خبر طبل الصوت وصوت العقل ..علي عقلة عرسان

الساعة 03:08 م|04 مايو 2012

 

سبحان الله الذي وهب كل نفس هداها وألهمها فجورها وتقواها، وهيأ لها من أمرها رشداً أو ما تظن أنه رشد، فجعل على يد بعض الأنفس تفريق المتحد وتبديد المرتفد، مع ظن لديها يرقى إلى اليقين بأنها تجمع ولا تفرق، وتوفر ولا تبدد، وتبني ولا تدمر، وتؤثل ولا تُشمرِخ.. وأنها قبل كل شيئ وبعد كل شيئ ليست شماريخ الذرى وأنما أشجار السنديان.!؟.. وسبحانه الله، خالق الخلق وباذل الرزق الذي يعطي كل باذل خَلفاً وكل ممسك تلَفاً الذي جعل الناس أصنافاً لا تعد ولا تحصى من حيث الألوان والصفات والتطلعات والرؤى والمعتقدات، وجعل لساسة من بينهم قصار النظر والقامة، قامة مديدة وبصراً حديدا وباعاً طويلاً وظلاً مديداً، من دون أن يكون لديهم عدل أو حكمة أو بصيرة، يرهبهم الناس ويعلون فيهم البطش والطيش.. وسبحانه الذي وهب أفراداً في مجتمعات تعاني من العيش في العتمتين: عتمة الظلم وعتمة الجهل "فلاسفة" من نوع خاص جداً، يحفرون " فلسفتهم؟" في أنفاق تحت أرض المعنى والمبنى وراء أكمات العقل الشفيف والمنطق الواضح، شأن شأن الخلد يستطيب العمل الدؤوب تحت الأرض في الظلام خوف النور.. ومع ذلك فإن لهم " طنَّةً ورنَّة"، وأهلَّة وهالات فوق الأرض تصنعها أحزاب وتجمعات وطوائف و..و.. ويصنعها ويلهج بها ويروِّجها إعلام لا شأن له بالمعرفة والحقيقة والنور يكره شان النحلة ويستطيب دور الدَّبَّورّ؟ هؤلاء وهبهم الوهاب كماً من الادعاء بامتلاك العصمة، ومعرفة وحكمة تربوان على ما كان من ذلك لدى فلاسفة وحكماء في الأرض منذ ما قبل لاوتسي ولقمان وسقراط وابن رشد إلى ما بعد نيتشه وكيركغارد وأضرابهما.. وقيَّض لهم ادعاءً عريضاً يرون معه أنهم حكماء الحكمة التي تُزري بحكمة العصور، وينطلقون في التأسيس لفعلهم ذاك من تسفيه من في الدُّور ومن في القبور، من دون أن يضيفوا إلى الحكمة بمعناها الحقيقي شيئاً يذكر، ويتوافقون في الموقف والحكم والرأي على نقض معمار الأديان وأحكام المجتمعات وتقاليدها وأعرافها وما توافقت عليه، وكل سلطة وسياسة وسلطان منذ حكم فرعون الأول ملك مصر، وشين الأول ملك الصين، وملوك آل ساسان ونظرائهم من اليونان، وغلغامش البابلي الباحث عن الخلود، وعاد الأولى وطسم وجديس وثمود.. إلى يوم أوباما وبوتين وحكام العرب أجمعين، الذي قضى منهم ومضى والقائم والقادم.!! والحكمة لدى أبطالنا هؤلاء تيه بلا حدود، وادعاء بلا ضفاف، وتسفيه بلا قيود.. حيث يؤهلهم كل ذلك إلى تطاول مكبوت آناً ومسافه آناً آخر على الحكمة والسياسة والناس.. فترى بعضهم في حالة انزواء متعالٍ مستنفر شوكه شأن القنفذ المهدد بروحه، وبعضهم الآخر مزمومي الشفاه بهيئة " الميزانتروب"، أي كاره البشر، شخصية الشاعر المسرحي الفرنسي موليير في مسرحيته التي تحمل الاسم ذاته.

