خبر الأخضر الإبراهيمي والمهمة الصعبة ..د.علي عقلة عرسان

الساعة 08:16 ص|21 أغسطس 2012

 

قبل أن يبدأ الأخضر الإبراهيمي مهمته بصورة رسمية نُسب إليه قولان نفى أحدهما وهو تصريح جاء فيه "أنه من السابق لأوانه مطالبة الرئيس الأسد بالتنحي"، وهاجمته بشأنه المعارضة السورية وطالبته بالاعتذار قائلة: " إن حديثه عن عدم مطالبة الأسد بالرحيل الآن استهتار بحق الشعب السوري في تقرير مصيره"، ولم ينف القول الآخر الذي جاء في لقاء مع فضائية فرانس 24 وقال فيه: "هناك من يقولون إنه يجب تجنب الحرب الأهلية في سوريا، لكنني أعتقد أننا نشهد الحرب الأهلية منذ وقت غير قصير، والمطلوب هو وقف الحرب الأهلية وهذا الأمر لن يكون بسيطا"، وهو ما ردت عليه سورية بالقول: إن التصريح بوجود حرب أهلية في سوريا مجاف للحقيقة وهو فقط في أذهان المتآمرين على سوريا.". وبدا أن في التصريحين زحلقة وتلويح بتلميح يقترب من التحذير، وبينما انطوى الرد على التصريح الذي لم تقبله الجهات السورية رسمياً على ما يمكن القول إنه وجهة نظر، ذهب الرد على التصريح الذي نفاه إلى محاولة إقحامه فيما لا ينبغي لوسيط في أزمة أو قضية ما أن يُقحَم فيه، أي أن يعبر عن موقف فيه تبني لوجهة نظر طرف فيبدو منحازاً إليه، أو أن يلام على أنه لم يبدِ رأياً ويحدد موقفاً وهذا ينطوي على حكم مسبق وموقف مسبق قبل أن يقف على تفاصيل القضية التي نُدب للسعي من أجل حلها.. وهذا يجعله إلى جانب طرف وضد طرف من أطراف القضية التي يدخل وسيطاً فيها وعليه أن يتعامل مع أطرافها بموضوعية؟!.

وتسبب ذلك الذي بدا زحلقة أو استدراجاً، في إطلاق كلام من أشخاص لا يملكون تاريخ الإبراهيمي ولا تجربته، وقال بعضهم ما معناه "عليه أن يدقق في كلامه"!!، يعنون الكلام الذي نسب إليه ونفى أنه قاله؟! وحتى لو أن الإبراهيمي قال فعلاً ما زُعِم أنه قاله من كلام أهاج البعض وأثاره، أي " أنه من السابق لأوانه مطالبة الرئيس الأسد بالتنحي"، فإنه لا يجوز أن يلام عليه بوصفه وسيطاً، لأنه ليس من الطبيعي ولا من المعقول والمقبول أن يشطب الوسيط أحد أطراف القضية التي يدخل وسيطاً فيها، أو أن يحكم أو يُوحي بضرورة شطبه بصورة ما، ذلك لأنه مكلف بالتعامل معه كطرف في القضية موضوع وساطته وفق مرجعية لم تشطبه أو تطالب بشطبه. ولقد سمعنا من رؤساء دول ورؤساء حكومات ووزراء خارجية ذلك القول الذي نُسب للإبراهيمي، وقال ما يقرب منه كوفي عنان، لكن بعد أن أنتهى تكليفه بالمهمة التي أوكلت إليه.. ولكن الإبراهيمي في وضع مختلف فهو يدخل مجال الوساطة ولا يخرج منه ليصح أن يعبر عن رأيه الشخصي الخاص؟!..

وتلك لعبة يتداخل فيها السياسي والإعلامي، وقد غدت معروفة ومكشوفة لا سيما للساسة وأهل المهنة اإعلامية، فضلاً عن أنها حالة معتادة في التجاذب الكلامي المتعلق بالوسطاء في الأزمة السورية من الفريق مصطفى الدابي إلى السيد كوفي عنان إلى السيد الإبراهيمي الأخضر.. فكل منهم قُوِّل ما لم يقل أو نسب إليه بعض ما لم يفعل أو استدرج بشكل من الأشكال، وتعرض لشيء من هذا قبل أن يبدأ مهمته بصورة فعلية.. وكأن العصي توضع، أو يُراد لها أن تُوضع، في عجلات مركبة الحل السياسي للأزمة السورية، أياً كان من يقودها أو سيقودها.

