خبر رؤى وتطلعات في الأزمة السورية .. علي عقلة عرسان

الساعة 09:34 ص|18 سبتمبر 2012

 

في الأزمة السورية آراء ومواقف يضج بها الفضاء السياسي والدبلوماسي وا‘لامي، ووقائع على الأرض تضيق بها أرجاء رحبت من الأرض.. وبينهما دم ودمار وتشرُّد ومعاناة، وقيم تداس وبلد عريق يضيع.. وعلى الهوامش من ذلك تتعرى الخطط والمصالح والمطامح والأنفس ذوات النزوع العدواني أو المرض التسلطي أو الانحراف الإجرامي.. وكل ذلك أصبح مما لا ينكره إلا مكابر ولا يكتوي بناره إلا وطني فقير صابر. فهناك في الأزمة - المحنة:

1-    من يقولون بحل سياسي لها، وهم كثر، إلا أن بعض من يقولون بذلك يعرفون أنهم يمارسون  لغو اللسان، ولا يملكون إلا أن يقولوا على الملأ، لا سيما في المحافل الدولية، ما يقولون، بينما هم يرفضونه عملياً وفي أعماقهم يقينياً، ويريدون الذهاب إلى أسقاط النظام بالقوة، ومع معرفتهم أن القوة تستدعي القوة، يتابعون عملهم ويقومون بكل ما من شأنه أن يؤدي إلى انتصار القوة عن أي طريق جاء، ويعملون على تغيير دامي الوجوه محدد المعالم والأبعاد والنتائج مسبقاً وبكل وضوح، وهم لا يجدون غضاضة في أن يسلكوا مسارين متوازيين لا يلتقيان، وتراهم يضغطون وينتظرون أن يستسلم الأخرون المخالفون لهم والمعادون لخطهم وخططهم ويغيروا رأيهم وموقفهم بالاتجاه الذي يريدونه منهم.. والحل السياسي عندهم انصياع لإرادتهم.

2-    وهناك من يقولون بحل سياسي لها، وأن "لا حل سواه"، وينتظرون أن يقتنع الرافضون لذلك عملياً أن بوجهة نظرهم وأن يغيروا مواقفهم. وهؤلء يستمرون في دعم وجهة نظرهم بمساندة قوية سياسية وديبلوماسية وعسكرية عند اللزوم.. ويلمحون، بل يصرحون، لأصحاب منطق القوة بأنها ذات حدين، وأنها ستشعل ناراً أوسع من مساحة سورية، وأنهم لن يستسلموا لمنطق لا يتوقف تأثيره عند حدود الأزمة السورية بل يتعداها إلى العالم، ولا يتوقف عند إسقاط نظام أو تثبيت نظام ، بل يتعدى ذلك ليصبح أيديولوجيا واستراتيجيات عالمية، بل كما قال مسؤول روسي: " إن الأزمة في سوريا تتحول إلى «نزاع بين الحضارات».  ولهذا مدلوله ومفعوله وأفقه ومستوى تعامل معه.
 يبدو أنه لا بد من تغيير وجهات النظر المبنية على فرض الحل بالقوة.. ولكنَّ ذلك مستبعداً على ما تشير إليه المعطيات الكثيرة.

3-    وهناك المنتظرون لخروج من الأزمة بحل سياسي يصنعه السوريون أنفسهم بحرية واقتدار وإبداع، ولكنهم لا يلمحون في النفق المظلم إلا شرار الحل العسكري والاستنزاف المميت على طريق ذلك الحل.. ولذا يقرؤؤون نتائج الاستنزاف فيستعجلون الخلاص ولو بحسم عسكري؟! بعد أن اختبروا كل المبادرات وتوصلوا إلى عدم الثقة بها وبالوعود التي بنيت عليها، وبعد أن ضاقوا بالزمن وضاق بصمتهم الزمن. إنهم يغرفون فداحة الثمن المفروض على سورية، ويعرفون أنها أصبحت ساحة صراع "عربي وإقليمي ودولي.. قومي وإسلامي.. طائفي ومذهبي.. إلخ" ويعرفون أن الإرادات المتقاتلة وتلك التي تتداخل معها دخلت دوامة التحدي، وهذا بحد ذاته يعني تدمير ما تبقى من البلد وإفناء عشرات الآف من أبناء الشعب، استنزافها واستنزافه حتى العظم.. إنهم لا يرغبون في ذلك، ويعرفون نتائجه المدمرة، ولكنهم يريدون مخرجاً وحلاً، والمخرج على ما يبدو تحدده القوة التي أصبحت عمياء تبحث عن مفتاح الحل.

