خبر ألا.. فليرتفع صوت الشعب.. علي عقلة عرسان

الساعة 05:45 م|24 أغسطس 2012

الأرض في سورية الحبيبة غاية في التنوّع والجمال والخصوبة، ومعظم مناطق البلاد ذات مواسم تُروى بالماء والعرق والهمم، وغلال تلك المواسم وفير.. ولذا كان اعتماد البلاد والعباد على المحاصيل الاستراتيجية من حبوب وزيوت وخضار وفواكه..إلخ، يكفي الناس شرَّ الحاجة، ويجنب البلاد مخاطر وعواقب الارتهان للخارج، من حيث الحاجة إلى رغيف الخبز والقوت اليومي والبذار الموسمي الذي يجدد الإنتاج والآمال، ويجعل سورية لا ترتهن لقوة أجنبية.. واليوم أرض سورية الخصبة تُنتج محاصيل استراتيجية من نوع آخر، نوع مغاير للطبيعي والتراثي والإنساني والمعقول والمقبول، في عصر التغيير والتطوير، فتدخل دهاليز التخلف الظلام في زمن التنوير والنهوض والحرية والتحرير والتقدم التقني والعلمي.. فها هي تُبذر ببذار من نوع سامٍ يُسقى بغدَق من الدم والغم، وهاهي أرض الشام تشرب صباح مساء من دم أبنائها بيد أبنائها، ويتغذي البذار السامُ بالعطاء السامِ.. والدم لا يغل سوى الدم والزؤان لا ينتج الحنطة.. والناس في بلدي الأعز، سورية الحضارة والألفة والخصب، يستافون من ذاك الغلال البغيض مطحوناً مع اللحم والعظم معجوناً بالحقد والثأر، فتنتفخ أوداج وصدور بما تقتات مما يُجنى لها وعليها، وينمو فيها ما ينبغي أن يجمَّد ويرمدَّ "القتل والرعب والظلم والموت والحقد".. فإلى أين المساق، وما الذي ينتجه ذاك الغلال السام حين تستافه الأنفس وتثمّره القلوب، وإلى أي حال يصير الناس وتصير البلاد.؟!

كل من تطرحُ عليه السؤال بشأن ما يجري في البلد العزيز سورية تجده يرفض ما يجري ويدينه ويكاد يتبرأ ممن يفعله، ويشمئز من هذه المواسم والغلال اليومية الدامية، ويتوق إلى الأمن والاستقرار والتبصّر بالأمور على نحو مغاير للسائد، ويتطلع إلى صباحات سورية مضيئة لا يكون فيها قتلٌ ولا اقتتال ولا تعذيب ولا عذاب ولا ظلم ولا فوضى ولا إرهاب، صباحات يشرق نورها على الناس بالمودة والألفة والمحبة ولا تتوالد فيها البغضاء من البغضاء، ولا يفني فيها السوريُّ أخاه السوريَّ أو يقهره أو يرذله أو يلغيه.. ولكن الإرادة العامة للناس في واد وجريان نهر الأحداث والدماء والأحقاد على الأرض وفي الأنفس في واد آخر.. والمسؤولون عن الدم المراق يستمرؤون لعبتهم المقيتة ويمضون في ضلالهم، ويخوضون التحدي بعزم وإصرار وتصميم على تحقيق " النصر"؟!، ولكن ما هو النصر الذي يتحقق في ذبح السوريّش للسوريِّ، ومن تدمير البلد، وإشاعة الخوف والكراهية والاصطفاف والاستقطاب المريضين بين الناس، على أرضية أياً كانت فثمرها مر، في صراع لم تشهد سورية مثله، بسعته وتطوره واتصاله مثلما تشهد الآن، صراع لا يوجد فيه منتصر أبداً بل مهزومين مجرحين وازرين آثمين، صراع فيه هلاك من يفوز ومن لا يفوز فيه، يخوضونه السوريون وسواهم على أرض سورية، في أزمة ـ كارثة، طالت وتعقدت وامتدت، وأخذت بنهج العنف البغيض، وسارت في مسار الدم، وتدخَّل فيها القريب والبعيد، العدو والصديق، وكل من له مصلحة وخطة استراتيجية وبرنامج هيمنة وطمع بثروة وأمة، و" اللي يسوى واللي ما يسواش" على حد تعبير أشقائنا المصريين؟!.