الإبراهيمي يدخل حلبة دامية، ومساحة من العنف بلغت حد القتل والتمثيل الفظيع الشنيع بالجثث، وحد التدمير والحقد الذي زرع في قلوب ودروب، وشارفت أو دخلت بعض الشيء في النفق الطائفي أو المذهبي المظلم، وساهمت في مزيد من الاستقطاب السني - الشيعي ذي النتائج الكارثية بوصفه مدخل فتنة مذهبية فتَّاكة، لا يقع خطرها على سورية وحدها بل على المنطقة والأمتين العربية والإسلامية. ولن يكون بمقدور السيد الإبراهيمي التعامل مع الجهات المعنية مباشرة بالأزمة السورية للوصول إلى حل يتوصل إليه السوريون وحدهم بحرية ومسؤولية واستقلالية تامة، ليس لأن مواقف ثابتة لكل من أطراف الأزمة المباشرين أصبحت صلدة وثابتة ومتمترسة في مواقع ومواقف وحالات معلنة ولا تراجع عنها وحسب -  وهذا لا يعني مطلقاً أنها أزمة ليس لها حل سياسي، بل هي أزمة لن يكون لها سوى حل سياسي - بل لأنها أصبحت غاية في التعقيد بسبب تدويلها، وخارج الإرادة السورية التامة المطلقة الحرة المعنية بحقن الدماء والحفاظ على ما تبقى من الوطن وسيادته ووحدته أرضاً وشعباً، وسلامة علاقات الشعب السوري بعضه ببعض.. وربما جاز القول إنها غدت أكبر من سوريين كثيرين فقدوا مكانتهم ودورهم والثقة بهم وقدرتهم على الحل، بسبب تطورات الأزمة الخانقة ودخولهم شرنقة التبعية والتطرف والتشنج..

فمع من يكون الاتصال المجدي عملياً للسيد الإبراهيمي ليتوصل إلى حل سياسي بالحوار يا ترى؟.. ومع من يتحدث حديثاً ذا جدوى فعلية ومنطق عقلاني حاكم؟.. ومن أين يبدأ، وكيف.؟ وهل هناك أهمية لتكوين مجموعة اتصال جديدة كتلك التي دعا إليها الرئيس محمد مرسي في مؤتمر منظمة التعاون الإسلامي الاستثنائي في مكة المكرمة حيث: " اقترح إنشاء لجنة تضم مصر والسعودية وإيران وتركيا لمحاولة ايجاد تسوية للوضع في سوريا.".. مع وجود مكتب اتصال للأمم المتحدة يديره، وجهات دولية عدة كونت مجموعات اتصال أو ما في حكمها؟!

إن التدويل غير المعلن رسمياً والممارس عملياً للأزمة السورية عامل تعقيد كبير فيها وفي حلها، ولا يوجد حل سياسي لها إلا عبر القوى الدولية التي تقف فعلياً خلف الأطراف السورية المعنية مباشرة بما يجري في الميادين الدامية التي يُستنزف فيها الشعب والبلد والموارد والرصيد الاجتماعي والإنساني للسوريين.. والإبراهيمي يعرف أن الحل يبدأ من دائرة عليا أوسع، من واشنطن وموسكو أولاً وقبل كل شيء، ومن بعد اتفاقهما ينتقل إلى دائرة إقليمية مؤثرة ولكنها متواشجة معهما، أطرافها تركيا والرياض والدوحة وإيران والعراق و.. وحين يصل إلى تفاهم أولي على الحل السياسي مع الدائرة العليا، بنوايا صادقة ومن دون مواربة أو وضع ألغام في الطريق وعصي في العجلات، فإنه يمكنه أن يتدرج وصولاً إلى الحل في الدائرة الثانية بيسر، أما الدائرة الثالثة المباشرة، السورية بأطرافها، على حدة المواقف وصلابتها وتعقدها فيما بينها، فإنها سوف تستجيب لما يتم الاتفاق عليه دولياً وإقليمياً وعربياً، وتدخل في تفاصيل الحل السياسي بصورة مباشرة، وعبر الحوار أو التفاوض.. أو.. أو.. الذي سيكون للوسيط الأخضر فيه دور مؤثر، وتحرك مهم نحو الهدف المنشود.

وقد كان الإبراهيمي على حق في تردده قبل أن يوافق على قبول المهمة الصعبة، فما جدوى أن يجرب المجرَّب وعنان أمامه يعلن عن تعثره في أداء ما أوكل إليه، وهو الأمين العام السابق للأمم المتحدة؟! لقد طلب الإبراهيمي أموراً أو اشترطها، بعضها لم يتحقق ولن يتحقق بسهولة من دون تفاهم وتوافق واتفاق دولي أعلى في الدائرة السياسية العليا الأولى دائرة واشنطن وموسكو.. وهو في مطلب من مطالبه تلك التي لم تلبَّ، ورغم ذلك قبل المهمة، أي مطلبه وحدة موقف الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن واتفاقها على رأي ورؤية وموقف واضح ثابت معلن، يُعبَّر عنه بصوت واحد لا مواربة فيه، من الأزمة السورية، هو بذلك قارب فعلياً ما يشكل العقدة التي من دون حلها لن يتوفر دعم له في مهمته ولا نجاح لتلك المهمة.. وهذا أمر يتوقف عليه تفاؤله في إمكانية الوصول إلى نتائج إيجابية يبني عليها ونشاطه في السعي الدؤوب إلى ذلك..

