خبر المصريون يمضون بثورتهم خطوة اخرى إلى الامام ..د. بشير موسى نافع

الساعة 09:51 ص|19 ابريل 2012

فجر ترشح السيد عمر سليمان، رئيس جهاز المخابرات المصرية السابق، وأول وآخر نائب للرئيس حسني مبارك، حالة من القلق والغضب في مصر، ووضع مجلس الشعب (البرلمان المصري) في مزاج تشريعي محموم، وأشعل روح الثورة المصرية من جديد. عدد من مرشحي الرئاسة وقطاع واسع من شباب الثورة والشارع المصري استشعر الإهانة في تقدم سليمان بأوراقه للترشح، ورأى أن خطوة سليمان تمثل استهانة بدماء مئات شهداء الثورة. وخلف التعبيرات المتعددة عن الشعور بالإهانة، كان هناك الكثير من الغضب: الغضب من الذات ومن بقايا النظام السابق، على السواء. المصريون غاضبون من أنفسهم لأن حالة الوحدة التي حققت للثورة أهدافها الأولى سرعان ما انهارت تحت وطأة الانقسامات والمصالح المتضاربة للقوى السياسية، ولأن هذه الانقسامات سمحت لقادة النظام السابق الاستخفاف بإرادة التغيير التي أطلقتها الثورة ومحاولة العودة من جديد للقبض على مقاليد الحكم والدولة. وهم غاضبون لأن نهج الثورة التي طالبت بإسقاط النظام لم يستمر براديكالية كافية لتحرير البلاد ممن تبقى من قوى النظام الفاعلة، وترك بالتالي فجوة سياسية وتشريعية، وفرت لبقايا النظام فرصة النفاذ إلى الساحة السياسية.

للوهلة الأولى، لم يبد ترشح سليمان وكأنه يمثل خطراً ما. فمن ناحية، ليس سليمان سوى مرشح واحد بين ثلاثة وعشرين مرشحاً للرئاسة، يتمتع بعضهم بثقل سياسي وشعبي كبير، ويصعب تصور فوزه على هؤلاء جميعاً. ومن ناحية ثانية، لم يكن الرجل مجرد شخصية قيادية في النظام السابق، بل وقف في الصف الأول من هذه القيادة لسنوات طوال، واعتبر بالتالي شريكاً أساسياً في قرارات النظام الكبرى وتوجهه الاستراتيجي، سيما في حقل العلاقات الخارجية. ومن ناحية أخرى، فإن سليمان سبق وأن جرب حظه في الوصول إلى موقع الرئاسة عندما أعلنه الرئيس السابق نائباً له وبدأت محاولة لإقناع الشارع المصري بسيناريو تخلي مبارك عن معظم سلطاته وتفويض هذه السلطات لنائب الرئيس، مقابل توقف الحركة الشعبية؛ ولكن جماهير المصريين رفضت هذا التصور وأصرت على إطاحة الرئيس ونائبه. مرشح بمثل هذا السجل ما كان يجب أن يشكل خطراً.

هذا كله صحيح، وربما هناك ما هو أكثر إن سمح بفتح ملف سليمان على مصراعيه. ولكن الصحيح أيضاً أن هذا المرشح بالذات مثل تهديداً لما قامت الثورة المصرية من أجله، وأنه كان سيصبح مرشحاً قوياً للرئاسة، ما كان يجب الاطمئنان إلى أن هزيمته شأن يسير. خلال ساعات من إعلان سليمان عودته إلى سباق الرئاسة، وحتى قبل ذلك الإعلان بأيام، كانت شبكة واسعة ونافذة من رجال الأعمال، القاهريين وغير القاهريين، وقيادات الحزب الوطني وفروعه التنظيمية، تعمل باجتهاد غير مسبوق من أجل جمع الثلاثين ألف توكيل من المواطنيين المصريين لدعم الترشح؛ وهو الشرط الذي يضعه القانون لقبول المرشح المستقل. وقد تقدم سليمان للهيئة العليا للانتخابات بأكثر من ثلاثة وأربعين ألفاً من التوكيلات، يعتقد أنها جمعت خلال أسبوع واحد فقط. وما أن تأكد خوض سليمان لانتخابات الرئاسة حتى أخذت الأصوات تعلو لتأييده من شخصيات صحافية وفكرية، من فنانين وفنانات ذائعي الصيت، من شخصيات عامة، من رجال أعمال، ومن محطات تلفزة بالطبع. وحتى إن لم يكن المجلس الأعلى للقوات المسلحة يؤيد ترشح اللواء سليمان، فإن جسم الدولة المصرية على المستويين الوسيط والأدنى لم يتغير كثيراً منذ تنحي مبارك عن الحكم. أغلب المحافظين لم يزالوا في مواقعهم، ومعهم قيادات الصف الثاني الأمنية، إضافة إلى بنية الإدارة المحلية، التي يمكن، إن أرادت، أن تلعب دوراً كبيراً في العملية الانتخابية. ولهؤلاء جميعاً نفوذ كبير في المناطق التي يتواجدون فيها، سيما خارج العاصمة القاهرة، كما أنهم يمتلكون القدرة على الوصول إلى الكتل العائلية والعشائرية والريفية الكبيرة. ومن الطبيعي أن يكون بينهم عدد ملموس من المؤيدين لسليمان والذين يتمنون رؤيته رئيساً للبلاد. عندما تتوفر لهؤلاء إمكانيات مالية كافية، وهو الأمر المتوقع، سيتحولون إلى قوة تدخل انتخابية بالغة الفعالية والأثر.

