خبر الأسرى... حوار مع الغامض .. عيسى قراقع

الساعة 06:58 ص|25 يوليو 2012

إن انشغال الأسرى بما يمليه عليهم السجانون من حياة فولاذية محصورة بين مطالبهم بالسماح بزيارة عائلاتهم دون قيود وإذلال وممنوعات ، وبين تحسين شروط حياتهم المعيشية والإنسانية من زيادة المشتريات الغذائية، وتحسين العلاج والأكل والمعاملة، هو الغامض المتوحش الذي يتربص بهم وعيا وثقافة وانصهارا في لغة الحديد.

برز الغامض واضحا في التجربة النضالية الفريدة التي خاضها الأسرى مؤخرا بالإضراب المفتوح عن الطعام، حيث تعددت الأهداف النضالية، بعضها كان كبيرا وبعضها كان صغيرا، تشتت الرؤى وتشظت وكشفت جروحا داخلية عميقة أبرزها غياب الوعي الجماعي وروح التضامن والقيادة الواحدة، وأصبح الموقف يتجلى في بطولة عالية داخل ميدان واسع مليء بالطرقات الوعرة.

 لقد استطاع الغامض أن يرسم مشهدا ملتبسا عندما خاض عدد من الأسرى إضرابات فردية ذات بعد أسطوري ضد اعتقالهم الإداري التعسفي، وآخرون لنزع الاعتراف بهم كأسرى حرب وفق القوانين الدولية، وآخرون من اجل تحسين شروط الحياة المعيشية والتصدي للممارسات التعسفية لسلطات السجون، وبذلك تنوع الخطاب الاسير، وأطلق بلاغة الضحية عشوائيا، شظايا أصابت الجميع ، بما فيها نزيفا في الوضع الداخلي للحركة الأسيرة.

السجن يحتوي سكانه أكثر من مجرد إقامة مؤقتة لحين الحرية، فالغامض في السجن استطاع أن يهذب لغة التحرر الوطني إلى مستوى أقل ، انزلها عن صهوتها، ليختفي الغامض في برج الحراسة قائلا للأسير: انا لا أراك، وما عليك سوى أن تدير شؤونك ذاتيا كأني لا أراك.

الغامض يقول أن السجان فيه من الكرم ما يحرره من صفاته كمحتل، ينسحب من لباسه العسكري، يلقي بالمفاتيح إلى الأسرى ليمارسوا لعبة السجانين وإغلاق الأبواب، انفصال في الرموز بين واقع السجن ووجود السجانين، التسميات لا تشبه المسميات، والصرخة ليس من الضرورة أن تكون على ارض الكلمات.

الغامض لا يمانع من تمويه الواقع بالصور، ولا يرفض أن يملأ الأسرى سماءهم المسيجة بنجوم مستعارة، وأن ترفع الراية بلا دولة، وأن تكون العودة بلا نشيد، ولكنه يرفض أن يخترع الأسرى نهرا وحبا وأن يفكر الاسير بامرأة تدله إلى ما بعد المؤبد.

الغامض يفكك التنظيمات والفصائل، يعلي الأجندات السياسية ليحطم روح الوحدة، تنمية الواقع المحشور بالقسوة نحو الخلاص الفردي، منهجية تغييب الآخرين المجاورين في الغرفة أو على الابراش الحديدية ، الإيقاع القادم من الزنزانة لا يدلف عن مشاعر تسيل في البطولة بعد أن أصبحت في إطار التورية.

الغامض يجرد الأسرى من ملحمتهم السياسية كجنود حرية، ومن إنسانيتهم كبشر، ومن حقوقهم القانونية كمناضلين من أجل قضية عادلة ، يبتعد الفكر السياسي، يغرق في هموم السجن العميقة، في التفاصيل التي لا ترى شمسا ولا نهارا، والمكان يبتعد عن صورته المتخيلة ، كأن الوطن يولد في السجن.

طور الغامض خطاب الضحية لتحسين شروط الإقامة في السجن حتى صار عبء السجن يقع على عاتق السجناء، ولتصبح الحرية ليست أكثر من نص أدبي، فالباب مغلق لا يعود منه الأسرى إلى بيوتهم، والسجان يتحكم بزر الكهرباء وزرقة البحر وكمية الطعام ولون الملابس وبأصوات الطبيعية وبالفرح في المغامرة.

الغامض يحاول أن يقنع الأسرى أن في السجن شيء جميل، ولا مكان للرؤوس الحامية سوى الزنازين الانفرادية، لا تجاوز لمن تختاره استخبارات السجون من المطيعين الليبراليين المقبولين القادرين أن يمثلوا إرادة السجان وإرادة السجين معا عندما يتنازل الاسير عن المطالبة بحصته من الحرية مكتفيا بما تبدعه العبودية.

الغامض يؤسس لوجع في الوعي، ويوصلك إلى عدم الإحساس بالألم، عندما يسقط الأسير زهير لبادة شهيدا أو يخوض أسير إضرابا عن الطعام لمدة مائة يوم، أو يتعرض آخر للضرب حتى الموت، فالوجع صار محايدا، لا قادة ولا نواب ولا احتجاج، لا برنامج ولا بكاء، يكتفون بالإشارة أو بالكلمات المحشوة بالنسيان.

الغامض دربنا أن تكون رؤية المستوطنة مشهد عادي، كأنه لم يكن أرض تحتها قد نهبت، ودربنا أن يكون عبورنا المذل من شارع التفافي أو من ثقب جدار عنصري أمر عادي أيضا، لا دهشة لغياب الشجرة، لا موعد مع فتاة تنتظرك في قصيدة مفتوحة بلا أسوار .

الغامض يستفحل ويبتسم بين المعسكرات والسجون وابعد من ذلك، وما علينا سوى أن نرمم هذه السجون ونؤثثها وندفع ثمنها من جيوبنا لكي نعيش كسجناء محترمين مرفهين، وأن ننسى أننا شعب تحت الاحتلال، وأن لا نأذن للوجع أن ينطق بالشكوى لأي أحد ، انه يطوع الشقاء إلى حد الامتناع عن الاهانة.