خبر انحياز عدم الانحياز ..علي عقلة عرسان

الساعة 11:16 ص|31 أغسطس 2012

ما يقرب من ثلثي دول العالم في حركة عدم الانحياز، ذات التاريخ الطويل، والتأرجح التاريخي بين اليقظة والسبات، بين الحياد الإيجابي والانحياز النسبي، بين التأثير الطفيف في ما يجري عالمياً والرغبة في الفاعلية المؤثرة.. في المؤتمر السادس عشر الذي انتهت أعماله يوم أمس الجمعة 31 آب/ أغسطس 2012 في طهران التي تسلمت رئاسته من مصر، توقف المشاركون عند ملفين أكثر من الملفات الكثيرة الأخرى التي يزخر بها جدول أعمال المؤتمر: ملف قديم يتجدد من دون جدوى تكراره ومناقشته، وهو تطوير أو إصلاح أو إعادة نظر في هيكلة الأمم المتحدة وميثاقها ومجلس الأمن الدولي الذي يملك ما لا تملكه الهيئة العامة لتلك المنظمة العتيدة من صلاحيات ونفوذ فعلي.. وملف الأزمة السورية المستمر منذ سبعة عشر شهراً بدموية فاقعة ومأساوية قاهرة، ومعاناة إنسانية بالغة ومتنامية، وتدويل لها ومحاولات تدخل خارجي فيها يعقدان حلها، بل يحولان دون حل سياسي منشود لها، يقول به الجميع علناً ويخفي كثيرون ما في أنفسهم ما يجعل ذلك الحل مستعصياً ويدخله دائرة " المستحيل"

إن الملف الأول، أي ملف إصلاح منظمة الأمم المتحدة وتطوير ميثاقها وإعادة هيكلتها والنظر في العلل المزمنة التي يعاني منها مجلس الأمن الدولي الذي تنعكس قراراته وممارساته وأزماته على العالم أجمع، هو ملف لا يمكن معالجته بمجرد رغبة دول كثيرة بذلك، على الرغم من وقوف التكتلات الدولية الكبيرة مثل حركة عدم الانحياز ومنظمة التعاون الإسلامي والاتحاد الإفريقي وغيرها خلف هذه الرغبة وهذا التوجه.. وما حركتها السلحفائية العجيبة في هذا الاتجاه سوى تعبير صارخ عن إدراكها لحقيقة أن التغيير لا يمكن أن يتم بمجرد توفر الأكثرية والمناداة بالديمقراطية على الصعيد الدولي، وبوجود معطيات عقىنية ومنطقية لإجراء التغيير المطلوب.. ذلك لأن مجلس الأمن الدولي تشكل بهذا التكوين والصلاحيات والخصوصيات نتيجة لحرب عالمية فرض فيها المنتصرون رؤاهم وإرادتهم على العالم، ولا يمكن أن يتنازل أصحاب الامتيازات والخصوصيات والنفوذ عن كل ما يرون أنه من حقهم ومن نتاج القوة التي انتصرت، تلك التي ما زالوا يملكون مقوماتها والقدرة على تطويرها واستخدامها وما تغري به وما لديهم من ميول فرض إرادة من يملك القوة ورؤاه ومصالحه على العالم.. وذلك لا يغيره إلا توافق واتفاق بين الكبار.. وهذا ليس في أفق اتفاق ومصلحة فيما يبدو، أو تغيره حرب عالمية تأتي على السائد والنافذ والمهيمن من القوى والمواثيق والتشكيلات والتكتلات.. وفضلاً عن أن هذا ليس في مصلحة العالم والدول والتكتلات التي قد تملك العدد ولا تملك القوة، إلا أن مفاتيحه وقراراته وكل ما يتصل به