خبر زيتون مبارك في أرض مباركة..علي عقلة عرسان

الساعة 12:26 م|30 مارس 2012

صرفني شأن بعض أهلي عن بعض أهلي لوقت، كنت أحس فيه بالغربة عن نفسي وعمَّا نذرت له نفسي، ومن آذار إلى آذار بفارق سنة بينهما، كان الدم يسيل هنا فيشغلني عن هناك، حيث يستمر العدوان والاحتلال والقهر ونزف الدم، ويعيدني ذاك إلى ما وجدتني عليه منذ عام 1948 يوم جمعتني الظروف القاسية بأطفال ونساء وشيوخ ألقت بهم الشاحنات في باحة مدرستي وفي مواقع وبيادر وساحات أخرى من قريتي الصغيرة..

إنهم فلسطينيون من قرى احتلها العدو الصهيوني وشرد أهلها واستولى على بيوتها وحقولها و"بياراتها"، فشردوا والخوف مما جرى في دير ياسين يلاحقهم، وقالت لهم الجيوش العربية التي كان يقودها " غلوب باشا" إنهم سيعودون خلال أيام، لكن غربتهم استمرت إلى يوم الناس هذا، وسلم البريطاني غلوب باشا ما كانت بريطانيا قد قررت تسليمه من فلسطين إلى اليهود ليقيموا دولة على حساب فلسطين وشعبها، وعلى حساب تقدم الأمة العربية ونهضتها وكرامتها ومقومات قوتها ووحدتها.

ونشأنا معاً متقاربين، وما زلنا معاً متقاربين، أحببت الزيتون والبرتقال الذي يزرعون ويحبون، وبكيت معهم ومثلهم على أرضي التي أراها ولا أستطيع الوصول إليها، وعلى بيتي الذي يسكنه الغريب ويحرمني منه، وعلى شهدائي الذين لا تضم جثامينهم تربة قراهم، وعلى تاريخي ينهبه عدوي ويزوره ولا أقوى على تصحيح ما يزور منه لأنه يشغلني بقتال أخي عن قتاله، وبجراحي المتجددة عن أحلامي ووقائع ماضي وحاضري المبدَّدة، وعن حقي بالحسرة على ذهاب حقي.. وعاماً بعد عام كنا نكبر ويكبر الهم ويزداد العدو قوة ونزداد ضعفاً وتمزقاً، وهو يزحف على مزيد من أرضنا ومقدساتنا يحتلها ويتوسع فيها ونحن نتراجع ونتضاءل، نقاوم باللحم الحي وإرادة الحياة الدبابةَ والطائرة الصاروخ والحقد المعتق، ونصرخ بوجه أمة العرب أن قد آن أوان الجد يا عرب، تعلموا وتوحدوا وتحرروا وتقدموا وواجهوا قدركم المقدور، فلا يحك جسم المرء مثل ظفره، ولا ينفعنا في قضيتنا الاعتماد على الآخر الذي يتاجر بالحرية والعدالة والإنسان ولا يعنيه من الحرية والعدالة والإنسان إلا ما ينفعه ويعود إليه بالمكاسب والنفوذ والقوة والهيمنة!؟ لا تتركونا للزمن وحكم العدو فينا، فالزمن ولا يحل قضية لا يضعها أهلها في مقدمة ما يعنيهم من قضايا الوجود في كل زمن، والعدو يزداد بغياً وقوة وتوسعاً وغطرسة، يقتل ويضحك بينما تندبون وتقهرون.. صرخنا وصرخنا وصرخنا.. ولكن الصوت كان يذهب مع الريح، ويدوي في وديان سحيقة ينشغل أهلها بأهلها عمن يهددها ويهدد أهلها، وتأكلهم جميعاً الأحداث ويتآكلون على مرِّ السنين.

ومن قمة عربية إلى أخرى كانت تشحب قضيتُنا بنظر أهلها ويتراجع موقعها من نضالهم، وبعدما كانت: " صراع وجود مع وجود بين العدو المحتل وأهل الأرض والحق أصبحت نزاعاً على حدود بين متطلع إلى مزيد وراج أن يبقي له عدوه على بعض ما يريد"، وبعدما كانت "قضية العرب المركزية وصراعاً عربياً صهيونياً شاملاً" أصبحت "خلافاً فلسطينياً إسرائيلياً محدودا"، وبعدما كانت تفرض على كل عربي أن يقاتل عدوه من أجل الأرض والمقدسات والحقوق أصبحت تبيح لكثيرين من أهلها أن يحتموا بعدوهم ويستنصروه على بعض أهلهم ويبادلونه الاعتراف والمصالح والثقة بينما ينزعون اعترافهم بعضهم ببعض، وثقتهم بعضهم من بعض، وينادون بقتال على بعض الأمة يستدعى له كل أعداء الأمة.

