً إلى الحرية الساكنة خلف زمن قادم من عمق الاحتلال وآهاته، كان ليثاً من ليوث فلسطين الذين رسموا بدمهم مسار الحاضرين. هو الشهيد القائد فتحي الشقاقي الذي سكن الوطنُ في قلبه نشيدَ مقاومةٍ بها قصفَ عمر جلاده.

يتعثر قلمي في الكتابة عن شخص الدكتور الشهيد والمفكر العظيم فتحي الشقاقي –رحمه الله وأعلى نُزلَه- ، لا أعرف من أين البداية، هل من الميلاد والنشأة وما تخللها من تهجير وبعد عن الوطن، أم من المعاناة خلال الطفولة في مخيمات اللجوء وما كان لذلك من أثر كبير في صقل شخصيته الفذة، هل أتكلم عن علمه وثقافته وأدبه وفكره المنير الذي أسّس لجيل بأكمله، أم أكتب عن جرأته وعنفوانه وثورته على الظلم والباطل، أم عن عشقه لفلسطين حتى أضحت مرافقةً لكل مشاعره وخلجاته وحتى خفقات قلبه. كثيرة هي المحاور والأفكار للكتابة عن الدكتور الشهيد، لن أستطيع إيفاءه حقه، ولن تحيط كلماتي المتواضعة بكل جوانب شخصيته، فسأقطف من كل بستان زهرةً علّي أظفر بأروع الرياحين.

يمتد عشق "الدكتور الشهيد" لأرضه وطنه فلسطين منذ القسّام وحتى أيامنا هذه، فكر وجهاد وثقافة وانتماء، وحبُ لفلسطين بلا حدود، فمنذ أن ولد الدكتور الشهيد في مخيمات اللجوء بفلسطين، وتفتحت عيناه على الظلم والقهر المتواصلين لشعبنا وأمتنا بأكملها، وحتى ارتقت روحه دفاعاً عن قضيتنا المقدسة في مالطا، كان حبه لفلسطين يسري في كل جوانب جسده وعقله وروحه، حتى انطلق الشهيد للدراسة في مصر، فكان دائم القرب ممن ساند فلسطين وأيدها ولو بأدنى كلمة أو فعل، ووصولاً  للزقازيق، لتبدأ طليعة الحركة المجاهدة في التبلور، لتكون تلك اللحظة نقطة تحول لنضال أصيل وِجهَتهُ فلسطين.

في محطات حياة "المعلم الشهيد" الممتدة طوال عمره -الذي كان زاخراً بالعطاء لفلسطين- نقاط مفصلية مهمة، جدّد الشهيد على أثرها توجهه نحو فلسطين، لتكون فلسطين في نظره ووجدانه إجابةُ لذلك السؤال الذي طالما سأله الكثيرون من المتعطشين لنصرة فلسطين في تلك الفترة، لتكمن الإجابة عند "الشهيد الأمين" بأنّ وِجهة المعركة هي فلسطين، وأنه من الواجب عدم تشتيت جهود الأمة لغير ذلك، وضرورة إعطاء هذه القضية بعدها التاريخي والحقيقي وهذا ما حدث، وهذا ما نلمسه جلياً في كتاباته التي صدر أكثرها باسمه الحركيّ (عز الدين الفارس).

عاش "الشقاقي الأمين" حياته ثائراً بكل ما تحمل الكلمة من معنى، رافضاً للظلم والطغيان بكل أشكاله، ومن هنا كان تأييده لـِ -النموذج الثوري- للثورة الإسلامية في إيران كنموذح أصيلٍ لأخذِ زمام المبادرة في وجه الباطل والإنقلاب عليه وصولاً للإطاحة به، ومن هنا بدأت مظلوميّة الشقاقي، ليأخذ الكثيرون على عاتقهم تفسير هذا التأييد والنصرة كلٌّ حسب هواه، ليفاجأهم الشقاقي بمقالته "الشيعة والسنة، ضجة مفتعلة" ويكشفَ الستار عن تلك الحقيقة الغائبة عن أذهان الكثيرين وهي أن المسلمين كُلٌّ واحد لا يتجزأ وأن لا أقطاب في جسم المسلمين الواحد، ومن ثم تستمر هذه المظلومية قائمةً بالتشكيك والغمز لفكر الشقاقي الثوري الأصيل حتى أصبحت مظلوميّته –رحمه الله- مظلومية أمّة بأكملها.