إن هذا الذي طلبه الإبراهيمي ولم يتحقق حتى الآن، ورغم عدم تحققه قبل القيام بالمهمة، يبدو موضوع مناورات سياسية كبيرة مستمرة، على الرغم من المواقف الدبلوماسية "الخُلْديَّة" التي ثبت من الامتحان الصعب الذي تعرض له كوفي عنان، أنها مخاتلة جداً.. وتبدَّى ذلك بوضوح في المراوغة التي كانت لبعض الدول الدائمة العضوية في مجلس الأمن من اتفاق جنيف الذي أعلنت الولايات المتحدة الأميركية، بعد اختيار الإبراهيمي لمتابعة المهمة التي بدأها عنان، أعلنت عن موته!؟ وهو ما زال قراراً لمجلس الأمن الذي كرسه وكرس أيضاً النقاط الست وبنى عليها، وهما أي اتفاق جنيف والنقاط الست كانا محور تحرك كوفي عنان، وقبلت بهما الأطراف المعنية مباشرة بالأزمة السورية؟!!. ولا يبدو أن اتفاق الدول الدائمة العضوية على موقف فعلي صادق مخلص في السر والعلن سوف يتحقق ببساطة، لأنه متصل بالتنازع الدولي حول علاقات وسياسات واستراتيجيات دولية جديدة، ومبادئ تضمنها ميثاق الأمم المتحدة وتتعرض للانتهاك، وقد أصبح ذلك النزاع لُبّ الصراع على سورية وفيها، ويبنى فيه على ما ستسفر عنه الأزمة السورية من نتائج، وأصبح الأمر أبعد من سورية وأزمتها.. فنحن حيال صراع دولي خفي أو شبه خفي على قضايا كبيرة وكثيرة، ويتم بصورة مباشرة في سورية وعليها، وكأنما يُراد لهذا البلد العزيز على القلب أن يُدمر بأيدي أبنائه وأن تُفني قواه الحية بعضها بعضاً، وأن يخسر شبابه ولحمته الوطنية وموقعه ومواقفه المتميزة عربياً وإقليمياً، وأن يضعُف ويتفتت وينتهي دوره العربي والإقليمي، وأن يغرق كلياً في صراع دامٍ من شقين متداخلين متفاعلين عضوياً: صراع على سورية يتم فيها وعلى حسابها ولا يمكن إنجازه إلا بتمزيقها بعد إضعافها.. وصراع على هويتها وثوابتها وعروبتها وموقفها من الصراع العربي – الصهيوني. وهو صراع لم يبق في حلبته إلا هي وفصائل فلسطينية مقاوِمة وبعض أطراف المقاومة العربية ومن يدعمها. وهي أطراف ترى أن قضية فلسطين قضية مركزية في النضال العربي المعاصر، وأنها قضية تحرير وتقرير مصير، وأنها ذات بعد وجودي - حقاني - سيادي للأمة العربية، وتؤثر تأثيراً بالغاً في حاضر الأمة ومستقبلها ومصيرها وكل ما يتصل بتحررها الفعلي ونهضتها الشاملة وآمالها المنشودة وتقارب أقطارها ودورها الحضاري. وقضية فلسطين تهم الفلسطينيين أولاً والعرب على المستوى ذاته فيما أرى، بوصفها قضية عربية المسؤوليات والأبعاد والنتائج، وستبقى كذلك في آفاقها وتفاعلاتها المستقبلية كما كانت في الماضي.

وفي إضافة لا بد منها إلى البعدين السابقين للصراع، فإن الصراع على سورية وفيها يتصل بـ:

- منظور غربي - صهيوني استعماري استثماري لشرق أوسط جديد، تكون فيه " إسرائيل" دولة ضمن النسيج السياسي والاقتصادي والاجتماعي والثقافي للمنطقة، معترَف بها فيه من العرب جميعاً قبل سواهم، ومهيمنة عليه، ولها علاقات طبيعية مع بلدانه كافة.. وهو مشروع لم يفلح الغرب والصهاينة بفرضه بالقوة لا بعد العدوان على العراق واحتلاله وتدميره، ولا بعد الحرب العدوانية على لبنان عام 2006 والحرب العدوانية على غزة عام 2008، وما زال أصحاب ذلك المشروع البئيس يعملون على تحقيقه حتى الآن، ويقع في صلب استراتيجيتهم وعلى جدول أعمالهم، وسورية حجر الزاوية في تحقيقه وعدم تحققه.. ويحتاج تحقيقه إلى تغيير الخريطة الجيو – سياسية وفي التحالفات الأميركية/الغربية ـ العربية والإسلامية.. ومن أجل ذلك يؤسَّس للقوى الجديدة التي يمكن أن تحكم في الأقطار العربية، بعد تراجع التيار القومي وإضعاف قواه ومرتكزاته السياسية والفكرية، ليكون هناك بديل متآلف ومتوافق مع المشروع إن أمكن، شرط أن يقبل الصيغة الشرق أوسطية الجديدة من منظور المنظرين والمخططين والمنفذين لها، وإذا احتاج الأمر إلى بعض التعديلات فيها فذلك ممكن شرط ألا يمس القلب والجوهر منه، أي " أمن إسرائيل واستقرارها وهيمنتها والاعتراف بها وتطبيع العلاقات معها".. ومن أجل تنفيذ ذلك كله لا بد من إشعال حروب وفتن وصراعات حامية ودامية، وإشاعة فوضى في المنطقة للقضاء على شوكة العرب والمسلمين، لإنجاز كل ما يريده الكيان الصهيوني وحلفاؤه والغرب الاستعماري الذي يرشح منه رسيس حقده القديم على العروبة والإسلام، والمراد أن يتم ذلك كله بأيدٍ عربية دامية وتبقى تدمى باستمرار.

وهذه "الكعكة" إذا ما أنجز تحضيرها وإنضاجها يجب ألا تكون خالصة لقوة عظمى وحدها أو لقطب دولي واحد ذي أذرع، أو على الأقل ألا يذهب بها قطب واحد من دون مقايضة على بديل مناسب يكون من نصيب قطب دولي آخر ذي أذرع أيضاً ولا يسمح بأن يتم تجاهله.!!

إنها لعبة المصالح الدامية، والسياسات الآثمة.. ومن هذا المنظور فمهمة الأخضر الإبراهيمي دولية وليست سورية خالصة ولا عربية أو إقليمية خالصة، لا سيما من حيث الأبعاد التي أخذتها الأزمة، وجعلت منها حجر زاوية في تغيير سياسي دولي يرمي إلى حسم نهائي لسيطرة القطب الأميركي على السياسة والدولية منذ نيفٍ وعشرين سنة، وقيام أكثر من قطب في مجالات تلك السياسة، وإعادة الاعتبار لسيادة الدول والقانون الدولي وميثاق الأمم المتحدة والشراكة الدولية في معالجة قضايا تتعلق بأمور الطاقة والاقتصاد والأمن والازمات المالية والمجالات الحيوية على مستوى العالم.. مما يهم الدول كافة والقوى الكبرى في العالم على الخصوص.     

يرى الأخضر الإبراهيمي أن: "التغيير (في سوريا) لا مفر منه، تغيير جدي، تغيير أساسي وليس تجميليا. ينبغي تلبية تطلعات الشعب السوري."، وأظن أن كل طرف من الأطراف المعنية بالأزمة السورية في الداخل والخارج، على صعيد الحكم والمعارضة، بات مقتنعاً بذلك، وهو ما لا يمكن التراجع عنه بحال من الأحوال، وقد حصل بعضه في الأنفس وبعضه الآخر على الأرض ولكن بدرجات متفاوتة.. وسورية لن تكون ما كانت عليه قبل الأحداث التي بدأت في 17 آذار 2011 وليس هذا هو سؤال اليوم، إنما السؤال كما أراه: كيف نصل إلى ذلك بأقل الخسائر في الأرواح والعمران والبنى التحيتية للوطن سورية، وبأقل كلفة على الصعيدين المعنوي والمادي في العلاقات الداخلية والعربية، وكيف نصل إلى ذلك بسرعة، ومتى نسلك الطريق إليه بثقة.. وبأي ثمن؟ وكيف نحافظ على سورية الوطن والمواطَنة والحرية والكرامة والعدالة والمساواة والدولة المدنية ذات الهوية العربية - الإسلامية والثوابت الوطنية والقومية.. وبتقديري لا يمكن أن نصل إلى ذلك ويستقر كل شيء من دون معالجة كل ما يتصل بالملفات السابقة والراهنة، المعلق منها والمستمر في الانتفاخ بأوراق وأورام وأفعال ودماء وثارات ونعرات.. وتصفية الأمور المتصلة بها.؟! إن سورية في طور التغيير حكماً وحتماً.. ولكن.. ولكن.. يجب أن يبقى الوطن وطناً والناس ناساً.. وتبقى حرقة ومرارة ذلك السؤال في الحلق، ويبقى معلقاً في فضاء سوري وعربي وإسلامي ودولي..

ولله الأمر من قبل ومن بعد، وإليه ترجع الأمور.