فيا لزمن الموت الذي به اليوم يستظلّ نضالنا في سبيل أرضنا وحقنا، ذلك الذي بدأ منذ قرن ونيف يوم أقرت معاهدة " سايكس ـ بيكو" الأولى 1916 إلى يوم الناس هذا حيث يعمل عدونا وحلفاؤه على تنفيذ " سايكس ـ بيكو" الثانية"،  و يا له من يوم للأرض كتبه الفلاح الفلسطيني بالدم، ويجدده اليوم بالدم، بينما الأرض نهب الأعداء، والأمة العربية نهب الحقد والبغضاء، والدم العربي مباح ومستباح، وخنجر الأخ في قلب أخيه.؟!

نزرع الزيتون الذي نحبه، نعم نزرعه في بعض ما تبقى لنا من أرض ونرويه بما في عروقنا من دم، ونقول للعالم كل العالم:" أنظروا.. إننا نحمل أغصان الزيتون، ونريد السلام، وأن تكون أرضنا خضراء مثمرة، وأن نعيش فيها بأمان.. بينما الآخر، العنصري البشع، يقتلع أشجار زيتوننا المعمرة، ويقتلع معها مقومات حياتنا ليبيدنا بإبادة مقومات الحياة، ويقتلع جذورنا العميقة من أرض الآباء والأجداد، مذ كان في هذه الأرض أرض الشام وفلسطين منها، آباء وأجداد.. ويعمل على أن يقتلع حضارتنا التاريخية من وطننا، وطن الآباء والأجداد منذ ما قبل الكنعانيين في التاريخ.. انظر أيها العالم إننا نزرع ويقلعون، ونبني ويهدمون، وننادي بالحق والعدل والسلام وينادون بالموت والعنصرية والعدوان والتوسع والإبادة.. وأنت تسمع وتنظر وتغضي.. وفي موقفك ذاك ذلك العار، وفيه ما يقدره العقلاء العادلون من خطر على الإنسان والحضارة، إذ يعرض الأمن والسلم لكل شر وخطر ودمار، ويدفع الإنسان المظلوم المقهور الملاحق في لقمة عيشه ومقومات وجوده وأمن نفسه وأطفاله إلى خوض غمار الموت طلباً للحياة التي جوهرها عدل وحرية وأمن من جوع وخوف.

نحن اليوم  نزرع الزيتون في الأرض تذكيراً بيوم الأرض الذي سجلنا حروفه بدم الشهداء أهل الأرض المباركة، ونريده توسعة في العيش على من يطلب أرضٍه ليعيش فيها بأمن وكرامة.. ونأمل أن يكون يوم الأرض هذا العام محركاً لأعمق مشاعر الارتباط بالأرض والانتماء للأمة العربية، ومحركاً للمشاعر الخيرة.. لا نريد له أن يثمر الدموع والكلمات، بل نريد له أن يزرع الإنسان الفلسطيني صموداً وتجذراً في الأرض ومقاومة وكفاحاً مستمراً، ليبدأ مسيرة استرداد الأرض التي تحيا به ويحيا فيها، نريد ليوم الأرض أن يحرك في العرب قدرة لها ماض إذا تحركت حققت ما أرادوا.. ونريد له أن يحرق فطور الذل وأسباب الخوف، ويقطع حبال الخنوع التي شدت إلى الخيام أو البيوت أو الكراسي والعروش. فإذا أردنا أن نحيا فعلاً فلا حياة لنا إلا باندفاعة منظمة ترمي إلى حشد القوة وبذل الجهد لاستعادة الحق بقوة السلاح، وقد آن لنا أن ندرك بأننا في وضع سيء، ولا يقبل بما نحن فيه إلا الأذلان: عيرُ الحي والوتد.