في الأزمة التي يمر بها وطننا العربي اليوم، وتسمى " الربيع العربي"، ربيع الدم والموت والفوضى حتى الآن، من مصر إلى ليبيا والشام، اتخذ أولئك مواقف " وطنية وإنسانية، سياسية واجتماعية، حكيمة وأصيلة" وقالوا بالحكمة المفحمة للسياسة المؤلمة، ولم يلتحقوا بفريق من فرقاء الأزمة، وآثروا حكم الحكمة وخير الجهاد وإرشاد العباد إلى ما فيه مصلحة الشعب والبلاد.. وقالوا كلمات " حكيمة" مشفوعة بمواقف وتصرفات هي خير المواقف والتصرفات في وجه الجور والظلم والفوضى والقتل والإرهاب وتمويل الإرهاب والتخريب والتدمير والخروج على الوطن والأمة والارتماء في أحضاء أعداء الوطن والأمة..إلخ، تشبه كلمات من يرفضونهم ويسخرون منهم ولا يعدونهم ممن يُعتَد بهم، من أمثال العز بن عبد السلام، ذاك الرجل المرفوض من كثير منهم لأنه من هو.. والعز بن عبد السلام المغربي الأصل، الدمشقي المولد، المصري الإقامة، ذو مواقف وآراء وسلوك يستحق أن نتوقف عنده متأميلين مفكرين مرتجين أن تتخذ الحكمة والفلسفة والشخصيات الأقمار ذات الهالات من كل نوع من مواقفه موقفاً، وأن تتمعن فيها لتنصفها على نحو ما لا لكي تقتدي بها، فذاك بنظرها عيب ومأخذ، لأنه  يحد من حكمتها المطلقة التي لا ضفاف لها ومن أحكامها التي لا راد لها في عصر حقائق الإعلام التي تزري بالحقائق.

[[ كان العز رحمه الله مهيباً في شخصيته، وكانت هذه الهيبة تضفي آثارها الجسيمة على المتجبرين والمتكبرين والمتعالين والمتجرئين على الله والناس. ومما يستشهد به لهذا الخلق قصته مع الأمراء الأتراك في مصر، وهم جماعة ذكر أن الشيخ لم يثبت عنده أنهم أحرار، وأن حكم الرق مستصحب عليهم لبيت مال المسلمين، فبلغهم ذلك، فعظم الخطب عندهم فيه، وأضرم الأمر، والشيخ مصمم لا يصحح لهم بيعاً ولا شراء ولا نكاحاً، وتعطلت مصالحهم بذلك، وكان من جملتهم نائب السلطنة، فاستشاط غضباً، فاجتمعوا وأرسلوا إليه، فقال: نعقد لكم مجلساً وينادى عليكم لبيت مال المسلمين، ويحصل عتقكم بطريق شرعي، فرفعوا الأمر إلى السلطان " الأشرف " فبعث إليه، فلم يرجع، فجرت من السلطان كلمة فيها غلظة، حاصلها الإنكار على الشيخ في دخـوله في هذا الأمر، وأنه لا يتعلق به، فغضب الشيخ، وحمل حوائجه على حمار، وأركب عائلته على حمار آخر، ومشى خلفهم خارجاً من القاهرة، قاصداً نحو الشام، فلم يصل إلى نحو نصف بريد إلا وقد لحقه غالب المسلمين، لم تكد امرأة ولا صبي ولا رجل لا يؤبه إليه يتخلف، لا سيما العلماء والصلحاء والتجار وأنحاؤهم، فبلغ السلطان الخبر، وقيل له: متى راح ذهب ملكك، فركب السلطان بنفسه، ولحقه واسترضاه وطيب قلبه، فرجع واتفقوا معهم على أنه ينادى على الأمراء، فأرسل إليه نائب السلطنة بالملاطفة، فلم يفد فيه، فانزعج النائب وقال: كيف ينادي علينا هذا الشيخ ويبيعنا ونحن ملوك الأرض؟ والله لأضربنه بسيفي هذا، فركب بنفسه في جماعته، وجاء إلى بيت الشيخ والسيف مسلول في يده، فطرق الباب، فخرج ولد الشيخ فرأى من نائب السلطنة ما رأى، فعاد إلى أبيه، وشرح له الحال، فما اكترث لذلك ولا تغير، وقال: يا ولدي، أبوك أقل من أن يقتل في سبيل الله، ثم خرج كأنه قضاء الله قد نزل على نائب السلطنة، فحين وقع بصره على النائب يبست يد النائب، وسقط السيف منها، وأرعدت مفاصله، فبكى، وسأل الشيخ أن يدعو له، وقال: يا سيدي خير، أيش تعمل؟ قال: أنادي عليكم وأبيعكم. قال: ففيم تصرف ثمننا، قال: في مصالح المسلمين. قال: من يقبضه؟ قال: أنا. فتم له ما أراد، ونادى على الأمراء واحداً واحداً، وغالى في ثمنهم، وقبضه، وصرفه في وجوه الخير، وهذا ما لم يسمع بمثله عن أحد، رحمه الله تعالى.]].

