خبر في ذكرى رحيل أبو جهاد نستحضر الزمن الجميل ..د. إبراهيم أبراش

الساعة 05:32 م|17 ابريل 2012

كلما جاءت ذكرى رحيل قائد وطني من جيل المؤسسين للثورة الفلسطينية إلا وتداخلت ذكرى القائد مع مفردات ومفاهيم وقيم  مرحلة من تاريخ الشعب الفلسطيني يمكن إدراجها تحت عنوان (الزمن الجميل) ،زمن العطاء والتضحية والمصداقية الوطنية ، وذكرى استشهاد القائد خليل الوزير تخرجنا وجدانيا ونفسيا ولو مؤقتا من زمن الرداءة الراهن لتعيدنا لذاك الزمن الجميل.

  لا أزعم أنني أعرف عن قرب الراحل خليل الوزير (أبو جهاد) ولكنني التقيت به عدة مرات في لقاءات عامة ومن خلالها تعرفت على أبو جهاد القائد وعلى معنى القيادة والزعامة.كان اللقاء الأول خريف 1976 في بلدة كيفون في لبنان وكنت خريجا جديدا التحقت بالثورة كمتطوع مع مجموعة من الطلبة والمعلمين والأطباء ومن مختلف القطاعات في بداية الحرب الاهلية اللبنانية.لم يلتقي بنا أبو جهاد في فندق أو قصر أو قاعة مكيفة بل في العراء تحت شجرة مظللة ،كانت تساؤلاتنا وشكوانا تدور حول ممارسة بعض السفراء ومسئولي التنظيم وأمور أخرى لا تخلو من سذاجة وبساطة شباب ينظرون بقدسية وطهرية للثورة والثوار،لم يتجاهل أبو جهاد أسئلتنا البسيطة والساذجة بل تطرق إليها باختصار مبررا ما يجري بحداثة الثورة وكثرة المؤامرات المحاكة ضدها،ولكنه أسهب في الحديث برؤية استراتيجية عن القضية الوطنية بأبعادها العربية والدولية.

في بداية اللقاء كنا نشعر بأننا صغار ولكنه كلما  أسهب في الحديث  عن القضية والتحديات التي تواجه الثورة والمهام المنوطة بها وبنا ،كلما شعرنا بأنفسنا نكبر ونكبر،بدءنا اللقاء صغارا وخرجنا منه كبارا.الأفراد ،كما الشعوب ،يكبروا بقادتهم بقدر ما يكبروا بانجازاتهم الفردية.في حضرة أبو جهاد كما كان الأمر في حضرة أبو عمار وسائر المؤسسين الأوائل يشعر المرء بالهيبة والرهبة وجلال الموقف وبالحضور الطاغي للقائد،بينما في لقاءات مع أشباه قادة زمن الرداءة الراهن قد يشعر المرء برهبة المكان أو البروتوكول ولكنه لا يشعر برهبة وهيبة الشخص ولا بجلال الموقف،القادة الحقيقيون أكبر من كل مكان ومن كل البروتوكولات ،بينما أشباه القادة يعتقدون أن بهرجة المكان وتعقيد البروتوكول يجعلهم كبارا .

في ذكرى استشهاد أبو جهاد نستحضر مرحلة استطاع الشعب الفلسطيني خلالها فرض حضوره الوطني السياسي عربيا وإقليميا ودوليا وفرض على العالم أن يعترف به شعبا له حقوق سياسية وله الحق في تقرير مصيره وليس مجرد جموع لاجئين فلسطينيين.في أوج ممارسة الشعب الفلسطيني للعمل الفدائي أو الكفاح المسلح داخل فلسطين المحتلة وعبر الحدود العربية الإسرائيلية وفي أوروبا وعبر العالم ،وبالرغم من عدم اعتراف منظمة التحرير آنذاك بإسرائيل وحتى بقرارات الشرعية الدولية،بالرغم من ذلك اعترفت الأمم المتحدة بمنظمة التحرير عضوا مراقبا وفتحت منظمة التحرير عشرات السفارات والممثليات في كل قارات الأرض ،واستقبل العالم ومن خلال الأمم المتحدة الرئيس الراحل أبو عمار استقبال القادة وليعلن من على المنبر الأممي قائلا :(جئتكم بغصن الزيتون في يد والبندقية في اليد الأخرى) وكانه يقول لم آت لاستجدي حقا أو قرارا دوليا بل لأطالب من موقع القوة بعدالة مفتقدة وبحق مشروع.