4-    وهناك الضحايا وما أكثرهم.. إنهم معظم أبناء الشعب السوري من جهة، والضحية الأكبر وما أعظمها " سورية" من جهة أخرى؟! وأنهم وهي يدفعون الثمن الفادح وغيرهم يقاتل بهم ويقتلهم.؟! ويقف على مشارف انتشار الضحايا في الأرض، ومساحة الوطن الشام.. صادقون وطيبون وإنسانيون وأخلاقيون ووطنيون وقوميون وحريصون على الإنسان والوطن والحرية والعدل.. كما يقف على المشارف ذاتها منافقون وكذابون وتجار في السوق السوداء سوق " السلع والسياسة والإعلام"، وسماسرة وحاقدون ومستعمرون وعملاء وقتَلة ومصاصو دماء.. وكلٌ يريد " سورية" التي "يهوى" على ما يهوى.. وسورية في الميدان يُسلخ جلدُها ويُقتطَع لحمُها ويُستَنزَف من دمُها، وتصرخ.. ولكن:

لقد أسمعت لو ناديت حياً     ولكن لا حياة لمن تنادي

جاء الأخضر وذهب الأخضر، وسوف يكرر مجيئه وذهابه، ونخشى أن يكون سعيه شأن سعي سابقيه عنان والدابي، لأن اللاعبين الرئيسين المؤثرين في الأزمة هم أنفسهم، وهم على مواقفهم، واللعبة لم تنته بعد، وما في النفوس والاستراتيجيات لم يتبدل، وقد زاد في الطينُ بِلَّةً نزيف الدم الذي يجبل الطين، ومعاناة البشر المساكين.. لقد اجتمعت الرباعية التي اقترحتها مصر بغياب السعودية، واجتمعت لجنة  حقوق الإنسان في جنيف واستمعت لتقرير لجنة الخبير البرازيلي باولو بينيروا وما فيه من جديد، وأرسل البابا بنديكتوس السادس عشر من بيروت رسالة سلام وتصدير الفكر والحكمة لسورية بدلاً من السلاح.. وسيجتمع مجلس الأمن الدولي، وهيئة الأمم المتحدة في دورتها العادية هذا العام.. وكلٌ سوف يقول ويستمع كما قال واستمع من قبل الوزراء العرب، والرؤساء في قمتي منظمة المؤتمر الإسلامي وعدم الانحياز.. وغيرهم وغيرهم.. وسوف يتراكم الكلام على الكلام.. أما مفاتيح الحل للأزمة - الكارثة في سورية الحبيبة فلم تعد بيد اللاعبين المباشرين، بل بيد اللاعبَيْن الدوليين الرئسيْن " الولايات المتحدة الأميركية وروسيا الاتحادية"، ثم من بعد بيد فريق اللاعبين الأوسع، والتالي الأخير دور السوريين لتنفيذ ما يتفق عليه اللاعبون الكبار؟!. أما متى يتفق الكبار وعلى ماذا.. فلا يبدو أن أحداً يستطيع أن يحدد زمناً ومحتوى ومجريات ونهايات بدقة كافية، ولكن علينا ألا نهمل العوامل الطارئة التي تفعل فعلها في تغيير المواقف وتقريب وجهات النظر. فتحرك الجماهير في الوطن العربي والعالم الإسلامي احتجاجاً على فيلم " براءة المسلمين" المنحط فكرة ومعنى ومبنى، وما جاء في ذلك السياق من حوادث، لا سيما في بنغازي، قد تجعل الأميركيين يفكرون بمعطيات جديدة.. وكذلك قيام إرهابي عنصري أحمق مثل نتنياهو بعمل جنوني حيال إيران قد يغير في مواقف وموازين ومعادلات.. وتحركات جماهيرية في هذه المساحة الجيو – سياسية أو تلك من البلدان العربية والإسلامية قد تقدم معطيات ومؤشرات مؤثرة يُبنى عليها في الأزمة السورية التي أصبح أفقها السياسي والاستراتيجي دولياً على نحو واضح كما أسلفت.

