خبر أزمة كاشفة للوهن العربي..فهمي هويدي

الساعة 04:35 م|01 مايو 2012


الأزمة التي وقعت هذا الأسبوع بين السعودية ومصر كشفت عن مدى التصدع الذي يعاني منه البيت العربي ومدى الوهن الذي أصاب علاقات الأشقاء.

(1)

ما خطر ببال أحد أن يؤدي حادث احتجاز أحد المحامين المصريين المعتمرين في مطار جدة إلى إطلاق حملة احتجاجات في القاهرة، ترددت أصداؤها في وسائل الإعلام المختلفة، ثم ان ينتهي الأمر بسحب السفير السعودي وإغلاق القنصليات في مصر، الأمر الذي يلوح باحتمال قطع العلاقات بين اثنين من أهم الأقطار العربية. ولأول وهلة يبدو الأمر كأنه فرقعة سياسية انطلقت من حيث لا يحتسب أحد. إذ كان الانفعال والغضب واضحين في القرار السعودي، بقدر ما ان رد الفعل من الجانب المصري اتسم بالتعجل والعبثية من ناحية، وبالبعد عن اللباقة من ناحية ثانية. إلا اننا ينبغي أن نلاحظ هنا أن الموقف السعودي كان قرار دولة، اعتادت أن تتصرف بهدوء وروية وتعتمد سياسة النفس الطويل في أغلب الأحوال، من ثم فإن الانفعال يعد موقفا استثنائيا يعطي انطباعا بأن غضب الرياض تجاوز معدلاته العادية. بالمقابل، فإن رد الفعل المصري إزاء الحدث كان شعبيا وإعلاميا ولم يكن رسميا، وليس بعيدا عن التأثر بأجواء الهرج التي تسود مصر منذ قيام الثورة بما استصحبته من علو للصوت وجرأة في التعبير.
لست في مقام تحري خلفيات القرار السعودي المفاجئ، ولكن بوسعنا أن نتحدث عن الأصداء المصرية التي شهدناها خلال الأيام العشرة الأخيرة. وفي حدود علمي فإن الشرارة الأولى التي فجرت تلك الأصداء تمثلت في الشائعات التي ذاعت في أوساط الناشطين وتحدثت عن تعمد سلطات مطار جدة احتجاز المحامي المصري، تأديبا له على مواقف سابقة كان قد اتخذها في مواجهة ممارسات النظام السعودي. كما تحدثت عن أن حكما صدر بحبس المحامي لمدة سنة وتعريضه لعقوبة الجلد. هذه المعلومات تعامل معها كثيرون باعتبارها حقائق ولم يحاول أحد أن يتثبت من دقتها، الأمر الذي أطلق صورا مختلفة من تجليات الاحتجاج والغضب، كان بينها ما شهدته نقابة المحامين المصريين، والتظاهر أمام السفارة السعودية بالقاهرة، ورشقها من قبل البعض، أما الأسوأ فيها على الإطلاق، فقد كان التناول الإعلامي الذي لم يخل من تطاول وتجريح، ولم يسلم منه أحد من المسؤولين السعوديين، بدءا من السفير في القاهرة إلى الملك في الرياض. وهو تطاول مارست فيه بعض الصحف المصرية ما نعرفه عنها من خفة في التقييم وبذاءة في التعبير. وتلك رذيلة ينبغي أن نعترف بأنها تعد من السوءات التي أصبحت تلصق بالإعلام المصري، جراء ممارسات بعض الصحف الصفراء التي تعتمد الإثارة الرخيصة وبعض الأقلام التي اخترقت الساحة الإعلامية في غفلة من الزمن، من دون أن تتمكن من تقاليد المهنة أو آداب الحوار مع المخالفين. وكانت النتيجة أن عددا غير قليل من حملة الأقلام المحدثين لم يتعلموا كيف يفرقون بين النقد و«الردح».

(2)