نعتقد أن سر عظمة تلك المرحلة والذي دفع العالم لأن يحترم الشعب الفلسطيني ويعترف بحقه في تقرير مصيره يكمن ،بالإضافة لعظمة الشعب، في قيادة تلك المرحلة وانجازاتها وأهمها:

1-       بعد عقد من التيه السياسي بعد النكبة تمكن القادة المؤسسون من استنهاض الهوية والشخصية الوطنية وتحريرها من  حالة الركود والتيه والإحباط ،حولوا الشعب من جموع لاجئين لشعب له حقوق وطنية.أن يتحول الفلسطيني من لاجئ في سجل وكالة الأونروا يبحث عن قوت يومه  أو رقم في سجل مخابرات دول عربية وضيف ثقيل في بلدان أخرى ،إلى وطني مقاتل من أجل الحرية ،فهذا كان بمثابة ولادة جديدة للشعب الفلسطيني. المؤسسون الأوائل استنهضوا وعززوا هوية وثقافة وطنية ،جامعة ،متسامحة ،منفتحة على الجميع ، وشتان بينها وبين ما يسود اليوم من تغييب للهوية والثقافة الوطنية بل محاربتهما باسم الدين ،ومن انتشار لثقافة الحقد والكراهية والخوف .

2-       وجود قادة ومؤسسة قيادة .ذلك أنه بالرغم من الشخصية الهيمنية والكارزماتية للرئيس أبو عمار إلا أنه كان محاطا أيضا بقادة عظام  أمثال أبو يوسف النجار وكمال عدوان أبو جهاد وأبو إياد وخالد الحسن وأبو الهول وسعد صايل وأبو اللطف وأبو مازن ،كان كل من هؤلاء مؤسسة قيادة قائمة بذاتها تشتغل بتنسيق وانسجام مع الرئيس أبو عمار وإن اختلفوا فيما فيه المصلحة العليا ،وكان كل منهم يتوفر على قدرة هائلة على الاستقطاب الشعبي والتعبئة والتحريض ،وكان لكل منهم صداقات وعلاقات عربية ودولية واسعة،لم يكن زعماء تلك المرحلة قادة حزب وحركة بل قادة شعب .

3-       وجود استراتيجية وطنية واحدة ،حيث كانت منظمة التحرير تمثل وتستوعب الكل الفلسطيني ،صحيح كان لبعض الفصائل القومية واليسارية رؤى ومعتقدات وعلاقات تختلف عن حركة فتح وتتعارض أحيانا مع قيادة المنظمة ،إلا أنها جميعا كانت متحدة ومتوحدة حول الثوابت وفي مواجهة العدو المشترك ،فقد خاضت معركة الكرامة وبعدها أحداث أيلول في عمان مشتركة ،وخاضت المعركة موحدة خلال الحرب الاهلية في لبنان وأثناء حرب لبنان 1982. 

4-       استقلالية القرار الوطني.لم تكن قيادة تلك المرحلة تفصل بين معركة الاستقلال والتحرر الوطني ومعركة استقلالية القرار الوطني ،فمن لا يملك قراره الوطني لن يحترمه شعبه ولن يتمكن من خوض معركته الوطنية،ولذا قاتل أبو عمار ومعه رفاقه كل محاولات الهيمنة على القرار الوطني أي كان مصدرها،اختلفت القيادة وتصادمت مع مصر عبد الناصر دفاعا عن استقلالية القرار وقت مبادرة روجرز،وتصادمت واختلفت مع صدام في أوج قوته عندما حول فرض وصايته وتصوره لمفهوم الصمود والتصدي ،ودفاعا عن استقلالية القرار دخلت القيادة في مواجهات مع سوريا وليبيا ودول خليجية.هذا الأمر جعل العالم البعيد قبل القريب يحترم الشعب الفلسطيني وقيادته.

في الشهادة يتساوى الجميع فرحم الله كل شهداء فلسطين من أول الشهداء فؤاد حجازي وعطا الزير ومحمد جمجوم مرورا بشهداء شارع الفردان- أبو يوسف النجار والكمالين - وأبو جهاد وأبو إياد وأبو عمار والشيخ ياسين والشقاقي وأبو على مصطفى وكل من قضي في سبيل الوطن.