خبر تعالوا نعمِلُ سمعَنا وبصرَنا.... علي عقلة عرسان

الساعة 10:48 ص|28 سبتمبر 2012

العناية الإلهية وحدها هي القادرة على انتشالنا من المحنة ووضعنا على دروب الأمن والرشاد، بعيداً عن مشاريع أصحاب الهوس والحسابات الضيقة والارتباطات بالمحاور والتحالفات والمصالح والاستراتيجيات.. لأن التصميم على حسم الأمور بالقوة من أطراف على الأرض معنية باستخدام القوة، والاستعداء والتحريض، حتى من فوق منبر الأمم المتحدة، على استخدامها من خلال التدخل تحت مسميات إنسانية ومحافظةً على السلم والأمن في المنطقة وعلى الصعيد الدولي، يفتح الباب على الجحيم المعلوم.

لا أريد أن أستخفَّ بقدرة السوريين على التمييز بين دور الفَراش المترامي على لهب المصباح وبين التزاحم على أبواب النور استعجالاً للخروج من الأنفاق الرطبة المظلمة وصولاً إلى الخلاص من الأزمة الدامية، بكل معاني الخلاص وأبعاده ومظاهره.. لكنني أخشى مما قد يُغشِّي البصيرةَ ويُعشي البصرَ في شدائد يظهر فيها لمعانُ المرايا مصدر نور وطاقة إشعاع، ويخال الناس العطاش أنه برق يبشِّر بغيث، فتهوي أفئدتهم نحوه لتجد خُلَّبَه بانتظارها، فليس كل ما يلمع ذهباً.

من يزيِّن لنا منطق القوة والمضيَّ في الاقتتال حتى "الحسم" النهائي للأمر، يغرقنا في دوامتي الدم والوهم، ومن يدعو إلى تدخل عسكري ومزيد من العسكرة في بلدنا، بذرائع شتى ولأغراض وغايات شتى، يتكلم من موقع خارج المعاناة وربما من خارج التاريخ والجغرافيا الطبيعية والبشرية، ويرمي كِسرته على رغيف، ويستثمر في دمنا وألمنا ومعاناتنا!!.. إنه يحرص على أرواح السوريين ومستقبل أجيالهم وخصوصاً على صغيراتهم في مخيمات اللجوء والنزوح، ويحرص على وحدتهم أرضاً وشعباً، ويريد أن ينقذهم من أنفسهم بإبادة العدد الأكبر منهم شفقة عليهم.. " اقتتلوا لتعيشوا وتسلموا وتأمنوا وتحرروا.. ونحن معكم.. واقتتلوا لتحكموا وتظلموا وتبطشوا.. ونحن معكم؟!"، يا الله ما أحن القلوب وأوسع الجيوب وأحكم العقول وأسلم الضمائر من الشروخ!! أفلا يعلم أولئك ومن يشرب من كؤوسهم أن دخول معترك الموت وصولاً إلى نوع حياة هو نوع من موت في الحياة وإماتتة محققة لكل مقوماتها الاجتماعية وقيمها الأخلاقية على الأقل.. بَلْهَ الحديث عن القضاء على مقومات حياة الجسد والروح في مجتمع تحكمه أصول ومرجعيات وأهداف مشتركة وعلاقات ودية ومصير مشترك؟!.. لا يمكن أن يكون من يزيِّن مذبحاً غير طاهر، وميتةً عبثية مجانية، وعداوةً أبدية بين الأخوة والجيران والشركاء في الوطن والمواطَنة ورغيف الخبز.. مخلصاً وحسن النية وعالي الهمة وصالح النفس والعقل والضمير. وإذا ما لجأنا إلى حسن النية وحملنا الأمور والمواقف والتصرفات والأشخاص على أحسن ما يمكن أن يكون من الاحتمالات، فإنه يصبح من يفعل ذلك بنا ويدعونا إليه.. لا يخلو من الغفلة وضيق الأفق والحمق والتعصب وخطل الرأي الذي يصور الشرَّ خيراً والخيرَ شراً.. وذاك صنف من الناس ينبغي ألا يَغتر به وبرأيه أحد مهما تزين أو تزلف أو تكلف.