في شخصية "الدكتور الشهيد" الكثير من التفاصيل التي تستحق الكتابة، فقد كان الشقاقي وطنيا أصيلاً بين الوطنيين، إسلامياً عقائدياً بين الإسلاميين، صاحبَ نظرة عميقة في التاريخ، ورؤية مستقبلية لا تخيب أبداً، بما يتضمنه ذلك من استخلاصٍ للعبر واستشراف للمستقبل. ولم يغفل الشقاقي عن النواحي الأخرى، فقد كان قارئاً بعمق، مثقفاً ومنفتحاً على الآخرين، وهذا كان محاكاة لحُلمه بإيجاد حركة تواكب العصر الحديث دون تعدٍّ لمبادئ ديننا السّمح وقيمنا الأصيلة الموروثة، وفي هذا يقول المفكر الإسلامي المعروف د. محمد مورو: "كان الدكتور فتحي الشقاقي يحلم بحركة إسلامية معاصرة، تتجاوز فكرياً وحركياً كل الأخطاء السابقة، حركة ترى نفسها مجرد حلقة من حلقات الكفاح الإسلامي سبقتها حلقات وتتبعها حلقات، حلقة تكون طليعة للأمة وخميرة للنهضة وليست بديلاً عن الأمة، حركة تجعل التنظيم أداة وليس غاية، حركة تنطلق من اعتبار القضية الفلسطينية هي القضية المركزية للأمة الإسلامية، حركة تنفتح على الجميع انطلاقاً من ثوابتها فلا تعزل نفسها ولا تنفصم عن جذورها الفكرية والعقائدية في الوقت نفسه".

لقد كان الشقاقي في كل تفاصيل نضاله ثورةً على الواقع، دائمَ السباحة عكس التيار، ساعياً لتحقيق العدل للمستضعفين ومناصرتهم في استرداد حقوقهم، وليس أدلّ على ذلك من أنه قدّم روحه رخيصة لبارئها وهو يسعى لتحسين أحوال إخوانه من اللاجئين الفلسطينيين في ليبيا، وكان الشقاقي دائم السعي بكل جهده لتوحيد كل أقطاب فلسطين –الوطنية والإسلامية منها على حدّ سواء- للعمل من أجل كل فلسطين، جاعلاً من فلسطين الأيديولوجيا الأسمى التي تتهاوى دونها كل الخلافات.

لقد كان الشقاقي بحقّ نموذجاً فريداً في تاريخنا المعاصر، ورمزاً من رموز التجديد في الفكر الإسلامي الحركي في القرن العشرين، وباعتقادي أن مفكراً مثل الدكتور الشقاقي لم يُوفَ حقه من الدراسة والبحث في سبيل سَبرِ أغوارِ هذه الشخصية الفذّة التي تربى على فكرها ومنهجها أناسٌ عظماء أشادوا بأرواحهم الطاهرة، وزهرات أعمارهم، ومؤخراً أمعاؤهم الخاوية صرحاً عظيماً له كيانه ومعالمه الخاصّة، عصياً على الإنكسار، يقارع المحتل بالتحامٍ منقطع النظير مع تراب فلسطين الطّهور، ليكون بسبقِه وريادتِه قادراً على تغيير الواقع وخلق المستقبل الأفضل.

في ذكرى الرّحيل نحو العُلَى، نستذكر ربطَ القولِ بالفعل، وتصديقَ الفعلِ للقول، عندما قال "الشقاقي الأمين" : " فالصف الأول يستشهد، والصف الثاني يستشهد، والصف العاشر يستشهد، نحن شعب الشهادة، ولو على حجر ذبحنا لن ننكسر، ولن نستسلم، ولن نساوم".

في الختام أستحضر قول الصحفي الفلسطيني أكرم زعيتر في رثاء شيخ المجاهدين الشهيد عز الدين القسام حينما رثاه بصورة جميلةٍ تبين مدى عِظَمِ الأثر الذي تركه استشهاده على عقول الناس ووجدانهم قائلاً: " لقد رأيتُكَ صديقي خطيباً مفوهاً تتكئ على السيف وتهدرُ من على المنبر، واليوم رأيتُكَ تتكئ على الأعناق وما من منبر تقف عليه، ولكنك أخطَبُ منكَ حيّاً".

فاسمح لي يا سيدي "أبا إبراهيم" أن أهمسَ لطيفكَ القادم علينا في ذكراكَ الطاهرةِ –من بعيد- ممتطياً صهوة العزّ والفخار ليرى حالنا بعد هذا الغياب، وما من كلامٍ أصدقُ في هذا المقام من كلام الشهيد عن الشهداء، فلقد رأيتُكَ سيدي متكلماً عن الشهداء تمجّدُهم وتسمو بذكرهم لترفعنا من طينية الأرض إلى عالم الأرواح الطاهرة، وها أنا اليوم أستحضر طيفَك الطاهر خالصاً من نوازع الجسد وثقلِه متحرراً من قيوده، فتنطلقُ روحك خفاقةً حيّةً مؤثرةً فينا بحجم المعاني التي استشهِدتَ لأجلها، فما زالَ أثرُكَ سارياً فينا ما حيينا.

فسلامٌ على روحك في الخالدين "سيّدي أبا إبراهيم".

 

* فاروق موسى: أسير محرر من بلدة عرابة جنوب جنين في فلسطين المحتلة، 24 عاماً، طالب في قسم هندسة الحاسوب في جامعة النجاح الوطنية بنابلس اعتقل لدى سلطات الاحتلال والسلطة لثلاث مرات متتالية، كان آخرها 19 شهراً في الاعتقال الإداري.