خبر « إسرائيل » فاقدة الأمن والاستقرار.. رغيد الصلح

الساعة 07:58 ص|15 يونيو 2012

أطلقت “مؤسسة الاقتصاد والسلام”، وهي واحدة من أهم المؤسسات الدولية من نوعها، قبل أيام قليلة تقريرها للعام ،2012 عن السلم العالمي . وتضمن التقرير مقارنات لأوضاع الأمن والسلم في سائر مناطق العالم ودوله . وكما توقع الكثيرون، فقد احتلت المنطقة العربية أدنى مرتبة بين مناطق العالم من حيث أوضاع السلم فيها . ولم يكن هذا الواقع غريباً في ضوء أحداث الربيع العربي والمعارك الضارية التي دارت وتدور في ليبيا واليمن وسوريا الآن على مصير هذه الدول وأنظمة الحكم فيها .

غير أن اللافت للنظر هو ما جاء في التقرير بصدد أوضاع السلم والأمن في “إسرائيل”، إذ إنه توصل إلى نتائج تبعد عن الصورة التي يسعى الزعماء “الإسرائيليون” إلى إعطائها عن “إسرائيل” . فهؤلاء الزعماء، وأكثرهم ينتمي إلى مدرسة فلاديمير جابوتنسكي الصهيوني الأكثر تعصباً وتطرفاً من بين الزعماء الصهاينة، يسعون إلى إضفاء صورة واحة الازدهار والاستقرار والديمقراطية على “إسرائيل” رغم أنها، كما يقول “الإسرائيليون”، محاطة بالفلسطينيين والعرب المتعصبين الذين يعملون بكل وسيلة على تدميرها .

خلافاً لهذه الصورة، فإن “إسرائيل” لم تصنّف من بين الدول الأكثر استقراراً وأمناً في العالم، مثل آيسلندا والدنمارك وكندا واليابان وسلوفينيا، ولا حتى بين الدول التي تحتل مرتبة وسيطة على صعيد الأمن والاستقرار، وإنما جرى تصنيفها بين أدنى دول العالم مرتبة على هذا الصعيد إلى جانب كوريا الشمالية والصومال والباكستان . ولقد اعتمد واضعو التقرير في المقارنات التي أجروها على تطبيق معايير أساسية على البلدان مدار البحث هي: معدل الجرائم، الجريمة المنظمة، القتلى الذين يسقطون بسبب النزاعات المسلحة، واحتمال انفجار موجة من المظاهرات العنيفة التي تشل البلد وتهدد أمنه . وإذ طبقت هذه المعايير على “إسرائيل”، فقد وجد معدو التقرير أنها تتعرض إلى مختلف أنواع الأخطار التي تجعلها بلداً غير آمن .

بديهي أن التقرير الذي يعيد عدم الاستقرار في “إسرائيل” إلى النزاعات المسلحة واحتمال اندلاع انتفاضة مدنية عنيفة فيها، يربط هذه العوامل بالأوضاع العامة في الأراضي الفلسطينية المحتلة . وما يثير الانتباه أيضاً، أن التقرير يدرج “إسرائيل” بين البلدان الأقل حظاً في الأمن والاستقرار في العالم، في وقت تعاني فيه حركة المقاومة الفلسطينية من تراجع ملحوظ في أدائها السياسي والعسكري بعد الشرخ الذي أصابها، وانقسامها إلى كياني غزة والضفة الغربية . ومن الأرجح أن أوضاع “إسرائيل” الأمنية سوف تصبح أكثر صعوبة وحساسية لو تمكنت حركة المقاومة الفلسطينية من التغلب على مصاعبها وانقسامها وإذا استطاعت تحسين أدائها على كل صعيد . ولكن حتى لو طرأت على المقاومة مثل هذه المتغيرات، فإن تقرير “مؤسسة الاقتصاد والسلام” يجدّد طرح السؤال عن مخاطر المغامرة التي جرّت الحركة الصهيونية قسماً من أتباع الديانة اليهودية إلى ركوبها، والتي اندفع في تأييدها العديدون من ساسة الغرب وقادته وحركاته السياسية وقواه الاقتصادية .

