خبر أخيراً صليت في الأقصى .. عبد الله الشاعر

الساعة 05:12 م|23 أغسطس 2012

ست وعشرون سنة مرت فهل تكفي زيارة واحدة لاستعادة ما مضى؟ قال لي وقد دخلت سن الأربعين أن بإمكانك أن تدخل القدس لزيارة الأقصى فتملكني إحساس يصعب وصفه.

أهكذا بعد أن وصلنا حد الاستيئاس من الصلاة هناك يفتح لنا رمضان بوابات الأقصى من جديد.

من غير إرادة استبدت بي الذكريات، فأخذت استحث خطى الأيام وأنادي بأعلى صوتي يا يوم الجمعة أقبل، فأنت موعد العبور إلى رحاب الإسراء.. وأنت سلم الصعود إلى معراج ذكريات تستحيل على النسيان..

صليت الفجر وامتشقت شوقي ومضيت.. كانت الطرقات مكتظة على غير عادتها، لكن الجميع على عشق يوفضون.. لكن السرعة لا تسابق الشوق فظللنا نشعر ببطء المسير.

آلاف من الناس يتركون سياراتهم قريبا من المعابر لتحملهم أشواقهم وأقدامهم إلى طابور طويل من الحالمين.. على جوانب الطوابير أناس لم يبلغوا من العبور إلى القدس.. فأستشعر ببركة الأربعين رغم أني كنت أشعر سابقا بثقلها النفسي والجسدي.

انتظرنا مطولا تحت شمس لاهبة نزفت من أجسادنا العرق لكن حلاوة القدس تغسل مرارة الحنظل.. وبعد ساعات من الانتظار عبرنا.. يا إلهي أحقا لم يتبق للوصول إلى الأقصى سوى نصف ساعة من الزمن تتقاسمه الحافلات والأرجل التي ستعبر ما تبقى من مسافة.

لم تبرح عيناي هناك الحافلة فهما يريدان النظر إلى كل شيء ويخبئان في حدقاتهما كل المشاكل.

ها هي أسوار القدس تطالعنا.. ذكرياتها والحنين المخبأ في الشغاف.. ورغم تغير الجغرافيا فإن التاريخ ظل ينطق بما يستحيل على النسيان.. في تلك الطرقات تتعايش كل الحقب وتتصارع كل الحضارات.. في القدس ليس الإنسان هو الكائن الوحيد الناطق، فالجدر هناك ناطقة، والأزقة ناطقة، وسورة الإسراء غضّة كأنها تتنزل الآن.. تعالوا نتوضأ ونصلي ركعتين في مسجد عمر رضي الله عنه.. لكن الصلاة هناك حافلة بالاستغراق والتأمل.. والمسجد يعيدك لعصر الفتوحات والانتصارات وتعزز كنيسة القيامة هذا الشعور المتألم لديك فتستغرق في الذكرى أكثر فأكثر لولا أن هاتفا ينادي عليك هلمّ نمضي إلى الأقصى..

كل الطرقات مكتظة وبوابات العبور إلى المسجد تبتلع عشرات الآلاف كل حين، فأدخلت جسدي في هذا الزحام وتركت لروحي  العنان لتمضي حيثما تشاء...

هنا باب العمود وهناك باب الساهرة والأسباط وغيرها، لكن باب المغاربة يتلفع بالحزن ويئن تحت خرافات المبكى فمن أي البوابات سأعبر؟ ليس بوسع هذا الجسد المنهك أن يتوزع على كل المداخل رغم شوق الروح التي تلح عليه أن يمر منها جميعا..

بعد وقت وتدافع وأزمة واكتظاظ دخلنا ساحة الأقصى.. أخذت عيناي تفتش عن شيء أجهله، فهل أمضي نحو الصخرة أولا، أم أسارع لتأدية ركعتين في المسجد، أم أفتش عن آثار أقدام عبرت هذا المكان وكنت بجوارها قبل ستة وعشرين عاما لكنهم مضوا إلى حتفهم باسمين...!