 لا أقدم التدقيق الآن في من يتحمل المسؤولية عن ذلك الذي يجري في بلدي الحبيب على ضرورة وأهمية وفورية أن يتوقف القتل والإرهاب والرعب وتهجير الناس، وتدمير البنى التحتية والبيوت في القرى والبلدات وأحياء المدن، وإضعاف الاقتصاد الضعيف أصلاً، والإزراء بهيبة البلد ذي التاريخ والدور والمكانة، وزيادة معاناة الأبرياء من أطفال ونساء وشيوخ، وإذلالهم إذ يهجرون البلاد خوفاً ويهربون خارجها نجاة بأنفسهم وأطفالهم وأرواحهم من الموت الذي يترصدهم في رشقات رصاص المتقاتلين وقذائفهم وكمائنهم ومداهماتهم، ويتعرضون في المخيمات التي نُصبت لهم، في تركيا والأردن وفي أماكن وجودهم خارج سورية العزيزة، لما يخجل وسيخجل كل سوري ذا عزة نفس وأنفة وكرامة.

إن توقف العنف بكل أشكاله مقدمة رئيسة لاستعادة العقل وعودته إلى الحاكميّة في كل نزوع وانغعال ونزاع، وعودة الضمير إلى الحيوية والمحاكمة الذاتية، ومقاربة الوعي بمسؤولية لأمور وأساليب منطقية حضارية تُعالج بها الأزمات وتحل المشكلات بغير القتل والقهر والظلم والاستبداد والاستعلاء والاستعداء والاستقواء بالعدو.. إلخ.. سيعيش السوريون المتحاربون اليوم مع بعضهم البعض غداً، وسيواجهون معاً ـ إلا من انتمى لغير البلد والأمة، ودخل هذا المعترك الدامي تاجراً ومستثمراً، أو مطية لتاجر ومستثمر فيه ـ كل ما ينتج عن هذا الصراع من مشكلات وتبعات، وسيبقى أعداؤهم أعداء لهم جميعاً، هكذا يعلمنا التاريخ الطويل، وسيتعرضون معاً لكل التحديات التي تواجه سورية الموقع والمبدأ والاختيار والانتماء والدور التاريخي على مستوى الأمة والمنطقة.. ولن يكون السوري الأصيل إلا سورياً أصيلاً بكل ما تعنيه الكلمة، وما تلقيه من تبعات على حاملها والمنتمي لبيئتها الرسالية والثقافية والمعرفية والاجتماعية والسياسية والأخلاقية.. وهذا كله بجذوره وفروعه وتفاعلاته سيدخل في رسم صورة المستقبل وتحديد ملامح البلاد بعد انتهاء الصراع والعودة إلى التآلف.. سوف ينظر كل منا في وجه الآخر وتتكلم القلوب بلغة العيون، وسوف يبكي الطيبون على ما فرط به قوم منهم وربما يندم السيؤون.. ولكن لا معدى لهم، من أجل صفاء القلوب وعودة الأمن وتبادل الثقة والمستقبل الأفضل ولوطن المستقر على قوائم من العدل وانتصار الحق وجلاء الحقيقة، لا معدى لهم عن أن يأخذ العدل مجراه، ويتحمل كل مرتكب لجرم نتيجة ما ارتكب من جرم، أياً كان شأنه ودوره وموقعه.. يجب ألا يكون هناك نجاة من العقاب لكل من أورد البلد هذا المورد، ليس بالأسلوب الثاري ولا المذهبي ولا الطائفي ولا العشائري ولا التعصبي الحزبي أو السلطوي، بل بالقانون والعدل والإنصاف والحكمة، إلإ إذا عفَّ وصفح من له حق شخصي عند أخ، فتلك مكرمة تحفظ له ولا تسقط الحق العام، أما من ألحق بالوطن والشعب والأمة الكوارث لأي سبب كان، فله جزاء يحدده االقانون بالعدل ثم بالعدل ثم بالعدل.. ولا مهرب من العقاب ولا تجدد للقتل والظلم والعذاب.    