للسوريين من كل الأطراف التي تدخل مسارات الدم والموت وتدخل الآخرين في تلك المسارات.. للسوريين الذين يرون أن " النصر على الأبواب"، وأنه " قاب قوسين أو أدنى".. وأن الطرف الخصم في الساحة إلى ارتباك فاضمحلال فموت فاستسلام وهزيمة نكراء، أقول: دققوا وتبصروا وتبينوا واستفيقوا.. إن النصر الذي تجلبه قوة القتل والتدمير والإرهاب والعنف هو الهزيمة النكراء للبلد والشعب والعلاقات والقيم التي ترفعونها راية وتقاتلون تحتها.. سورية وحدها تدفع ثمن كل من "ينتخي لها" في هذا الصراع البائس الذي يدور على أرضها ويطحن أبناءها ويدمر عمرانها ويزرع أرضها بالضعف والمقت والضغائن بدل القمح والزيتون والتفاح.. لا تركبوا رؤوسكم وتمضوا في طريق الجنون هذه فأنتم كلكم خاسرون على نحو ما والخاسر الأكبر هو من تدعون أنكم تنقذون وتحمون وتحررون: " البلد والشعب".. وإذا ما توقفنا في هذه اللحظة عن الاقتتال وتساقي كؤوس الصاب وصنع العظيم من المصاب وجنبنا ما تبقى في بلدنا من بنية تحتية وعمران من الخراب، إذا ما فعلنا ذلك الآن.. فإننا نحتاج إلى عقود من الزمن لنبني ما دمرنا ونرمم ما خربنا على الصعيد المادي، وإلى أكثر من ذلك بكثير من السنين لنصلح ما لحق من دمار بالبنى المعنوية والروحية والاجتماعية والثقافية، لكي نستعيد بعض ما كنا عليه قبل الأزمة – الكارثة.. وفي ظل هذا نبقى عاجزين عن مواجهة استحقاقات وتحديات  ومتطلبات وضرورات على رأسها احتياجات النمو السكاني كافة وما يتطلبه من تنمية شاملة وفرص عمل وتربية وتعليم وزراعة و.. و.. ولا نتكلم عن تحديات العلم والعصر والنقلات المعرفية والمعلوماتية والتقنية و.. هذا في الوقت الذي يتقدم فيه عدونا العنصري الصهيوني الذي يحتل أرضنا، ويهدد شعبنا، ويهود أرضنا، ويسيء إلى مقدساتنا وديننا ورموزنا السامية وثقافتنا وحضارتنا، ويستمر في البناء والتطوير والتحديث، وامتلاك كل أنواع الأسلحة من دون استثناء، ووضع الخطوط السياسية والأمنية والعسكرية للآخرين، بوقاحة لا نظير لها، ليحكمنا بقوة الحديد والنار، بقوة العلم والعقل، بقوة الاقتصاد والرشاد، وبما يثيره بيننا من فتَنٍ نحن مادتها ووقودها، نتردى فيها وندلف من جرح إلى جرح ومن أرض ملح إلى أرض ملح!!.. أفما أتيح لكم/لنا، كما أتيح لغيركم/غيرنا، مشاهدة أوقح خلق الله إنسانا.. بنيامين نتنياهو، وهو يحدد على مصور قنبلة، يملك المئات من الذرية منها، ومن فوق منبر الأمم المتحدة بالذات، خطوطاً حمراء لإيران وسواها من دول المنطقة في هذا المجال أو ذاك، هذا العلم أو ذاك.. وما اندلق ويندلق من فيه الوسخ من أكاذيب وغطرسة فيما يتعلق بفلسطين وشعبها ومعاناته الفريدة المديدة وبقضيته العادلة.. وكل ذلك تحت سمع العالم وبصره، وفي بيته، بيت الأمم المتحدة.؟! إن هذا وحده يكفي ليردع عن الغي، ويدعو إلى التبصر، ويسمع من به صمم.

