خبر واعتصموا...د. علي عقلة عرسان

الساعة 01:43 م|12 يونيو 2012

في عرفنا العربي القديم المتجدد، الدم لا يصير ماء، والدم يجرُّ الدم حسب أعراف العرب وتقاليدهم ومخزون ذاكرتهم وتجاربهم.. والهامة في عرفهم تظل تجوب الفضاء وتصيح إلى أن يثأر لها ويؤخذ قاتلُها بفعلته فتهدأ وتستريح، وبعضهم لا يقيم عزاء إلا بعد الأخذ بثأر عزيزه الذي قضى. والقبيلة عندنا واقع ورابطة وتاريخ، والطوائف روابط وتواريخ، والمذاهب تأخذ من هذا وذاك ويبقى لها في حيز التفكير والتدبير حضور؛ ويضاف إلى كل مما ذكرت ما يؤججه التعصب والتطرف والجهل والجاهلية العمياء وفعل لا يمت إلى الوعي والانتماء بصلة، وقد ينتج عن أوضاع ومعطيات تقع مسؤوليتها على الدولة في تراكم احتياجات وضروريات ثقافية واقتصادية واجتماعية وسياسية..إلخ.. وفي هذا كله يستثمر المستثمرون في أرض العرب وبيئتهم من قديم الزمان، من زمن الفرس والرومان حيث المناذرة والغساسنة رماح وفرسان واقتتال بالوكالة، إلى زمن الروس والأميركان والنفط والغاز وشراء الأرواح بالمزاد لخوض حروب بالأصالة والوكالة.؟! ولا تعني هذه الإشارة نهاية مهماتٍ وزمان وإنما هي مجرد إشارة إلى صفة الظرف والإنسان الآن الممتدة في عمر الزمان تحت الرماد أو في نيران البركان.

في غمرة هذه الثوابت المتواشجة التي تلقح اليوم فتتئم، وتلد كل أشئم من الأحداث والأفعال والأقوال، يصعب على العربي أن ينسى دمه الذي يراق كما يصعب وأن تندمل جراحه التي تُنكأ بأشكال مختلفة كل يوم.. وهكذا ندخل الخضمَّ حيث يجر الدمُ الدمَ والجرحُ الجرحَ إلى أن يقيض الله للناس بعد طول مكابدة وصبر وخسارت جمة، من يوقظ العقل بالحكمة ويوقف نزيف الدم وفتق الجراح بالمعروف والفداء والترفع عن الصغائر والتأليف بين القلوب.

عاجَ بي إلى هذا قولٌ يتكرر بكثرة اليوم على ألسنة مسؤولين أممين معنيين بالأزمة السورية، وما يقول به سوريون وعرب من مشارب سياسية متنوعة، حيث يتكلمون عن حرب أهلية وشيكة في سورية، ويتجاهلون أحياناً، عن قصد منهم أو عن غير قصد، فتنة طائفية تذر قرنها، ويروَّج لها في كتابات وفضائيات وسياسات، ويستثمر فيهما، أي الحرب الأهلية والفتنة، مستثمرون كثر ماهرون ومدربون، منهم سوريون وعرب، ومنهم مسلمون وغير مسلمين، ومنهم ساسة من بلدان ذات مصالح مطامع وتاريخ استعماري معروف، ومنهم منتسبو مؤسسات قتل محترفة على غرار " بلاك ووتر"، ومرتزقة يمتهنون القتل والإرهاب، ومنهم مندفعون إلى الموت يطلبون الحق في الحياة، أو يدافعون عن النفس والأمن والاستقرار والحق في الحياة.. ولكل ما يقنِعُه ويدفعُه، ولكل أقنعةٌ ووجوه، وانتماءات ومصالح وغايات ومسوغات، من ابن القبيلة والطائفة والمذهب إلى المعني بقضية مصيرية أو مصلحة استراتيجية، والمستثمر في إراقة دماء السوريين لإضعاف بلد وتمزيقه وفرض تبعية عليه.. المشارب سياسية وأيديولوجية ودينية والغايات سياسية واقتصادية وأمنية شتى ظاهرة ومخفية، أما العواقب الوخيمة فلا تحل الآن إلا بالسوريين، ولكن لن ينجو منها المحيط الأوسع إذا ما انفجرت الحربُ واشتعلت نار الفتنة واتسعت دوائرهما لا سمح الله. وحين ننتقل نحن المكتوين بالنار، في بلدنا الحبيب سورية، من مذبحة إلى مذبحة، ومن تفجير إلى تفجير، ومن مواجهة دامية إلى أخرى، ومن اغتيال مستنكَر إلى دمار مستفظَع، ونغرق في المآسي والأزمات والضائقات، ويصبح وجهنا في العالم كما ينقل إلى العالم اليوم.. فإننا نزداد تألماً وغرقاً في لجج المحنة وتعلقاً بالأمل على الرغم من أنه لا يلوح في الأفق السياسي والأمني شبح نجاة.. فحتى حين ننتصر في مواجهات دامية داخلية نخسر أياً كان من " ينتصر"، وتخسر سورية كل يوم على الرغم من طاقات الزهور والأناشيد على أضرحة الشهداء الذين هم بعض لحمها ودمها وعزمها وكرامتها ومستقبلها.