 

إن يوم الأرض هو عندي يوم الإنسان، يوم العدل والحرية والإرادة، يوم العزة والكرامة.. والأرض التي نحتفي بها وبيومها ليست أرضاً مجردة في فضاء التفكير والتعبير، وليست لفظاً في اللغة، إنها فلسطين.. كل فلسطين من النهر إلى البحر، وهو يوم الجولان المحتل وبعض جنوب لبنان وبقاعه الغربي، ويوم المؤجر للصهيونية من أرض الأردن، والمتغاضَى عنه من أرض مصر.. وهو أيضاً يوم الأرض العربية التي احتلت الصهيونية فيها مصالح الشعب وإرادة حكام وقراراهم السياسي، سواء أكان ذلك بصورة مباشرة أو غير مباشرة، عن طريق حلفائها الغربيين وعلى رأسهم الولايات المتحدة الأميركية.. وهي أرض الإنسان العربي، ابنها ومالكها التاريخي الذي قدم ويقدم دمه ليحرر التراب من دنس العنصرية الصهيونية، وليمتلك الشرط الأول للحرية، إنه الفلسطيني المعذب بانتمائه وهويته وقضيته ومعيشته، المؤمن بحقه ومستقبله، إنه ذاك الذي يلاحق في عقر داره في غزة والضفة الغربية والقدس، وتنظَّم ضده برامج الترحيل والتهجين والتدجين، وبرامج الإبادة الروحية والجسدية، وتشوَّه صورة دفاعه عن نفسه ومقاومته لعدوه فتوصف" إرهاباً"، وتزور أهدافه وممارساته المشروعة في الدفاع  عن أطفاله وأرضه ومقدساته وقيمه وهويته وتاريخه، إنه ذاك المنكوب بالاستيطان واغتصاب الأرض وبأمته العربية وسياسته وبجزء من شعبه، وبسلطات تتحدث إلى العالم باسمه وتنفذ في الداخل ما لا تقدر على مقاومته من خطط العدو، وتشكو ولا تملك إلا أن تشكو.. من احتلال الإرادة في الأعماق.

الأرض والإنسان عنوان لقضية واحدة، والشهادة والإرادة عنوان لأداة فاعلة، وهذان العنوانان نوحد بينهما اليوم ونحن نواجه مرحلة مستجدة من مراحل الصراع الذي ينبغي أن يبقى كما كان صراعاً عربياً صهيونياً، وهو صراع قام أصلاً من أجل الأرض والدفاع عن الوجود بوجه استعمار استيطاني يستهدف الأرض والوجود، أنه في جوهره وحقيقته ومآله: "صراع وجود مع وجود وليس نزاعاً على حدود.".. ولا يمكننا نحن الذين التقينا في بيادر المأساة الفلسطينية منذ عام 1948 على الأقل إلا أن ننظر إليه على أنه كذلك، لأنه يمسنا من الداخل وكوننا من الداخل، ونشأنا عليه وخضنا غماره، وسكبنا الدم والدموع على جذوره، وأصبحنا ينطبق علينا قول الشاعر العربي:

ولكن فطام النفس أثقل محملاً   من الصخرة الصماء حين ترومها

فاسمحوا لنا بأن نحلم، ونتعلق بالمستقبل، وأن نرفض انهزام الأعماق بعد انهزام إرادات وسياسات أو بسببها، وبأن ننظر إلى التاريخ على أنه لم ينته ولن ينتهيَ، فالتاريخ تكتبه الشعوب، وكل شعب يكتب صفحاته بنضاله ووعيه وإيمانه وانتمائه ومعرفته وجهده في الحياة.. واسمحوا لنا بأن نقول بعدم هزيمة الثقافة العربية الأصيلة، والمثقفين العرب المنتمين لأمتهم وتاريخهم وعقيدتهم الذين يديرون بوعي وإرادة شيئاً في عجلة التاريخ ـ على الرغم من وجود منهزمين في صفوفهم، ووجود مثقفين للناتو وآخرين دعاة لواقعية انهزامية واستسلام مذل بين ظهرانيهم، وقطريين ضيقي النظرة قدموا الخاص على العام بشأن الأمة وقضاياها المصيرية ـ  واسمحوا لنا بأن نبقى على حسن ظننا بقدرة الثقافة على المواجهة وعلى المساهمة في إعادة تكوين الإنسان على أسس مغايرة للتهافت الحالي.. وبأن نحلم ونؤمن ونعمل في ظل رؤية مغايرة للسائد البائس، وبخطاب ثقافي جديد، يعلي شأن العروبة والإيمان معاً، ويؤمن بأن فلسطين كل فلسطين هي لشعبها وأمتها، وأنها مزارع زيتون مبارك في أرض مباركة، ومصابيح سلام في أرض المحب  والسلام، لا يثمر ولا يضيء زيته إلا  بعد تحرير الأرض وتطهيرها من دنس الاحتلال، وقهر العنصريين، أعداء الإنسانية والمحبة والسلام.