إن الذي يفكر فقط باللحظة الآنية التي يعيشها ولا ينشغل إلا بما تحت قدميه وما هو بمتناول نزوعه الانفعالي العنفي المرضي أو الإجرامي، سواء أكان ذلك النزوع سلطوياً تسلطياً أم تطلعاً للسلطة والتسلط ، لا يمكن أن يفلح في رؤية اللحظة القادمة ولن يفلح في رؤيتها، فهو لا يتطلع فعلياً إلى أبعد من أنفه وليس بوسعه أن يفعل غير ذلك ولا أن يرى النور في غياهب الظلمة التي تغشاه ويغشاها، لأنه غارق في تفاصيل الآنية اللحظوية الغَلَبَويِّة وتوابعها وارتداداتها وشؤونها وشجونها، ومنساق أو يُساق في مسار وتيار قد لا يريده ولا يتمناه، وربما يدعي أنه يحاربه، هو تيار الحقد والكراهية والقهر والثأرية وأمراض الطائفية والمذهبية والعصبوية مما يتسبب في بالمعاناة وما تنتجه من ارتدادات سلبية.. وعلى الرغم من التشدق الكثير والمثير، لأشخاص في هذا الصف وذاك من صفوف تريق الدم وتسبِّب المآىسي وتؤسس للبؤس الاجتماعي والسياسي والاقتصادي القائم والقادم، على الرغم من التشدق بالكبير من الأقوال والقيم وعلو الهمم، وبالكثير من الآمال والوعود المتصلة بفضائل وطنية جمة.. فإنه لا يعني أولئك المتشدقين بذينك الفعل والقول، عملياً وواقعياً، ما يلي الحال الذي هم فيه الآن، ولا ما سيحصده أولادُهم وبناتهم مما تبذره أيديهم وما يزرعون، ولا ما سيحل بالوطن الذي يدعون أنهم يقاتلون من أجل علو شأنه ومكانته وتعزيز قدراته والنهوض به والمحافظة على سيادته ووحدة أرضه وشعبه،  ولا بما يحل بالناس الذين "سيحررونهم ويرتقون بهم ويرفِّهونهم ويعززون كرامتهم وحقوقهم وشؤونهم ومشاركتهم في القرار والإدارة وتقرير المصير..إلخ"!!؟.. إن ما يعنيهم هو أنفسهم ومصالحهم ونزواتهم وكلَّ سلبي تزينه لهم نفوسهم أو من يتولون تزيين الأمور لهم من مشيرين ومستشارين وإعلاميين وأجهزة وممولين ودول وجهات ذات مآرب وخطط واستراتيجيات ومصالح.