وبينما كنت أقلب وجهي في المباني والساحات والذكريات كانت وجوه إخوة لي لم أرهم منذ سنوات إلا في الأسر وها هم -مثلي- يشدهم شوقهم ويعبرون الحواجز طمعا في زيارة الأقصى وكلهم لم يزره منذ أمد بعيد.. هذا يستبعد ثلاثين عاما مضت، وآخر عشرين عاما وقليل من زار المسجد منذ خمسة عشر عاما...

في القدس تنبعث الخلائق والذكريات، فتذكرني مصطبة صبرا وشاتيلا بأحباب مضوا، منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر.. تذكرني بتلك التظاهرة التي انتفضت من خلالها ضد الشرطة وحرس الحدود المتواجدين في ساحات المسجد.. تذكرني بالبدايات الطاهرة والصادقة والمباركة.. تذكرني بكل جميل في مسيرة الوعي والثورة والإيمان...

لا شيء من الثورة يسقط بالتقادم.. ودماء شهيد مرت خطاه ذات يوم من هنا كفيلة أن تحيط المكان بالهيبة والقداسة والوقار.. إنها الأماكن تنطق بأفصح لسان وتدلك على بوصلة لا تخطئ.. وتمدك بيقين لا ينضب...

هي الجغرافيا تمتطي صهوة التاريخ فتنبعث الأماكن قبسا من ذكرياتها وأوجاعها التي تزداد مع الأيام، ولكن مع الأحداث والأجيال والزمن.. هنا يصير الشجر والحجر أشد فصاحة من الشعراء، وأعمق خيالا من الحالمين.. بكل اللغات ترسل الجغرافيا للإسراء صوتها ويصير للآيات صدى حر غير الذي عهدناه ونحن بعيدون عن الأقصى...

دعونا نبدأ هنا ببضع ركعات خاشعة يلقي الزمان رهبته عليها ويزيدها المكان قدرا وثوابا، ففي القدس معنى إضافي للصلاة، وكل شيء في القدس مقتبس من الكتب المقدسة.. في القدس تلمس المعجزات باليدين.. وتتنزل الآيات غضة كما كانت...

فرغنا من الصلاة وقد كانت مكتظة بأشياء لا تنتهي.. لكننا بحاجة إلى المزيد من الوقت وكل شيء هنا طاعن في السن والحزن والكبرياء.. كل حجر أو عمود أو نقش اختصار لحضارة مضت ووعود لآخرة ستأتي.. القدس ليست مجرد جغرافيا.. فلها أفق يمتد من قبل الخليقة إلى ساعة الحساب، فلها الأقصى والبراق وجنة عرضها السموات والأرض...

القدس بوابة العبور إلى السماء.. والقدس شعاع النصر الذي سيبدد ظلام ليلنا الطويل.. في القدس تجود قريحتنا بالشعر ويتكلم صمتنا بكل اللغات.. وفي القدس نشتهي أن نلاقي بشائر الإسراء والأوجه الغائبة، لكن سائق الحافلة يحثنا على العودة فثمة موعد مضروب بيننا...

على رسلك أيها الشيخ، فالزمن داخل القدس ليس كخارجها فهلا منحتنا مزيدا من الوقت نقلب التاريخ، ونطوي الأماكن ونوقظ الذكريات الموجعة، فعمّا قريب سنهدهد جراحاتنا ونمنيها بلقاء لا بد سيأتي يا شيخ، في القدس حيزت لنا الدنيا وسقطت بأيدينا كل الحقب فلا بد أن نتزود من الأقصى ونحسن تلاوة الإسراء وفهم مضامينها..

مضى الوقت الإضافي فحزمنا ذكرياتنا وحنيننا، ومضينا صوب باب الأسباط ومنه إلى شوارع القدس العتيقة فصرنا نحن النص ولسنا هامشه يا "تميم"  كل الوجوه الغريبة عابرة..

لقد وصلت موقف الحافلات والتي ستحملك إلى المعبر من جديد فصحت يا رب باعد بين أسفارنا حتى تملأ العين حجراتها بالمناظر، فثمة وجع في هذا القلب وترياقه على مد البصر..

هي القدس تمنحك كل الحب، وتفرغ في قلبك المحزون كل ذكرياتهم حتى تظل ؟؟؟ ظمأى.. وعلى شوق لا ينضب وعلى وجع لا ينتهي...