منذ نشأتها انقسمت الحركة الصهيونية إلى فريقين: فريق من الصهاينة دأب على القول إن العرب سوف يقبلون بالمشروع الصهيوني لقاء المنافع المعنوية والمادية التي سوف يحصلون عليها من جراء تطبيقه . وفريق آخر تزعمه جابوتنسكي دعي بالتحريفي، لأنه دعا إلى مراجعة هذه النظرية “الواقعية” التي تبناها الفريق الأول . وعلى النقيض مما كان يقوله أولئك الواقعيون، كان جابوتنسكي يؤكد الأفكار الآتية: أولاً، إن العرب لن يقبلوا بالصهيونية ولا بالإغراءات المادية وغير المادية التي ستعرض عليهم، لأنهم مثل سائر الشعوب يريدون تحقيق أهدافهم القومية . ثانياً، إن العرب سوف يقاومون الصهيونية بالسلاح ما داموا يعتقدون انهم قادرون على استخدامه ضد الصهاينة . ثالثاً، إن الطريق الوحيد للتعامل مع العرب هو من خلال الحرب وإلحاق هزيمة نهائية بهم يفقدون معها أي أمل بالنجاح .

ارتكب التحريفيون خطأ تاريخياً إذ اعتقدوا أن الواقعيين كانوا يقللون من دور السلاح والحروب في تحقيق الأهداف الصهيونية، وأنهم كانوا يعولون على الدبلوماسية لتحقيق تلك الأهداف . الذين يرفعون الستارة عن التاريخ الحقيقي للصهيونية بجناحيها الواقعي والتحريفي يؤكدون أنها كانت تعد لأعمال الإبادة والتهجير وتدمير فلسطين العربية، وكتاب التطهير الإثني في فلسطين الذي وضعه المؤرخ “الإسرائيلي” إيلان بابيه، يبين بدقة واستناداً إلى الأرشيف الصهيوني، الخطط التي وضعت تحت إشراف وتوجيه بن غوريون ونفذتها الهاغاناه من أجل تدمير القرى الفلسطينية وتهجير أهاليها بالقوة، وليس فقط منظمة أرغون الصهيونية . هذه الحقائق تقدم دليلاً تاريخياً دامغاً على أن الخلاف الأساسي بين فريقي الصهيونية لم يكن على استخدام السلاح والتطهير الإثني والديني والقومي في فلسطين، بل كان الخلاف متعلقاً بدور الدبلوماسية في الصراع مع العرب وما إذا كانت الدبلوماسية تشكل رديفاً مناسباً للعمل العسكري أم لا؟ وإذا كانت كذلك ففي أي حدود؟

لا ريب أن الدبلوماسية الصهيونية ساعدت الحكومات الغربية على تنفيذ سياسة الانحياز شبه المطلق إلى جانب “إسرائيل” على حساب العرب، فلولا ألاعيب الدبلوماسية التي اشترك فيها الطرفان لكان من الأرجح أن تشتد الانتقادات في دول الغرب ضد سياسة الانحياز هذه، بحيث تجد حكومات غربية صعوبة في تقديم الدعم غير المحدود إلى “إسرائيل” . من هذه الناحية، فإن “الواقعيين” من الصهاينة كانوا الأكثر وعياً على مصلحة الحركة التي قادوها . بالمقابل فإن التاريخ والتقارير الدولية مثل تقرير “مؤسسة السلم والاقتصاد” تثبت أن جابوتنسكي كان على حق حينما أكد لأتباعه أن الفلسطينيين والعرب لن يقبلوا بانتهاك حقوقهم القومية في فلسطين وبأنهم سوف يقاومون المشروع الصهيوني ما داموا يعتقدون أن الحق في جانبهم، وأنهم يملكون فرصة تحقيق الانتصار . وكان جابوتنسكي على حق حينما قال لأنصاره ان الصهيونية، مثل سائر الحركات الكولونيالية، لن تحقق الأمن والرخاء للصهاينة إلا إذا سلكت الطريق نفسه الذي سلكه الفاتحون في أمريكا وإفريقيا، أي طريق العنف والإبادة البشرية . ما عدا ذلك فمادامت المقاومة مستمرة، فإن “إسرائيل” لن تعرف طعم الأمن والاستقرار . ومادام هذا الوضع قائماً، ومادام اليهودي في برلين ونيويورك وموسكو يشعر بالأمان أكثر من اليهودي في القدس وحيفا، فإن المشروع الصهيوني سوف يبقى مغامرة جنونية يدفع ثمنها اليهود من أمنهم وأمن أولادهم حتى يقرروا نبذ هذا المشروع وأصحابه .