بقي العامل الذي لا يمكن أهماله أو التغاضي عنه أو استبعاد ما يعتمل في داخله، أقصد سورية والسوريين.. هؤلاء لم يغلق عليهم الباب نهائياً، على الرغم من أن اللاعبين الدوليين والإقليميين مسيطرين.. إن مبادرات من نوع خارق للعادة قد تجنب سورية المزيد من الدم والدمار والمعاناة، وتلك سواء أجاءت على سبيل التضحية أو التنازل أو التقارب أو الترفع.. أو.. فإنها تضع أصحابها في مكان غير الذي هم فيه الآن، وتشكل رافعة حقيقية للروح المعنوية، وللتفاؤل الاجتماعي، وللمصالحة الوطنية، وللعمل الوطني.. وتنتشل سورية من المحنة وتضعها على طريق التعافي والحل. ولا أستثني في هذا التوقع " الخارق للمألوف أو المؤمَّل أن يكون خارقاً للمألوف في بنائيته ومسؤوليته وقدرته على تجنيب البلاد والعباد الكثير من الولايات والمآسي والأحقاد وإراقة الدماء" لا أستثني أحداً من القادرين عليه. وإذا حدث فإنه على الأقل سيلجم الصراع في سورية بكل أشكاله وأبعاده، لا سيما البعد الطائفي والمذهبي، ليبقى الصراع عليها، وهو صراع تعيشه سورية منذ الخمسينات من القرن العشرين وتعرف كيف نتعامل معه إذا كان أهلها على قلب رجل واحد؟

من الذي نتوقع منه مثل هذا الفعل الإنقاذي الكبير المثير؟! قطعاً لا يمكن توقعه من لاعب سوري خارج دائرة التأثير على الأرض وفي الحدث، وهذا قد لا يكون من أشخاص يبحثون عن تآلف فيما بينهم فلا يجدون، وقد لا يجدون مثل ذلك التآلف مع كثيرين في داخل المشهد أو المعترك الدامي في سورية.. ربما تفلح في شيء من ذلك تنظيمات أو تحالفات أو قطاعات فاعلة، تمهد بمبادرات مسؤولة وخلاقة إلى شيء من هذا.. ولكن تيارات الرأي داخلها قد تحول دون اتفاقها أو توافقها على شيء من ذلك.

أما السوريون في الداخل الذين يتنادون إلى مؤتمر إنقاذ يهدف إلى وقف إراقة الدم بالدرجة الأولى، فقد يفلحون في تكوين نواة تعمل على هذا الهدف وفي هذا المنحى.. وقد تمهد صيحتهم لصحوة ضمير ويقظة عقل وبداية تفكير جماعي مسؤول.. ولكن هل يحققون هدفهم المنشود؟! إنهم يطالبون بوقف فوري للاقتال وإراقة الدماء.. وهذا واجب وحس وطني وإنساني رفيع وفعل يستحق الإنجاز، ولكن الذين يطلب إليهم الاستجابة محكومون بمعطيات كثيرة، وقد يكونون محكومين بالتحديات الثأرية وبالقوى الخارجية وبالغلَبة العسكرية.. إنهم قد يستمعون ولكن قد لا يلتفتون.. فالمعطيات الكثيرة في هذا المجال التي يفترضها صوت العقل لا يقبلها المنخرط في مسارات الدم.. ومن أسف أن صوت العقل المسؤول والضمير الحي يغيب أو يغيَّب في ضجيج التحدي والدم والموت والإرهاب والرعب وإعلام مفتون بالآلام.  هل هناك فرصة لوقف الاقتتال وإطلاق النار، فيما يشبه الهدنة كما يقولون؟ ربما .. لكن للأطراف المعنية حسابات واعتبارات ومواقف وشروط؟ النظام لا يعطي المسلحين فرصة لتعزيز وجودهم حيث هم، فهو يقول حين سحبنا القوات من المدن أعادوا احتلالها؟! والمسلحون لا يعطون النظام فرصة لبسط سيطرته على الأرض حيث يتمترسون، انطلاًقاً من مسؤوليته عن أمن البلاد وحماية الحدود؟! لأنهم يرون أنهم وصلوا إلى ما وصلوا إليه بالقوة ولن يتراجعوا؟! إذن أية هدنة وأي وقف للاقتتال من دون خطوات وإجراءات والتزامات واضحة وملزمة لجميع الأطراف، ترضي كل طرف أو تلزم كل طرف وفق حدود القانون والمنطق والعدل والمصلحة العليا للشعب والوطن.!؟.

والأحزاب والقوى المعارضة التي تنادت للاجتماع في دمشق يوم 23 أيلول/ سبتمبر الجاري ستتحاور وتبحث ما يعزز تقاربها وثباتها على مواقفها المعلنة وكيفية وصولها إلى ما تريد.. ومواقفها ومطالبها معروفة ولا يتوّقع أن تتغير.. وقد كانت على غير وفاق واتفاق مع النظام قبل بداية الأزمة حول قضايا حلَّت وأخرى ما زالت معلقة، ولكن تبنّيها المطلق والمسبق لإسقاط النظام أولاً وقبل الدخول في حوار معه سوف يبقي جسر التواصل بينها وبين النظام معطلاً، والنظام طرف أساس في أي حل وهي طرف في الأزمة.. ومن ثم فلا يُنتظَر تحركٌ جاد وفعال باتجاه حل خلاق إلا إذا كانت هناك مفجآت أكبر من قدرتنا على التخمين، وذلك ما نرجو أن يكون.

