بقلم م. محمد يوسف حسنة

خبر غزة إذ تفقد رونقها..

الساعة 08:02 ص|29 يوليو 2012

غزة

غزة لم تعد كما أعرف بل ليست تلك التي شاهدتها تكبر ويكبر حلمي معها، غزة حصنُ الممانعة وأرض الجهاد والقيم والمثل، لم تعد ترى في سلوكها ما يُدلل على مقاربتها لما ترفعه من قيم ومبادئ، وإن كان البعض يحاول أن يبقى على ذات الدرب وصحة الهدف والمسار.

لكم تأثرتُ حين وقف رجلٌ يبدو عليه الاحترام وبصحبته طفلته الصغيرة في أحد مساجد غزة بعد صلاة الجمعة وبدأ يتحدث بألم العاجز وقليل الحيلة عن عدم وجود قوت يومه وقوت أطفاله يناشد المساعدة ويطلب المؤازرة، ومن ثم بكى، لعمرى كم تمنيت لو أعفى ابنته من هذا الموقف فصورة أب تنهار وتتكسر وعزة نفس تتحطم، وفقد بثقة وعدالة مجتمع تتلاشى، في نفس طفلة بريئة لم تُعارك الحياة ولم ترى منها سوى انكسار والدها وعدم قدرته على تلبية متطلباتها.

أتألم كثيراً حين أرى غياب صور التكافل الاجتماعي مابين أفراد المجتمع، أُصاب بدهشة حين أرى أسرة كانت تجتمع على مائدة طعام واحدة وكانت تتحين الأوقات سابقاً لتجتمع على شاطئ غزة أو في بعض المتنفسات القليلة جداً تضحك تمرح بشكل جماعي في لوحة فنية راقية، وانتهى بها المطاف مشتتة مُجزئة لا أخ يسأل عن أخيه ولا جار يُعبِّر جاره، أستغرب حين أرى فعل المسؤولين ومقارنته مع شعاراتهم، لا أتجرع خيانة الأصدقاء واختفاء الوفاء، أو أن أرى سلوك الداعية يختلف عن دعوته، أشعر بالغربة حين أرى اللامبالاة في العامة وبعض المسؤولين، شعورٌ سيئ ذلك الذي ينتابني حين أسمع "لا تُعاند لتطير، واحنا مالنا، مش راتبك ماشي، خليها على الله، تدخلش بلي ملكاش فيه"، عبارات سلبية تعدت كل الحدود، عبارات أدّت سابقاً لهلاك قرية بمن فيها بأمر إلهي، سلبية تخرق السفينة دون أن يحاول من في الطابق العلوي تصحيح ما تم خرقه في الطابق السفلي وكأن الأمر لا يعنيهم فإذ بالسفينة تهوي وبالمجتمع يغرق.

غزة درة المتوسط وعروس الجهاد والمقاومة بدأت تفقد رونقها وبريقها في نظر أبنائها، في ظل ما يمرون به ويعانونه من صعوبات، بدأت نظرة الاحترام تتآكل وتهتز الصورة الجميلة في النفوس.

ولتعود غزة لرونقها وصدارة موقعها كقدوة ونبراس تحتاج للتمرد على كل ما هو سلبي فيها، لترمم الصورة وتعالج الفجوة ما بين السلوك الممارس والقيم والمبادئ المرفوعة.

نعم نحن بحاجة لنتمرد، لنتمرد على ذواتنا وأنفسنا بما فيها من سلبية وضعف، أعلم أن كلمة التمرد تثير تصوراً سلبياً لدى السامع عند إطلاقها، فهي تعني عند المتلقي العصيان والرفض السلبي دائماً، إلا أنني أتحدث عن حالة تمرد إيجابية تُساهم في بناء النفس أولاً والأسرة ثانية والمجتمع ثالثاً والدولة أخيراً وتعمل على تطويرها والرقي بها بما يؤهلها للدفاع عن مصالحها وعودة حقوقها، لا أتحدث عن تمرد مجرد أو عن عصيان ورفض لما ألفه الناس، بل أتحدث عن تمرد موجّه ومضبوط فهنالك من المألوفات و القوانين والعقائد والقوى غير الصحيحة ما يجب رفضه، والتمرد عليه.

تمرد على الواقع السلبي الذي نحياه سواء كان فردياً أو جماعياً شخصياً أو عاماً مع الرضا بقضاء الله وقدره، فهنالك فرق بين الرضا بقضاء الله وقدره، والتسليم بالأمر الواقع، ففي الأول هنالك نفس ترضى بقسمة الله وتقبل عدله، وفي الثانية نفس تُغادر مربع الحرية لمربع العبودية، وتترك طوعاً مساحات وفضاءات من الإبداع والتألق.

تمرد عقلاني يعرف حدوده ضمن معايير إنسانية ترتقي بالإنسان وترفع من قيمه الإنسانية، وليس المقصود تمرداً يحول المجتمع إلى حالة فوضوية لأن فيها انحراف عن الأهداف وهدر للموارد وضياع للجهد وغياب للرؤية.

تمرد نابع من صَحْـوةِ ضميـرٍ وأملٍ في الهربِ من جُحْرِ سُمُـومٍ تمرد على الذات وسلوكها السلبي تمرد يقودنا إلى قمم الجبـال لنرى كل شيء بعيــون ثاقبة ثابتة، وفي الوَقتِ ذاتِهِ نُرَى من بعيد كمجتمع نموذجي استطـاع بلوغ القمم بتفوقه على ذاته وعلى خوفه ليُحقق بذلك مـا كان مُستَحيْلاً بعيـون غَيرهـم من المجتمعات.