إضافة إلى ذلك كله، ثمة قطاع لا يمكن تقديره من المصريين العاديين الذين أيدوا الثورة وشاركوا في أحداثها، ولكن أعباء العام الماضي، الأمنية والاقتصادية، أثقلت كواهلهم وكواهل أسرهم، وجعلتهم أقل تأييداً للثورة وأكثر رغبة في تولي ما وصف خلال الأسابيع القليلة الماضية بـ 'الرجل القوي'، القادر على مواجهة الأزمات المتلاحقة التي تواجه البلاد وحياة الناس اليومية. ولا يخفى أن عدداً من الدول العربية يرغب في عودة قيادة مصر إلى حوزة الحرس القديم من الطبقة السياسية، بدلاً من المجهولين الجدد من السياسيين الذين دفعتهم تيارات الثورة إلى مقدمة المسرح. ولأن تدهور الاقتصاد المصري بات الهم الرئيسي لمعظم المصريين، فإن جانباً من دعاية سليمان المبكرة سلط الأضواء على علاقاته العربية وقدرته على توظيف هذه العلاقات لحل أزمة البلاد الاقتصادية المالية المركبة.

لم يكن عمر سليمان المرشح الأول للرئاسة من كبار رجال عهد الرئيس السابق مبارك. سبقه إلى المنافسة الفريق أحمد شفيق، قائد سلاح الطيران الأسبق، وزير طيران لاحق، وآخر رئيس لوزراء حكومة مبارك. ولكن ترشح شفيق لمنصب الرئاسة لم يثر من القلق وردود الفعل ما أثاره ترشح سليمان. وهذا في حد ذاته مؤشر كاف على جدية التحدي الذي مثله سليمان للمرشحين الآخرين وللقوى السياسية التي فتحت لها الثورة أبواب العمل السياسي ولشباب الثورة. خلال ساعات من تقدم سليمان بأوراقه للجنة العليا للانتخابات، تحرك المصريون، برلماناً وقوى سياسية وشعبية وشارعاً، لمواجهة التحدي وسد الفجوة. وفي خطوة غير مسبوقة ربما في تاريخ مجلس الشعب المصري، أقر البرلمانيون المصريون يوم الخميس الماضي (12 إبريل/ نيسان) تعديلاً في قانون ممارسة الحقوق السياسية، يمنع الرئيس ونوابه ورئيس وزرائه وقادة الحزب الوطني (المنحل)، في السنوات العشر السابقة على تنحي مبارك، من ممارسة حقوقهم السياسية، بما في ذلك الترشح لمنصب الرئيس، لعشر سنوات قادمة. وقد أرسل التعديل إلى رئيس المجلس العسكري (بصفته قائماً بأعمال رئيس الجمهورية) لتوقيعه. كما تداعت القوى السياسية الإسلامية لمظاهرة مليونية يوم الجمعة 13 إبريل/ نيسان، باسم الحفاظ على الثورة، لتتبعها مظاهرة أخرى في الجمعة التالية، دعت لها عدة قوى سياسية وشبابية. كما شهدت عواصم المحافظات المصرية سلسلة من التظاهرات العفوية والمنظمة، احتجاجاً على ترشح سليمان. وفي الوقت نفسه، كانت جماعات شبابية، بما في ذلك جماعة 6 إبريل، بدأت توزيع عشرات الآلاف من الملصقات والمنشورات، التي توضح لعموم المصريين الخطر الذي يتهدد ثورتهم ومستقبل بلادهم السياسي.