التسلح قتل وموت، والحسم العسكري أو الأمني مثله، وكل منهما يقربنا من المحنة والفتنة ولا يحسم أمراً، ولا ينقذ بلدأ أو يضعه على جادة الصواب وطرق النجاة والتقدم والبناء.. كل ذلك يفلح فقط في أن يفتح طرقاً أخرى أوسع وأكثر أمام العنف الدامي والإرهاب الفظيع والمواجهات المكلفة، ويوغل في توسيع الجراح ويقربنا مما نخشى الاقتراب منه.. والحسم السياسي لا يكاد يقاربه أحدٌ بمنهجية وموضوعية ومنطق من المعنيين المباشرين بالأزمة السورية، فهناك من يريده على هواه وحسب طلبه وارتباطاته واتفاقياته وحتى وفق رؤى المتشنجين في فريقه وآرائهم، وهناك من لا يحني رأسه لبعض الطلبات مما فيه منطق ويقرِّب من الخلاص، ولا يرى إلا من موقعه وموقع من يرون له استناداً إلى معطيات واحتمالات وسياسات وأدوات، وهو في الأحوال جميعاً يبقى أسير الإرهاب والعنف والقتل.. وكل ذلك يستدعي مثيلاته أو مشابهاته، فلكل فعل رد فعل.. مما يجعل كرة الثلج الوسخة تدور وتكبر وتتسخ أكثر. ولا يوجد في المدى القريب مناخ لنمو فرص حلول سياسية تقوم على رفع سقف الوطن فوق كل سقف، وقبول الآخر شريكاً في القرار والمصير ما دام يستظل بذلك السقف ويعمل بإخلاص من أجل ذلك البيت " الوطن"، ولا بد من تبصر بالواقع والآتي  وما يمكن أن يؤول إليه أمر الجميع في ظل هذا الانفلات من المسؤوليات الوطنية والقومية والأخلاقية والدينية والإنسانية.. إن الحكمة لا ترفض الحوار بل ينمو بها وتنمو في مناخه السليم، والحوار منطق ولا يوجد عقل يأخذ بمجافاة المنطق، ولا يمكن مجافاة المنطق والعلقل لمن يريد أن يهتم بأمر الناس وأمر الدولة، والمسؤولية المرتجاة ممن يتطلعون إلى مواقع رجال الدولة ويضعون أنفسهم في المواقع القيادية العليا، تقتضي أسلوباً مغايراً كلياً للأسلوب السائد في هذه الأزمة، أزمة شعب وأزمة بلد، تنذر بإشعال أزمات لأكثر من شعب وأكثر من بلد.

