خبر هدمنا الجدران ولم نبنِ الجسور - فهمي هويدي

الساعة 09:21 ص|26 سبتمبر 2012

 

 

إذا صح أن في مصر الآن وقفة احتجاجية كل ساعة، فالأمر يمكن أن يقرأ من أربع زوايا على الأقل. من ناحية هو دال على أن الشعب المصرى علا صوته بعد الثورة وما عاد ممكنا إسكاته أو تكميمه كما حدث من قبل. من ناحية ثانية فإن ذلك يعني أن المشكلات الحياتية والمطالب الفئوية أصبحت ضاغطة بشدة على الجميع، بحيث لم تعد هناك فئة نجت من طوفان الغلاء، وقد ازداد الوجع على الجميع حين حل موعد دخول المدارس وما يستصحبه من أثقال وأعباء. من ناحية ثالثة فإن ذلك يعني أن ثمة انسدادا في جسور ووسائط الاتصال بين السلطة والمجتمع، بحيث لم يجد الناس سبيلا لتوصيل صوتهم إلى المسئولين سوى بالامتناع عن العمل والتظاهر في الشارع. وإذا كنت من الباحثين عن قرائن المؤامرة فبوسعك أن ترى في تلك الاحتجاجات والإضرابات محاولة من جانب عناصر النظام السابق وأذنابه لإرباك الحكومة والضغط عليها.

مسألة الوقفة الاحتجاجية كل ساعة تقدير من جانبي استقيته من البيان الذي أصدرته وزارة الداخلية يوم الخميس الماضي (20/9)، وأعلنت فيه أن مصر شهدت 1400 وقفة احتجاجية وقطع طرق خلال الـ 48 يوما الأخيرة، منها 80 حالة قطع طريق و60 حالة تعطيل لحركة السكك الحديدية. وحين حذفت الحالات الأخيرة تبقى أمامي 1285 وقفة احتجاجية خلال تلك الفترة، إذا وزعتها على 50 يوما فستحصل على النتيجة التي وصلت إليها.

حتى إذا كانت الأرقام تحتاج إلى تدقيق، فالقدر الثابت أن قطاعات عريضة جدا من أبناء الشعب المصري ليست راضية عن أوضاعها المعيشية. وقد أتاحت لها أجواء ما بعد الثورة أن تخرج إلى الفضاء وتطالب بحقها المشروع في الإنصاف.

لقد أتيح لي خلال الأيام الماضية أن أستمع إلى شكاوى بعض العاملين، وأقنعني ذلك بمظلوميتهم وحقهم المبرر في الغضب وأدركت أنهم لا يشكون فقط من تدني دخولهم إذا قورنت بمعدلات الغلاء المتزايدة وبأوجه الإنفاق التي يتعذر احتمالها. ولكنهم يشكون أيضا من التفاوت الهائل في الدخول في القطاعات التي يعملون بها.

لم أصدق ما سمعت عن تدهور أوضاع الأطباء وانحطاط أجورهم وتهديدهم بالإضراب لإنصافهم. إذ قيل لي إن الطبيب الذي يقضي أكثر من سبع سنوات لكي يتخرج من الكلية. يتقاضى نحو 400 جنيه، هو نصف أجر الشغالة المصرية، وغاية ما يحلم به أن يتساوى مع الشغالة الآسيوية التي تتقاضى في مصر نحو 600 دولار تعادل 3600 جنيه. وقيل لي إن 10٪ فقط من الأطباء البالغ عددهم 180 ألفا لهم عياداتهم الخاصة، في حين أن التسعين في المائة الآخرين يعيشون حياة بائسة يرثى لها، كأي موظف مطحون تقصم ظهره تكاليف المعيشة، حتى تعجزه عن الإنفاق على نفسه أو على أسرته، متزوجا كان أم غير متزوج.

وفي الوقت الذي يعانى فيه عموم الأطباء من تلك الظروف البائسة، فإن الغضب يتضاعف عندهم حين يعلمون أن كبار المسئولين في وزارة الصحة يحصلون على دخول شهرية تصل إلى عشرات الألوف من الجنيهات، وهذا الحاصل مع الأطباء تكرر من المدرسين والتجاريين والزراعيين وغيرهم. وإذا كان ذلك شأن المهنيين فإنه لا يختلف كثيرا عن أوضاع بقية العاملين من موظفي الدولة. أما العمال فلهم أوضاعهم التي تحتاج إلى دراسة في كل قطاع، لتحديد طبيعة العمل وما هو مشروع أو غير مشروع في مطالبهم.

في ظل النظام السابق، كان هناك انسداد في قنوات التعبير التي تنقل ما يجرى على أرض الواقع إلى المسئولين في الدولة. وحين أزيلت تلك العوائق بعد الثورة اكتشفنا أنه لا تتوافر لنا وسيلة تقوم بمد الجسور بين السلطة والمجتمع. فالأحزاب لاتزال جنينية تحبو فضلا عن أنها مشغولة بمشاحناتها، والنقابات العمالية جرى إخصاؤها حتى لم نعد نلمس لها حضورا يذكر. كما أنه لا توجد لدينا مؤسسات شعبية منتخبة تنوب عن القواعد في التواصل مع السلطة والدفاع عن حقوق المجتمع إزاءها.

سد هذه الثغرات يتطلب وقتا، لكن حبال الصبر أصبحت قصيرة عند الغاضبين والمأزومين بحيث لم يعودوا قادرين على احتمال مزيد من الانتظار، وما يفاقم الأزمة أننا لا نكاد نرى جهدا ملموسا من جانب السلطة للتواصل المباشر مع المجتمع، من خلال مكاشفته واطلاعه على حقائق الأوضاع التي يعاني منها الجميع. وهو ما يسوغ لي أن أقول إننا هدمنا الجدران التي كانت تفصل بين السلطة والمجتمع، لكننا لم نستطع أن نقيم الجسور الموصلة بينهما.

إن المضربين معذورون، وينبغي أن يبذل جهد حثيث من جانب الحكومة لإعذارها، ولإقناع المضربين بأن مظلوميتهم إذا تعذر رفعها الآن، فهناك أمل لتحقيق ذلك في مستقبل معلوم. إذ بعدما مضى زمن قمع المتظاهرين وإحالة أمرهم إلى جهاز أمن الدولة، فقد أصبح الخيار الوحيد المقبول هو إنجاح الحوار معهم من خلال الفهم والتفاهم، الذي يتم في حماية القانون وليس في حماية الشرطة.