الأزمة في سورية منذ بدايتها معروفة أهدافها لبعض الناس وخفية أهدافها عن بعض الناس، ولكن معظم من دخل معتركها، ممن يعرفون ولا يعرفون، لفَّتهم كرة الثلج التي أخذت تتدحرج بقوة وتزداد دموية بتدحرجها، فغرق في الدم من غرق وأُغرق فيه من أغرق. ومن أسف أقول إن كل من دخل المعترك خاض معركته بقوة على أرضية من يقين أو شبه يقين بأنه على حق وأنه المنتصر، وأنه وحده الحريص على الشعب والوطن، وأنه الشهيد وغيره المقتول بعاره، وأنه المزكى عند الناس وعند الله، جل الله، وأنه.. وأنه..

ولكن بعد كل ما جرى، يبقى للتاريخ الحكم في أفعال وأقوال وتصرفات،

ويبقى للمجتمع والدولة والقانون والحق العام والخاص مكان، أما هذا

الزعم أو ذاك في هذا الموقف أو ذاك فلنبقه لوقت آخر ولظروف أخرى

، ونترك لك طرف أن يسجل رأياً ورؤية: " فمن يقول إنه يقوم بواجبه في حماية البلد والشعب والهوية والخيارات الوطنية والقومية والتوجهات المبدئية، إنطلاقاً من مسؤوليته الشرعية أو مشروعيته السلطوية له الحق أن يقول ذلك ويسجل موقفه"، ومن  يقول" إنه يحرر الشعب والبلد من ممارسات طغيانية ويطلب الحرية والكرامة وينادي بتداول السلطة على

أسس ديمقراطية ويأخذ بتوجهات ثورية أو غيرها له أيضاً أن يسجل

موقفه"، ومن دخل من مدار عجلة العنف ليفرض رأيه وإرادته وأسلوبه

وسياسته، وهو من خارج الدائرة والمدار، بعد أن دارت العجلة وتطورت

التحديات والثارات، ودخل على الخط الساخن من دخل بقوة الذراع والمال والسلاح والسياسة والإعلام.. إلخ."، فعلى

السوريين جميعاً أن يقطعوا عليه الطريق حتى لا يستمر في العبث

بدمهم وأمنهم ووطنهم. بعض أطراف الأزمة السورية الدامية، في

الجانبين، تعلن ما لا تبطن وقد آن لكل طرف أن يلقي القناع ويملك

وجهاً صريحاً وخطاباً فصيحاً.. أما الأطراف التي دخلت على الخطوط

الساخنة فهي لا تكاد تخفي أهدافها ووسائلها وأدواتها.. وهي في

الأهداف البعيدة التي تنشدها تقول بشيء مغاير لمصالح ولما يقول به

الطرفان الرئيسان المباشران في الأزمة. وهناك في الخلفيات جهات

تعبث بالأطراف كلها أو بمعظمها، وتعمل على تحقيق استراتيجياتها

بالطرق التي تقربها من نتائج مقبولة وتجنبها صدامات مباشرة مع

بعضها بعضاً. وتلك الجهات هي استعمارية ومتحالفة مع قوى

استعمارية، وقوى فوق عادية وهي التي تستفيد من معظم الأزمات التي

تشعلها في نهاية المطاف. فضاءات بعض الأنفس في الكواليس – ولا

أعمم مطلقاً – ودوافعها وأسئلتها طائفية ومذهبية مقيتة مرفوضة،

وبعض تلك الأنفس لا يموِّه، وبعضها يغمغم، وبعضها يحسِن التمويه،

ولكنها مسكونة بهواجس قد لا ترضي، والثمار المعلقة بأغصانها غير

ناضجة، وربما تشتد مرارتها إذا نضجت.. وفضاءات أنفس أخرى في

الكواليس ذاتها أوسع وربما أرفع وأعلى مستوى، وهناك في

المناخ والأطراف من هم من رحم ربك، يرى رؤى معقولة مقبولة ويحمل

أفكاراً يمكن مقاربتها، ويصدر عن قناعات مختلة ولكنه لا يملك دفة

الأمور وربما لا رأي له ولا يطاع، ولكنه يبقى

ويشارك وينتفض قلبه وكبده في أوقات ولا يهدأ في كثير من الأوقات.