إذا نظرنا إلى وقائع الحدث من زاوية تفاصيلها، فسنجد أنها زوبعة في فنجان، أو حبَّة تحولت إلى قبة، وإذا وضعنا في الاعتبار أجواء ما بعد الثورة، وأدركنا أن بعض ما وجه إلى القادة السعوديين من أوصاف وعبارات خشنة يوجهه البعض إلى رموز الحكم في مصر، فربما أسهم ذلك في احتواء الموضوع من خلال الاكتفاء بالعتاب الهادئ عبر قنوات الاتصال المفتوحة بين القاهرة والرياض، إلا أنني لا أستطيع أن أفصل رد الفعل السعودي السريع والغاضب عن أجواء الحساسية المخيمة على منطقة الخليج إزاء الثورة المصرية وغيرها من مظاهر ما سمي «الربيع العربي»، حتى أزعم أن هذا الذي حدث لو أنه وقع في ظروف أخرى وسياق مغاير لعولج بأسلوب آخر أكثر هدوءا ورصانة.
إن استياء أغلب الدول الخليجية من التحول الذي أحدثته الثورة في مصر وغيرها من دول الربيع العربي بات معلوما للكافة. وهذا الاستياء يلمسه أبناء تلك الدول الذين يعيشون في منطقة الخليج. وهم الذين يعانون من التضييق في تجديد عقود العمل وفي الإقامة والزيارات، إضافة إلى أن بعضهم سحبت منهم الجنسية التي منحت لهم بعدما طالت اقامتهم هناك، وأمضوا سنوات عمرهم في بناء الدول الخليجية وتطويرها.
تجلت مشاعر الاستياء أيضا في موقف أغلب الدول الخليجية من الاستثمار في دول «الربيع العربي» والحكايات التي تروى في هذا الصدد كثيرة. فقد وعدت مصر باستثمارات قدرت بعشرة مليارات من الدولارات، لكنها لم تتلق سوى مليار واحد من دولتين خليجيتين. وكانت قد رتبت زيارة لمسؤول خليجي كبير سبقته اتصالات تحدثت عن تقديم أربعة مليارات دولار. لكنه في اللحظة الأخيرة تلقى تعليمات بالاكتفاء بالحديث عن نصف مليار فقط. وهناك إشارات تحدثت عن حظر استثماري خليجي على دول «الربيع» إلا أن إحدى الدول قدمت قرضا لتونس بفائدة 2,5٪، لكن اليابان قدمت قرضا مماثلا بفائدة 1,5٪ فقط (!).
وفي حدود علمي فإن بعض المسؤولين الأميركيين ينقلون إلى القاهرة بين الحين والآخر ما يسمعونه من انطباعات سلبية وانتقادات حادة لمصر بسبب انقلاب شعبها على الرئيس السابق، يتحدث بها بعض القادة الخليجيين. وتتناقل الدوائر الدبلوماسية هجوم وتحريض أحد وزراء الخارجية الخليجيين على مصر أثناء اجتماع عقد في لبنان الشهر الماضي، واتهامها بأنها أصبحت مصدرا لعدم الاستقرار في العالم العربي. ومعروف أن دول «الربيع العربي» المؤيدة للثورة السورية، تعارض موقف دول الخليج الذي يضغط بشدة لتسليح المقاومة السورية بما يفتح الباب لإشعال نار الحرب الأهلية هناك. وهو ما تجلى في القمة العربية التي عقدت أخيرا في بغداد، التي رفضت الفكرة خلالها. فما كان من بعض الدول الخليجية إلا أن دعت إلى اجتماع لمجلس التعاون الخليجي دعا إلى تسليح المقاومة، وتولت تلك الدول لاحقا تمويل عملية التسليح التي تم من خلال الأردن.
لم يقف الأمر عند حدود الموقف السلبي والناقد الذي اتخذته أغلب الدول الخليجية إزاء الثورات العربية، وإنما لجأ بعضها إلى محاولة التأثير على موازين القوى في داخل تلك الدول بدعوى الحد من نفوذ تيارات التطرف وتعزيز مواقف قوى الاعتدال. وتشهد ليبيا الآن جهدا ملموسا من ذلك القبيل. وهناك معلومات تتحدث عن تدخل دول أخرى لدعم بعض المرشحين في الانتخابات الرئاسية في مصر لترجيح كفتهم في مواجهة منافسيهم.

(3)