هو في يد تلك القوى المهيمنة والمسيطرة والنافذة، قوى النفوذ والفيتو في مجلس الأمن الدولي.. التي خرجت من حرب ساخنة مدمرة إلى حرب باردة نزف العالم فيها الكثير من دمه وقدراته وطاقاته وعانى ما عانى.. إلى استقطاب وحيد الطرف نتج عن خلل في ميزان القوى الدولية الكبيرة وأدى إلى انهيار أحد الحلفين الكبيرين الحاكمين، أي "حلف وارسو"، ومن ثم بدأت العودة إلى حالة دولية جديدة، فيها تمرد على سياسة " القطب الواحد" ورفض لها، ومناداة بسياسة دولية فيها أكثر من قطب وفق منظور جيو ـ سياسي يتبلور. وهي حالة دولية تعني إعادة التركيز على حركة عدم الانحياز بالذات لفرض انحياز نسبي عليها أو على مساحات رأي فيها، أو لاستقطاب دول منضمة إليها وجعلها تقوم بدور مرغوب فيه من أطراف حركة الاستقطاب الجديدة. وحركة عدم الانحياز كما نعرف ولدت في أحضان الحرب الباردة بين المعسكرين الرأسمالي والشيوعي اللذين كان يقودهما أو يتزعمهما حلفا الأطلسي ووارسو.. وكانت ترمي إلى القول بأن هناك دولاً خارج المعسكرين لها رأي وموقف ورؤية، وليس من مصلحتها أن تنحاز إلى أحد المعسكرين المتنافسين، وأن لها حضوراً وتأثيراً في العالم من خلال مؤسساته وعلى رأسها منظمة الأمم المتحدة ومؤسساتها.. ولكن بدا، منذ اجتماع جزيرة بريوني وحتى يوم الناس هذا وعبر ستة عشر مؤتمراً، أن هذه الحركة غير قاردة على اتخاذ موقف غير منحاز فعلياً وعملياً، لأنها إما مخترقة بحالة من الانحياز الجزئي في البيت الكلي لعدم الانحياز، وإما غير قادرة على اتخاذ موقف مستقل لأنها ستكتوي بنيران المستقطِبين التي لا يمنعها من الاكتواء بها معسكر عدم انحياز قوي حيث لا يملك المؤتمر ولا تملك الحركة أن تحمي نفسها وأعضاءها اقتصادياً وعسكرياً على الخصوص.. وقد كانت معظم دولها عرضة لصراعات وأزمات تخلقها الأحلاف والقوى المتنازعة، وتستثمر في أزماتها ومشكلاتها النابعة من أسباب سياسية واقتصادية أو من نزاعات داخلية تغذَّى باستمرار وذات أصول ومنابع تتصل بعلاقات دولية ومصالح وصراعات فكرية وعقائدية وإثنية، ومن ثم تضطر تلك الدول للعب دور سياسي من فوق الطاولة أو من تحتها، لأنها لا تملك إلا أن تقوم بدور " ميكي ماوس" بين عمالقة كبار ذوي قدرة على البطش. ويبدو حتى الآن أن حركة عدم الانحياز لا تملك الإرادة السياسية ولا القوة ولا القدرة والرؤية الفعلية لتحقيق عدم انحياز فعلي " أي إيجابي" يفرض موقفاً دولياً لغير المنحازين ويحمي مصالحهم، وليس لديها التوجهات والخطط والبرامج التي من شأنها أن تحمي سياسة ومواقف غير منحازة لها ولأعضائها.. ولذا ستبقى ظاهرة محفلية لتبادل الرأي وإصدار البيانات، أي  ظاهرة كلامية ـ إعلامية في السياسة الدولية تملك الرغبات والتمنيات ولا تملك الإمكانيات.