نحن هنا.. والآن.. وفي هذا المعطى وتفاصيله، ولا بد من خطوة تلزم كل طرفع تنفع الوطن والشعب وقد لا تنفع كل طرف من الأطراف المعنية، والتعبير عن رأي لا يضر ولا يضير.. فتعالوا ندفن أبناء سورية الذين قضوا في الأزمة على " الحق والباطل"، ونعالج الجرحى والمصابين، ونعيد المشردين داخل الوطن وخارجه إلى بيوتهم، ونقرب القلوب بالعدل والحب والثقة بعضها إلى بعض، ومن ثم نفتح كل ملف يحتاج إلى تدقيق وتحقيق وتصفية، نفتحه ونعالجه بعقل مفتوح وضمير حي ومسؤولية وطنية وخلُقية وإنسانية عالية وعدل غير منقوص.. بعيداً عن أي شكل من أشكال الانحياز والحقد والثأر والمقت.. تعالوا ندقق في كل الأمور التي تحتاج إلى أن ندقق فيها.. ولكن ذلك لن يكون من دون وقف تام للعنف، وحقن كامل للدماء، واستقرار في حضن الأمن والحرية والكرامة والعدل.. وإبقاء على ما تبقى لنا من قوتنا جميعاً لتحرسنا وتحمينا جميعاً.. سورية لكل أبنائها، وعدلُها مثل شمسها ينبغي أن يشمل الجميع. وفي ظل ذلك وتحت نقاء فضائه وصفاء سمائه.. نفكر ونقرر بروية وحرية واستقلالية ومسؤولية ووضوح، بعيداً عن الولاءات وارتهان الإرادات، ونتعامل ونعمل وفق أسس المساواة في ضوء ديمقراطية سندها الدستور والقوانين والشرع والحكمة والعدل، ومفتاحها صناديق الاقتراع.. وفي ضوء ذلك كله نطرح ما نريد ونناقش ما نريد.. ما هي سورية التي نريد؟ ما هو نظامها، من يحكمها وكيف يحكمها، وما هو نوع الحكم وكي نتداوله.. إلخ

لا تنقصنا النصوص ولا التجربة ولا الخبرة ولا الكفاءات.. تنقصنا الثقة

المتبادلة التي انتقصت في الأزمة، وأن نبعد تدخل المتدخلين في شؤوننا

أياً كان دورهم وحجمهم ومطلبهم.. علاقاتنا بكل طرف تحددها متطلبات

سيادتنا ومصالحنا وسياساتنا التي يحددها الشعب عبر سلطاته

ومؤسساته وممثليه، وشؤونه يوكل متابعتها لمن يختار بنزاهة وكفاءة

تامتين، ويحاسب كل من أسندت إليه مهمة وأمانة وفق ما يقتضيه

الشرع والقانون. تعالوا نُعمِل أبصارنا وأسماعنا فنرى ونسمع صرخات

الأطفال وبكاء الأمهات وأنين الجرحى وشكوى الشعب، قبل كل شيء،

ونجعل قيمنا الوطنية والقومية والأخلاقية والروحية والإنسانية حكمنا

وحاكمنا في هذا الشأن.. ومن يصمّ أذنه عن ذلك ويشيح ببصره عنه لا

يحق له أن يحكم الشعب ولا أن يتكلم باسم الشعب، فالشعب أبناؤه

وضعفاؤه. سورية يجب أن تخرج من المحنة، وتبقى عزيزة، وتستعيد ما

فقدته، وتبني ما دمرته الأزمة الكارثة.

والله من وراء القصد.