ينبغي ألا يحكمنا ما يُقال ومن يقول من هذا المنبر أو ذاك، من هذه الفضائية أو تلك، إنما الذي ينبغي أن يحكمنا ويعنينا ويلقي بكل ثقله على ضمائرنا ويفتق قرائح عقولنا، من أجل إيجاد حلول وسبل لحل الأزمات وحقن الدماء ووقف الدمار والانحدار وضمان وحدة البلد والشعب وإنقاذ الإنسان من كل ضائقة وهوان.. هو المسؤولية الوطنية والخلقية والإنسانية العليا التي تحكم الساسة والسياسة بحيوية ضمير وإحساس فائق بالآخر والمصلحة الوطنية والقيم الخلقية، وتضعهم أمام واجبات وحقوق وشرائع وتشريعات لا يجوز لهم أن يتجاوزها أو أن يقفزوا فوقها بأي حال وتحت أي ظرف. وعلى من لا يرى أنه معني بهذا وقادر عليه ومحتكم إليه، عليه أن يبتعد عن المسؤولة ومجالها وطلبها، مهما كانت مكانته وعزوته وحزبه و.. و..إلخ، ومهما كانت أهمية المسؤولية التي ينشدها ودرجتها.. فالشخص حين يكون مسؤولاً يكون مؤتَمناً يحاسبه الشعب على الأمانة التي أسندت إليه، وهو في كل وقت وحال تحت سقف الوطن والدستور والقانون وليس فوق أي منها، هذا فضلاً عن أنه مسؤول أمام الله.. والمسؤولية أولاً وآخراً اقتدار على حمل الأمانة، وخدمة الشعب والوطن باقتدار ومراعاة مصالحهما بإخلاص والأداء بحنكة وحكمة وإبداع في ذلك كله بما لا يجرح الأمانة وأهلها، وبما لا يضعف الوطن أو يسيء إليه وإلى صورته.. وهي مسؤولية عن الشعب والبلد في صلاحياتها ودرجتها وتتطلب الخلوص لها، والاقتدار عليها، والإخلاص في أدائها، والاستشارةبشأنها.. لتكون كلما كبرت وعلت مسؤولية مشتركة، تقوم بها مؤسسات راسخة من خلال أشخاص مؤتمنين وقادرين.

لا يوجد بلد أو شعب هو ملك لشخص أو لفئة أياً كان وأياً كانت، مهما كان ومهما كانت، والشعب ينبغي ألا يدفع دمَه وماله وأمنه من أجل وضع شخص في مكان يريده فيه أو إزالة شخص من مكان وضعه فيه، وفق أسس وقواعد وضوابط " دستورية وقانونية"راسخة، وأساليب ديمقراطية وممارسة شعبية صحيحة، فتلك إرادة عليا ينبغي ألا تكون مرتهنة لأحد أو ضعيفة أمام أحد أو مستضعفة من أحد، وهي فوق الإرادات الفردية والفئوية والحزبية ضَعُفَت تلك الإرادات أم قويت. وعلى من يريدون بناء أسس وطن الحرية والكرامة والمساواة أمام القانون والعدالة الاجتماعية والكفاءة العلمية والمهنية والعملية، ويعملون على إعلاء شأن الأمانة والاقتدار على الأداء بإخلاص بإبداع، أن يشقوا هذا النهج ويرسخوه في نصوص حاكمة ويحموه بقوة، وأن يسيِّجوه بالوعي واليقظة وصدق الانتماء والمتابعة النزيهة والمبادرات الخلاقة، وإلا غرق كل شخص وكل شيئ وكل جهد في مستنقع الأهواء والأغراض والشهوات والنزعات والأمراض الاجتماعية والسياسية وما إلى ذلك من أمراض نعاني من أوجاعها وعقابيلها. إن على من تهمّه مصلحة الشعب والوطن والمواطَنة الحقة، ويناضل باسم ذلك ومن أجله، أن يتدارك ما قد يحل بالشعب والوطن والمواطن من كوارث مهلكة قبل وقوعه ليخرجه مما قد يهلكه، والحرب الأهلية والفتنة اللتان يتم الحديث عنهما مهلكتان، كما أن عليه أن يحكِّم مصالح تلك الأقانيم الثلاثة "الشعب والوطن والمواطَنة" في كل شأن وفعل وتصرف وقول، وأن يَقبل كلَّ ما يفضي إلى ذلك ويُقبِل عليه، بحسن نية وسلامة طوية وبموضوعية ونزاهة وإخلاص، بعيداً عن أية معطيات ومغريات وعلاقات وتطلعات وقوى وعوامل أخرى قد تعيق ذلك النهج أو تعطله أو تلغِّمه.. وعلى من يريد أن يرى رؤية صحيحة سليمة قوية صادقة كفلق الصبح أن يحتكم إلى قوله تعالى ويحكِّمه في قوله وفعله وسلوكه.