إذا نظرنا إلى المشهد من منظور أوسع فسنجد أن العالم العربي في وضعه الراهن يتعرض لحالة من السيولة التي تقترن فيها يقظة الشعوب بتفكيك الدول. إذ في الوقت الذي هبت فيه رياح الثورة والغضب الشعبي الذي ترددت أصداؤه في كل مكان، وجدنا أن دوله تتعرض لتهديدات وزلازل تهدد وحدتها أو وجودها. فالعراق الذي مزقه الاحتلال تم تقسيمه عمليا بين الشيعة والسنة والأكراد، والأخيرون يهددون بالانفصال هذه الأيام. وسوريا مهددة بالتقسيم بين السنة والعلويين إذا قامت الحرب الأهلية التي صرنا نسمع طبولها تدق عاليا والسودان قسم بالفعل، وليبيا تقف على أبواب الكونفدرالية بعد تشكيل مجلس انتقالي في بنغازي يهدد بالعودة إلى قسمة الولايات الثلاث. والمغرب يعاني من وجع متمردي الصحراء، والجزائر يقلقها تمدد الأمازيغ في الجنوب، الذين انطلقوا من مالي والنيجر. والأردن يقلقه تنامي الحساسية بين الأردنيين والفلسطينيين وحكاية الوطن البديل. ولبنان يعيش في ظل التقسيم الصامت بين مكوناته، ومصيره معلق بما ينتهي إليه الوضع المتفاقم في سوريا، واليمن يعاني من الشروخ والتشققات في الشمال والجنوب. ولا تسأل عن الصومال الذي أنهكه الصراع الداخلي حتى أعاده إلى مرحلة ما قبل الدولة.
في هذه الأجواء يبدو العالم العربي كأنه عقد انفرطت حباته، أو بيت تداعت أركانه، وتبدو منطقة الخليج كأنها جزيرة يسود سطحها الهدوء، ولا تظهر للملأ طبيعة تفاعلاتها التحتية، التي تفوح منها الروائح بأكثر مما تتبلور الحقائق على الأرض. وفي ظل الانفراط العربي الراهن الذي يذكرنا بحالة الدولة العثمانية حين وصفت بالرجل المريض في مرحلة احتضارها قبل الحرب العالمية الأولى، أصبحت دول الخليج لاعبا مهما في الساحة العربية. على الأقل من حيث إنها صاحبة الحظ الأكبر من الوفرة المالية، ومن ثم صاحبة الصوت الأعلى في الفضاء العربي. وليس من قبيل المصادفة بطبيعة الحال أن تصبح منطقة الخليج أحد مرتكزات السياسة الأميركية في المنطقة التي تؤدي وظائف عدة، سواء في تأمين الخليج ضد ما يشاع عن التطلعات الإيرانية أو في استثمار الدور الخليجي لتوجيه السياسة العربية.
هذه الخلفية إذا صحت، فإنها تقدم تفسيرا آخر للكثير من ممارسات السعودية. وهي الدولة الكبرى في منطقة الخليج بعد تدمير العراق، إذ أصبحت تتصرف كدولة كبرى وقوة عظمى في المنطقة العربية، في ظل الفراغ المخيم عليها والتشتت والتفتت الذي تعانى منه دولها. ويدخل في تلك الممارسات حالة التسرع في الغضب والاستعداد للتصعيد الذي عبرت عنه في أزمة المحامي السابق الذكر.

(4)

في علاقات الدول، حتى، إذا لم تكن «شقيقة»، فإن الأواصر تحكمها العوامل المتعلقة بالمصالح العليا والمصائر. وعندما توشك العلاقات على الانقطاع بسبب أزمة صغيرة كتلك التي حدثت في مطار جدة فذلك يعني أنها بلغت مستوى أدنى من التصدع والتهتك. وتصبح المشكلة أكبر وأعمق بكثير مما يبدو على السطح. وهذا التشخيص ينطبق على الحالة التي نحن بصددها، ذلك أننا حين نحلل الأزمة التي وقعت، ونطل عليها من مختلف زواياها، سندرك أن العالم العربي صار جسما مترهلا بلا رأس، وأن الكبار فيه ليسوا كبارا حقا، ولكنهم «استكبروا لأن من حولهم صغروا حتى صاروا أقزاما، فتصور الأولون أنهم عمالقة، الأمر الذي يعني أن ثمة خللا في الخرائط نال من القامات فضلا عن المقامات. وهي مشكلة لا حل لها إلا بعودة الروح والعافية إلى الجسم العربي، الذي تحتل مصر موقع القلب منه. وقد رأينا الذي أصاب الجسم من عطب وتشوَّه حين وهن القلب وانكسرت مصر وانتكس من بعدها العالم العربي من أقصاه إلى أقصاه. فاختلطت الأوراق واختلت الموازين وانقلبت الأحوال رأسا على عقب. فلا ظل الكبار كبارا ولا بقي الشقيق شقيقا، وانكشفت عورات الجميع حين وجدنا قد اختاروا واشنطن قبلة لهم.
إن الثورة إذا لم تصحح هذا الوضع المختل، وتعيد إلى القلب العربي حيويته ومن ثم إلى الأمة عافيتها، فإنها ستصبح مجرد تغيير في الأنظمة، لا يختلف كثيرا عن ذلك الرجل الذي استاء من اسمه فشمَّر عن ساعده وغيره من حسونة النذل إلى سمير النذل!

كاتب سياسي ـ مصر