ترى هل كان العز بن عبد السلام يملك من يصنع له هالة تمنعه من السلطان الأشرف ومن المماليليك الذين أفتى بأنهم ملك لبيت مال المسلمين وبيدهم الحكم والسيف، حتى أصبح السلطان يهابه وهو محمي منهم على نحو ما؟ أم كان الشعب من حوله كان على درجة من الوعي الاجتماعي والسياسي والمبادرة حيث يتخذ من المواقف التي تضع حداً حتى للسلطان إذا جار؟ أم كان العالم الحكيم على تواضع ونورانية وصلة بالناس إلى الحد الذي يعرفونه فينصرونه عندما يكون على حق في أمر يعود إلى الخلق، ولو كان نصرهم له مكلفاً أو كان نصراً سلبياً، بمعنى احجامهم عن طاعة غيره أو البقاء تحت إمرته؟! إنها تساؤلات تطرح نفسها على المرء في وقت الضائقات والأزمات، وفي أوقات تشتد فيه المعاناة ويكثر فيه الكلام عن الحكم والحكمة والحكماء،عن الساسة والسياسة والمؤسسات السياسية والإصلاح والتغيير..إلخ، بينما الظلم والقهر وفقدان الأمن يكتسح حياة الناس والأنفس في بلدان طالت محنتها وانصب البؤس عليها، والفوضى تنتشر في أرجائها وتفرخ فوضى أشد، والقتل والإرهاب والدمار والعدوان والتآمر كل ذلك يستمر بل يتفاقم ليلغي العقل والخير ويجمد الخطو نحو الحكمة ويحرف المنطق عن جادة الصواب والعقل عن سبل الرشاد!! لا يوجد استعصاء في أية أزمة ولا يوجد واقع متأزم يستعصي على الحل عندما يكون العدل نصب الأعين، وخدمة الحقيقة والناس والبلد مفاتيح الأبواب والموازين والمعايير، وعندما تخلص النوايا من الشوائب والأورام والأمراض، ويحرص المعنيون بالأزمات وشؤون الناس على الحل العادل والعدل الخالص والعقل الحاكم وحقن الدماء وتجنيب الناس والبلد الدمار والفوضى والمعاناة، والوصول بالشعب إلى الحرية والكرامة والأمن والخير، من دون أن تحكم البلد أو الشعب فئات مريضة أو ذات ارتباطات مريضة، أو ذات أورام خبيثة ورؤى قاصرة وقامات ترى أنها أعلى من الأعلى ومن الوطن والأمة والحق والعقل وأغلى.. ومن دون أن تكون هناك رؤية لذات ما فوق كل الذوات ما لم تكن رؤية لحق تزهق باطلاً فهي أعلى وأغنى وأغلى، ومن دون أن تكون هناك أوداج منتفخة وأصوات مرتفعة لساسة و"حكماء؟" ومثقفين وإعلاميين وناشطين و..و..إلخ" نراهم في مواقع التنابر مثل الديوك الرومية الهائجة يغطون ساحات هي في الأصل ساحات ينبغي أن تكون ساحات للمعرفة والحقيقة والشعب، ولهم فيها مواطئ قدم مثل غيرهم ولا يرفع شأنهم فيها إلا عملهم وخلقهم وإنجازهم والتزامهم القيَمَ والمصلحة العامة وصوت العدل..

نتمنى أن ينخفض طبل الصوت ليرتفع صوت العقل، وأن يخرس الرصاص القاتل ليتكلم المنطق المحيي، وأن يبقى أدعياء الحكمة ومتعهدو السياسة الميكيافلية والإعلام المريض في سراديبهم المظلمة لتنير الحكمةُ الحقة والمسؤوليةُ المنتمية والمعرفةُ الجديرة باسمها والقيمُ الخيرة والأخلاق الحميدة دروبَ الناس إلى وطن الاستقرار والكرامة والحرية والعيش في ظل أمن من جوع وخوف، فقد تعبنا، وطالت بنا دروب التيه، وتقنا إلى الهدوء والصدق والثقة، وشمس نيسان في ربيع حقيقي فيه خضرة وزهر وثمر ونسيم عليل.