بقيت جهة يمكنها أن تبادر إلى خطوات خلاقة تمهد لمناخ أفضل فيه تبشير بشيء من الثقة والتفاؤل والتعاون اللاحقين.. وهي الجهة القادرة الحاكمة.. ولكن كل خطوة قد تتخذها لها حسابات وأبعاد وصلة بجهة خارجية ما ومع بلد ذي حدود معها، أو لها علاقة ببلد له موقف مستمر منها يغذي الاقتتال بشكل من الأشكال.. وهي ترى نفسها مسؤولة بموجب الدستور والقانون يرتبان عليها واجبات ويحفظان لها حقوقاً، وأنها حاكمة إلى مدى زمني محدد بموجب الدستور والقوانين..؟! وما لم يكن هناك شيئ خارق للمألوف ومتسام إلى آفاق أبعد من الحكم والسلطة ومتعلقاتهما.. فلن يتوقع أن يحدث شيء منقذ في هذا الاتجاه.

بقي شيء يفعله سوريون على أن يقبله سوريون.. إنقاذاً للوطن والشعب.. وبعيداً عن كل الشبهات من أي نوع كانت، وهو شيءٌ غاية في العدل والمعقولية والبساطة عند أطراف، وغاية في التعقيد والخيالية والتعسف عند أخرى.. وشرطه أن تكون إرادة كل سوري حرة من أي ارتباط أو ولاء أو تبعية أو مرض اجتماعي " طائفي أو مذهبي أو.. أو.." من أي نوع، إرادة مخلصة لله والوطن والشعب، سواء أكان السوري داخل البلد أو خارجه.. وذاك الشيء هو: أن يقتنع كل من دمَّر وأراق دماً، أوتسبب في إراقة دم وإحداث دمار، ومن حرَّض على إراقة الدم والدمار والتشرد، ومن تورط في الأزمة وورط غيره فيها.. وكل مسؤول عنها وفيها بصورة مباشر أو غير مباشرة، أن يقتنع بأنه آن الأوان لأن نتوقف ونفكر.. وآن أن: " يتوقف الاقتتال والتآمر والتحريض..إلخ، وأن تُرفع كل يد عن البلد والشعب، وأن يُترك للقادرين من أبناء سورية، وهم كثر، فرصة أن يتدبروا الأمور في ظلال مختلفة عما هو سائد، وأن يديروا مرحلة تؤدي إلى انتخابات تشريعية، تحكمها نتائج صناديق الاقتراع.. على أن يتم ذلك في الوقت الذي يكون فيه الجيش العربي السوري حامياً لسيادة الوطن وأمن الشعب، كل أبناء الشعب، وأن تعمل كل أجهزة الدولة بإمرة المسؤولين عن مرحلة سمها ما شئت من الأسماء."؟!. لكن هذا على بساطته ووضوحه وربما بداهته وحقانيته يبقى صعباً بل شبه مستحيل ما لم تتوفر استجابة تامة لهذا وقبول به وإقبال عليه ونوايا حسنة خلفه، وما لم يتم تقديم للأشخاص القاديرن المنصفين الوطنيين الإنسانيين ليقوموا بتلك المهمة بنزاهة واستقلالية تامتين.. والصعوبة تتأتى عملياً من: من الذي يقبل أو يبدأ أو يبادر؟ من الذي يختار أولئك الأشخاص؟ وتحت أية شرعية يكون اختيارهم وعملهم؟ هذا بسيط جداً حين تخلص النوايا ويتم التوجه نحو إنقاذ البلد والشعب.. فالدستور والقوانين والعقل والمنطق والحكمة والضمير الوطني.. كل ذلك يكون حاكماً، ويساعد على اتباع إجراءات دستورية وقانونية وإنسانية تمكن الشعب والبلد من الوصول إلى ذلك بسلاسة وسلامة وأمان. أمَّا ما بعد ذلك فرهن بالنتائج التي تفرزها صناديق الاقتراع وما تتخذه دولة مدنية، ديمقراطية، مستقلة، ذات سيادة تامة، موحدة الأرض والشعب، وذات سلطات دستورية منتخبة انتخابات حرة نزيهة.. ما تتخذه من توجهات وإجراءات قانونية.. مرجعها الأعلى وصاحب السيادة فيها هو الشعب.

 

دمشق في 18/9/2012