أما الملف الثاني الذي حظي باهتمام كبير حتى لا نقول إنه هيمن على المؤتمر السادس عشر لدول عدم الانحياز، فهو ملف الأزمة السورية.. وهو ملف يحظى باهتمام الكثير من الدول في المنطقة والعالم، ويَعني بصورة خاصة الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن الدولي، بل يشكل هاجساً لمعظم تلك الدول، وتتمركز حوله أو تنطلق منه حركة الاستقطاب الدولي الجديدة التي تولد فيها أقطاب سياسية ترفض هيمنة الولايات المتحدة الأميركية وحلفائها على السياسة الدولية من جهة، وتريد الإعلان عن عودة قوى دولية كان لها دور وموقف وكلمة ورؤية في السياسة الدولية زمن الحرب الباردة، عودتها إلى حلبة السياسة الدولية من جهة أخرى، دون أن تقول بعودة الحرب الباردة أو حتى تقصد عودتها وعودة ظروفها إلى الحياة الدولية.. مع أن ذلك غير ممكن عملياً حتى لو أراده المعنيون بالاستقطاب السياسي وأرادته والأقطاب السياسية ذاتها بصدق.

ونظراً لأن الأزمة السورية دُوِّلَت على نحو ما، ولأن سورية دولة من دول عدم الانحياز، ودول عدم الانحياز العربية وغير العربية لها مواقف مختلفة وربما متضادة من الأزمة السورية، مثل ما هو عليه الحال مع مصر والرئيس محمد مرسي رئيس المؤتمر السابق لدول عدم الانحيز قبل أن تتولى إيران الرئاسة، ومثل ما هو عليه الحال مع دول أخرى أعضاء في الحركة لها مواقف مختلفة وحتى متضادة من الأزمة في سورية، فإن المؤتمر لا يملك الحل، ولا يملك إلا أن يخرج " بقرارات وتوصيات ومواقف" جيدة على الورق، وأن يؤيد الإبراهيمي، وخطة عنان، وقرارات قمة جنيف المتصلة بالأمر، وأن يأخذ بالحل السياسي للأزمة ويدعمه ويقول بالتحرك على أساسه، ولكنه لا يستطيع أن يفرض موقفاً عملياً لحلها على أرض الواقع ولا على مجلس الأمن الدولي الذي تقول أطراف فيه بالحل السياسي نظرياً في العلن وتقوضه عملياً في السر والعلن. وما يصدره مؤتمر الحركة من بيانات وقرارات وتوصيات سيشكل رغبات ومؤشرات ومادة تستخدمها الدول الدائمة العضوية في المجلس والأطراف المعنية بالأزمة، وتتقذفها وسائل الإعلام وتدحرجها لتكبر.. ولكنها تبقى ظاهرة كلامية.. فالحل والربط في يد طرفين: الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن ذات الاستراتيجيات والمصالح والمواقف والرؤى والتأثير والقدرة على الاستقطابات السياسية وفرض الحلول بالاتفاق، والأطراف السورية المعنية مباشرة بالأزمة على أرض الواقع.. وهي قوى بعضها لا يملك قراره ويتحول إلى لا عب منضوٍ تحت جناح غيره، أي أنه يتحول، شاء أم لم يشأ، إلى ما يشبه البيدق على رقعة الشطرنج العربية والإقليمية والدولية.. وأطراف أخرى ذات رؤى ومواقف وحضور في ذلك الملف، تعرف مقوماته وسبل حسمه، وتخوض الصراع الساخن فيه، وتدفع ضريبة الدم وتكاليفه الباهظة، أو تساهم في دفع تلك الضريبة والتكاليف على نحو ما، وتشعر بانعكاس ذلك على البلد والشعب والأمة العربية كلها وعلى من يدفع تكاليفه مباشرة ممن لا ناقة لهم فيه ولا جمل.. ولكنها قد لا تملك القدرة على الحسم لأسباب واقعية وعملية ولوجستية، أو لأخرى سياسية تتعلق بتعدد اللاعبين والمتدخلين في هذا الملف وبقدراتهم وأهدافهم وتأثيرهم وتعدد مصالحهم وآرائهم، ولأسباب غير سياسية أخرى ذات تفاعلات ومفاعيل عدة.. ومن المعنيين بذلك الملف مباشرة من لا يستطيع إلا أن يتأثر بمواقف الدول والقوى ذات النفوذ والتأثير والحضور فيه، سواء أكان ذلك على الأرض السورية أو في القرار السياسي العربي والإقليمي والدولي.. فيبقى بين المد والجزر إلى أن تنجلي الحلبة الدولية عن وفاق واتفاق على حل ما.

إن حركة عدم الانحياز، مثل كل حركة دولية فضفاضة جداً، لا تملك أن تجعل أعضاءها يلتزمون جدياً وكلياً بدقة تنفيذ بقرار يتخذونه هم حتى في مؤتمراتهم.. لأن كل دولة ستأخذ بما تراه مصلحتها.. وأمامنا تجمع مترابط بصورة أوثق من حركة عدم الانحياز، وأدعى لأن يتعاون أعضاؤها ليحمي كل منهم نفسه ويحمون وجوداً وعقيدة وثقافة وحضارة.. هو تجمع الدول العربية في الجامعة التي تتخذ قرارات ملزمة، ولها مواثيق ملزمة مثل ميثاق الدفاع المشترك توقع عليها الدول .. ولكن معظمها لا يلتزم، وينطلق من كون مصالحه لا تسمح له بالعمل بقرار لا يتفق وتلك المصالح.. مع أنها مصالح قد تكون ضيقة جداً ومؤثرة سلبياً على قضايا مصيرية وعلى حقوق أساسية للأمة؟!. وإذا كان هذا هو شأن دول تنتمي إلى قومية واحدة ويجمع شعوبها التاريخ واللغة والثقافة والحضارة والعقيدة وهي تفعل ما تفعل.. فكيف سيكون شأن دول من قارات الأرض، فيها ما فيها من اختلاف متشعب ومتنوع ومتأصل، ولكل منها مواقف ومصالح وثقافة و.. إلخ.؟!!

على كل حال لا نملك إلا أن نتمنى لحركة عدم الانحياز التقدم، وأن تكون غير منحازة إلا للحق والعدل والإنساني وما فيه خير الأمم والسلام والاستقرار والأمن ومنفعة الإنسان.. أما الملفات الدامية مثل الملف السوري فلن يخلِّصه من شوائب التدخل الخارجي والتأثيرات الداخلية المرضِية القتالة والمعيقة للحل، ومن ثم يتقدم به نحو الانفراج الناجع سوى أهله المكتوين بناره.. فهل تراهم يتقدمون نحو المسؤولية التاريخية بحكمة واقتدار وإيثار وضمير حي ويعملون على الحل السياسي لها بتقوى وهمة الرجال وثقة المنتمين إلى بلد وشعب وأمة قدمت للإنسانية الكثير؟ وهل تراهم يفعلون انطلاقاً من الثقة بالنفس والإيمان بالله وحب الوطن ومراعاة الأجيال والأمل بمستقبل للناس كل الناس؟!

إن العين لتدمع، والقلب ليحزن، وإننا... إننا.. إننا..

ولا حول ولا قوة إلا بالله.

دمشق في 31/8/2012