وبتقديري أن سورية تغيَّرت، إن سلباً وإن إيجاباً، بفعل ما شملته الأحداث وأدت إلى تغييره وما سيطاله التغيير في المجالات كلها، وقد تغيَّرت بما يسمح بالقول بأنها لن تعود كما كانت. ولكي تملك زمام نفسها، وتتدبر أمرها، وتخوض في خضم التغيير بحكمة واقتدار ومسؤولية، لا بد لكل طرف من الأطراف المعنية مباشرة بالصراع على الأرض أن تتوقف ولو للحظة تأمل ومراجعة للذات والحسابات، في ضوء ما تمَّ على الأرض، وما يتفاعل في المحيط الجيو – سياسي داخل سورية ومن حولها.. على أن يكون لدى الفاعلين فيها القدرة والشجاعة على التبصّر والتدبّر والرؤية والاستشراف من جهة، والتضحية من أجل البلد والشعب وتسجيل مواقف تاريخية من جهة أخرى.. وعلى هذه الطريق وفي هذا المنحى لا بد من القيام، قبل كل شيء، بلجم الانفعالات والغرائز والتحديات الثأرية وتصفية الحسابات وكل ما يعيق فاعلية العقل والضمير والدين والقيم الإنسانية الخيِّرة، أيأ كان مصدره وسببه ومسوغه وحجمه وحقانيته وعدالته.. لكي يصل الشخص وتصل الجهة أو الطرف المعني إلى وضع المصلحة العليا للوطن والشعب والمواطن الذي يدفع فاتورة الدم والتكاليف الباهظة، فوق كل اعتبار شخصي أو فئوي أو جهوي أو حزبي أو..إلخ، ويكون لديه الاستعداد لتقبل العدالة وإرادة الشعب، من دون أن يدعي أحد بأنه يمثل الشعب أو أنه يضعه في جيبه.. فالثابت، بما لا يقبل الشك، أن الشعب أكبر من كل الأطراف المعنية بالصراع، وأنه لا يريد هذا الصراع ويدينه، ولا يقبل استباحة وجوده وإرادته وحقوقه ولا سرقتها بأي شكل من الأشكال، وأن لديه من الحقوق والطاقات والكفاءآت ما يسمح له بأن يقول بملء الصوت للجميع، عبر صيغ مدنية ديمقراطية دستورية وقانونية أخلاقية وشرعية تشريعية: ".. أن كفى، توقفوا عن العبث بي باسمي، فأنا الحكم والحاكم والمتضرر ومن يدفع فواتير هذا الصراع دماً ودماراً ومعاناة وإذلالاً.. وأنا السيد هنا ولا سيد على هذه الأرض سواي، ومن أكلِّفه بأمر أو شأن من شؤوني يصبح " سيداً باسمي وتحت عيني وبإرادتي"، وباسمي يتحمل مسؤولية يُسأل عنها ويحاسب عليها وهي أمانة في عنقه، وأنا من أملكه ولا يملكني، وأنا أضعه حيث أريد وأبعده عن الموضع الذي وضعته فيه متى أريد.. أفعل ذلك وأعبر عن إرادتي الحرة بأسلوب يرسِّخ المساواة والعدالة والحرية ورأي الأكثرية أو الأغلبية، وفق نتائج صندوق الاقتراع الذي أعرف أن له وعليه سياسياً، ولكن لا يوجد حتى الآن ما يحل محلَّه من أساليب التعبير عن الإرادة الشعبية لممارسة نوع مقبول من الحكم.". وقد يقول الشعب السوري للمتناحرين على جثته، الآثمين جميعاً بحقه: " لستم أهلاً لثقتي، كلكم أبنائي نعم ولكن لستم حكامي، فقد أدميتموني وعزَّرتموني وأذللتموني وأهدرتم الحياة والدم، وأرخصتم الروح التي حرم الله، وقتلتم الإنسان الذي كرَّم الله.. فكفى.. كفى، كفوا واتركوا الميدان لمن يبني ما دمرتم ويعمّر ما خربتم.. فأنا الضحية وأنتم الجلادون، وأنا الأرض والمواسم والغلال، وأنا المنتج والمستهلك والباذل، قدرتي أكبر من تقديركم، وإرادتي من إرادة الله على هذه الأرض المباركة، أرض الشام، والله لا يحب ما فعلتم وما تفعلون.. ما لديكم محدود وسينفد وما لدي ممدود ولا ينفد، ولن ينفد بعون الله وإرادته..".

 ألا متى يهب الشعب في سورية الحبيبة ليقول ذلك بصوت واحد يزلزل الأرض تحت أقدام من يدمون قلبه ويفتكون به ويشوهون صورته، متى يرفع صوته ليصبح المستذئبون أرانب، وتنتصب قامته عملاقة في طول البلاد وعرضها.؟! لقد طال الزمن، وكبر الإثم، وكثرت الأضحيات البشرية، وازداد الدمار والخراب والألم حتى تجاوز حدود الاحتمال.. ألا فليقترب الفرج.. وليرتفع صوت الشعب المخلص لأرض وتارخ وقيم ووطن وعقيدة.. ألا فليرتفع صوت الشعب في أرضه.. ألا فليرتفع صوت الشعب فوق الموت ومن يصنع الموت في أرضه. 

24/8/2012

علي عقلة عرسان