ثمة من رأى أن تعديل قانون ممارسة الحياة السياسية، الذي بات يعرف بقانون العزل السياسي، قد وضع حلاً للمشكلة، وأن سليمان وشفيق سيخرجان من السباق على الرئاسة قريباً بقوة القانون. ولكن الحقيقة أن وضع التعديل القانوني محفوف بالاحتمالات. فلأن شؤون مصر السياسية تخضع لإعلان دستوري مؤقت لا يسمح بالعزل السياسي بأثر رجعي، ولأن القوانين لابد أن تكون عامة ومجردة، ولا تسن لاستهداف أشخاص بعينهم، فقد ثار جدل حول دستورية العزل السياسي.

مثل هذا الجدل قد يدفع المجلس الأعلى للقوات المسلحة بعدم التصديق على التعديل المرسل إليه من البرلمان، أو إلى تحويل التعديل إلى المحكمة الدستورية للنظر في شرعيته. وحتى إن صدق المجلس الأعلى، فإن قانوناً لا يصبح واجب النفاذ إلا بعد شهر من نشره في الجريدة الرسمية. ولذا، فسرعان ما برز سؤال كبير حول ما إن كانت الهيئة العليا للانتخابات ستأخذ بالقانون بمجرد نشره، أو أنها ستنتظر شهراً لتطبيقه، وإن أخذت بالخيار الثاني، فكيف سيكون موقف سليمان وشفيق عندها؟ إن سار قانون العزل السياسي الجديد في طريقه بلا عقبات، لم يكن هناك من شك بأنه سيعيد سليمان وشفيق إلى منزليهما، ويضع نهاية لهذه المعركة المدوية والمتأخرة من الصراع الدائر على مستقبل مصر وروحها. ولكن أحداً ما كان يمكنه الاطمئنان إلى مصير هذا القانون، وهو ما استدعي حراكاً شعبياً واسع النطاق، من أجل مواجهة الخطر الداهم الذي يمثله ترشح سليمان والقوى والأمكانات الهائلة التي تقف خلف ترشحه.

لم يكن من المتوقع مطلقاً أن تكون عملية تغيير مصر يسيرة. عندما يتعلق الأمر بمركز الثقل العربي، تصبح الثورة وعملية التغيير شأناً مصرياً وعربياً ودولياً. وليس مثل اللواء سليمان من تلتقي عنده هذه الدوائر الثلاث. أصبح سليمان، على نحو ما، الأمل الأخير لجماعات مصالح كبرى، سياسية واقتصادية، داخل مصر، في إيقاف عجلة التغيير وإعادة الساعة، ولو جزئياً، إلى الخلف. في حال فشلت جماعات المصالح هذه في إيصال مرشحها لمقعد الرئاسة، فقد انتهت سيطرتها على مقاليد البلاد السياسية والاقتصادية كلية. ولعل هذا ما دفع سليمان للتوكيد على أن خياره هو العمل من أجل منصب رئاسة قوي ومؤثر، ورفض الأفكار المتداولة حول تعديل بنية الحكم في الدستور المصري الجديد، لتنزع من رئيس الجمهورية الكثير من صلاحياته. كما أن دولاً عربية بعينها رأت أن تغيير مصر سيشكل تهديداً لنفوذها، بل وربما خطراً على وجودها. وقد كان هذا هو السبب الرئيسي خلف امتناع هذه الدول عن الوفاء بتعهداتها لمساعدة مصر على الخروج من أزمتها المالية والاقتصادية الراهنة، وربط هذه المساعدات بطبيعة الحكم الجديد في مصر وتوجهاته السياسية الخارجية. وقلق الدولة العبرية ودول غربية أخرى من التغيير في مصر، ومن حالة فقدان اليقين التي تحيط بمستقبل مصر السياسي وخيارات مصر الجديدة في حقل السياسة الخارجية، لا يقل عن قلق بعض العرب.

ما حدث خلال العام الماضي كان وقوع تشقق ملموس في النظام العربي القديم. وما شهدته مصر خلال الأسابيع الأخيرة كان محاولة بالغة الجدية والتصميم من قبل النظام القديم لإيقاف عجلة التغيير، وإيقاع هزيمة في قوى الثورة والتغيير في البلد العربي الأكبر. ولأن ما لم تتغير مصر، فإن كل شيء في هذا المجال العربي الفسيح سيعود إلى ما كان عليه، فإن آمال حركة الثورة العربية كانت معلقة بالفعل بإرادة المصريين وتصديهم للهجمة المضادة. وليس ثمة شك في أن المصريين كانوا عند حسن ظن العرب بهم. وهذا هو ما أدى في النهاية لإسقط ترشح سليمان، ولأسباب قانونية بحتة!

 

' كاتب وباحث عربي في التاريخ الحديث