تمرد يبدؤه الفرد بنفسه عبر مقارنة قيمه وغايته بسلوكه وأدواته ويُشاهد قربه من تحقيق غايته ومدى توافق سلوكه لقيمه، فإن ما قارب السلوك قيمه التي يدّعيها فهذا يُعتبر مؤشراً على مدى قدرته في نجاح تمرده على ذاته والقرب من تحقيق القيم التي يدّعي، ومن ثم هو بحاجة ليغرس القيم الإنسانية ويُعيد التجربة مع أسرته ومحيطه علّه ينجح في إحداث التغيير فيهم ولتتمرد العائلة على ما فيها من سلبيات وتعرف كيف تُدافع عن حقوقها وتطالب بها كما تعرف واجباتها وتلتزم بها، فرد وعائلة ومن ثم مجتمع يتغير ودولة تُبني لا يحتاج فيها المظلوم لبطل ينصره، ولا لقائد يُرشده، فهو يُؤمن حق الايمان بحقه وقدرته على دفع الجور الواقع عليه، وعليه فقط أن يثور ويتمرد على سلبية الضعف التي تعتريه فقوة الحق لا رادع لها.

مجتمعٌ القوي فيه الضعيف حتى يُؤخذ الحق منه والضعيف فيه القوي حتى يُؤخذ الحق له، لا فرق فيه بين وزير وغفير فالكل أمام القانون سواء، والوزير كما الغفير يُحاسب على تقصيره ومسؤولياته.

مجتمع يعود التلاحم لأفراد أسره ويسود الحب والتكافل أفراده، أصدقاء عنوانهم الوفاء والبذل، جنود على التضحية مقبلين لشعار شعب نُخب لا شعب رُتب رافعين.

تمردٌ أقصد به أن يتحول الموظف الحكومي من بيئة الروتين القاتل لواحة الإبداع، يعرف أنه موجود في موقعه لخدمة المراجعين من شعبه لا التضييق والتسلط في تنفيذ معاملاتهم يلقاهم بابتسامه ويُسهل أمورهم قدر الإمكان لا أن يلقاهم بوجه عابس وكلمات مقتضبة وأوامر نهائية موظف يعلم أن ابتسامة لطيفة تستطيع إنجاز عمله وعمل الآخرين بل وإن لم يستطع تنفيذ أعمال الآخرين خرجوا برضا مسرورين.

تمرد أقصد به أن يكف المواطن عن الشكوى وتحميل الكل المسؤولية ماعدا نفسه فلو أنه ثار على تلك النفس وبدأ بمعالجة مشكلاته بدل انتظار الآخرين لمساعدته لاختلف الأمر الكثير.

تمرد أقصد به أن يتوقف المسؤول عن وضع الحواجز بينه وبين العامة فلا هو قابلهم في مكتبه ولا هو رد على اتصالاتهم، مشغول في اجتماعات ولقاءات ولجان يُقال أنها لحل مشكلة العامة فإذ بالعامة تغرق بأوراق القرارات على الرفوف المتكدسة.

تمرد يتوقف فيه الأمن عن النظر لكل مخالف على أنه تهديد أمني ومثير للقلاقل والفتن، ويلجأ للدراسة والتحليل والأخذ بالأسباب والاستماع لوجهات النظر، عله مع المخالفين يرتقي بأدائه أو يُحسن صورته أمام مخالفيه.

تمرد يتوقف فيه الشباب عن حب الظهور والبروز والتصدر، ولعب دور المضهد السياسي والبطل المظلوم والشاعر المهموم والحبيب المغدور، ليُعيدوا رسم خارطة الطريق ويُصححون المسار ويضعون الأهداف لتغيير مجتمعاتهم بما يُعلي من قيمتهم الإنسانية ويُحقق المنفعة العامة المجتمعية.

تمرد تتوقف فيه الفصائل عن التعبئة الحزبية الضيقة لأفرادها وتُطلق لهم مساحات التعبير وحرية الرأي وتسمح لهم بممارسة الإبداع والانطلاق بما يخدم أجندة وطن ويُخرج أجيال تحمل هم أمة.

تمرد يتوقف فيه أنصار وأعضاء الفصائل عن النظر لقرارات قيادتهم على أنها كلام مقدس لا يقبل الجرح والتعديل وأن قيادتهم لا يمكن أن يأتيها الباطل وأن يُكف النظر عمن يتحدث بخلاف ما تحدث به قادتهم على أنه خارج الصف مثير للشغب.

تمرد تتوقف فيه المؤسسات الأهلية عن المنافسة المذمومة وتتجه للتكامل المحمود، وفق نظرة وطنية موحدة وخطاب خارجي موحد يُجبر المانحين على ضخ الأموال وفق رؤيتنا وقناعتنا لا وفق أجنداتهم الخارجية.

تمرد يُعطي حق الرقابة للشعب، ويمنع ازدواجية السلطة، ويعزز الشفافية، ويحافظ على المهنية، تمرد يقضى على مبدأ محمد يرث ومحمد لا يرث، يُحاسب المقصر ويكافئ المجتهد، يُعيد لنا غزة الجميلة بتكافلها وتضامنها وإنسانيتها وتلاحم مجتمعها.

وقبل هذا وذاك تمرد يقضى على خوف وسلبية تُسيطر علينا من أخذ زمام المبادرة على عاتقنا حتى بات طالب الحق مجنون والساعي في شأن العامة واقع خارج المعقول، والباحث عن العدالة جالب لنفسه الهموم.

دعونا نتمرد ونتحد ونُقارب سلوكنا مع القيم والشعارات والمبادئ التي نرفع علنا نرمم الصورة ونُعيد لغزة رونقها وتصدرها القمم فوق الأمم.