خبر اعتذار أوروبي من « فرانكشتاين ».. ماهر رجا

الساعة 12:03 م|29 مارس 2012

في لقاء تلفزيوني ، يسأل الصحفي جنرالا  سابقاً ممن يطلق عليهم اسم جيل القادة في إسرائيل ، عن الضحايا من الفلسطينيين الذين تحصدهم آلة الحرب الإسرائيلية.. يقول له: انتم الناجون من المحرقة النازية كيف لا ترون أنكم من يصنع اليوم محرقة الفلسطينيين؟

 

ينقلب المشهد هنا. ويبدو وكأن اللقاء الصحفي سيتحول إلى مواجهة بالأيدي حين يرد العسكري الإسرائيلي بفظاظة وتنمر: كيف تسمح لنفسك؟!،  اسحب هذه العبارة فوراً. المحرقة اليهودية لا تشبه أي أمر آخر على الإطلاق... يبتسم المذيع لكن ابتسامته تأتي باهتة حين يردف ضيفه: قلت لك اسحب ما تفوهت به الآن.

 

وينتهي الأمر بأن يشعر الجنرال بأنه فرض ما يريد فيما المذيع يتعجل أن ينتهي المشهد بأي طريقة.

 

لا مفاجآت هنا في هذا المشهد المتكرر للرواية على الطريقة الصهيونية، ويمكن للمرء أن يفترض لذلك الإسرائيلي الغاضب من "الاعتداء" المجازي على المحرقة اليهودية،  ما شاء من أسماء قادة الحرب والسياسة في تل أبيب دون يكون قد أخطأ الهدف.. لكن المفارقة المزمنة أن هذا الاحتفاظ بمهنة الضحية، مرخص في الغرب، محمي بالقوانين والملاحقات لمن يخالف، مرسخ في النتاج الأدبي والسياسي منذ عقود، ظاهر الملامح في التوجهات السياسية وحساباتها، ومعزز أحيانا بتصورات دينية لم تستطع كل ثورات التحديث وأقانيم العولمة والأنوار انتزاعها من مزارع الأفكار في أوروبا وأميركا.

 

وعلى نحو ما، يبدو أن وزيرة خارجية الاتحاد الأوروبي كاثرين أشتون ارتكبت "خطيئة" مماثلة بحق الأسطورة اليهودية على غرار ذلك  الصحفي، فسارعت إلى طلب المغفرة من آلهة الرواية الصهيونية في تل أبيب لمجرد تشبيهها ضحايا يهوداً في حادثة "تولوز" الفرنسية بالضحايا الفلسطينيين الأطفال في غزة.. قالت آشتون إن أقوالها اقتطعت من السياق، وإنها تعتذر إن كانت تلك الأقوال قد ألحقت الأذى باليهود. وبالنتيجة حصل الصهاينة الذين "هزهم" التشبيه في الكيان الصهيوني وخارجه، على تأكيد للاعتراف الغربي المزمن:  لا أحد يشبه أجمل ضحية في العالم: "اليهود".

 

ثمة كلمة واحدة لوصف موقف أشتون ببلاغة كافية  هي "العار".. فهنا يواصل الغرب ممارسة حريته في التخلي المطلق عن إرادته الحرة أمام سطوة مفاهيم معاقة قيمياً وفكرياً وسلوكياً، وهو لا يكتفي بأنه منح إسرائيل والصهيونية وكل متعلقاتهما بوجه عام، مكانة "التابو" العالمي المتمتع بحصانة المثيولوجيا والسماء خارج المساءلة البشرية أو الانتقاد، وإنما يعتذر أيضاً عن "خطأ المجاز" في استخدام صفات الضحية اليهودية للإشارة إلى الآخرين دولاً وشعوباً.. وبكلمات أخرى فإن سفيرة السياسة الخارجية للاتحاد الأوربي التي تمثل التوجه الأوروبي للعلاقة مع العالم، وتحرص على تغليف التصريحات والمواقف الأوربية بمظهر حضاري، وتطيل الحديث عن حقوق الإنسان هنا وهناك، كانت باعتذارها تؤكد أن أوروبا مازالت معتقلة في صفحات التلمود فكراً وسياسات، عاجزة عن مغادرة أزمان من الاستلاب الكامل لعقدة الذنب اليهودية، بل للتصورات والتعاليم والخرافات التي تصنف البشرية بين يهود وأغيار.. المفاهيم العنصرية العفنة التي يبدو أن الغرب الاستعماري يواصل وضعها في منزلة "الميثاق العظيم" مع أن الرائحة الكريهة قد احتلت أرجاء "ديموقراطياته" ومحافلها، ومنها انبعثت هذه الفظاعة المستسلمة لدعوة "تجنيس القتل" وفرز الضحايا تبعاً لهوية القتيل، ما بين ضحايا نخب اول وآخرين من مواصفات أدنى.

 

ألقت أشتون باعتذارها وانصرفت ، فلم يبق من الحدث إلا  هذا التواطؤ مع الانتساب الإلهي للضحية والذي يبقيها مختلفة وسامية.. لا يموت اليهود كالآخرين في المنطقة أو العالم، لا يولدون كالآخرين، لا يقاتلون كالآخرين لا يحتلون كسواهم من المحتلين، لا تسمى الضحايا لديهم كضحايا الآخرين.. ذلك كان بالأمس البعيد أيضاً، الأباطيل والثقافة السياسة ذاتها التي جعلت الغرب يردد وراء بن غوريون عبارته الشهيرة :"ليس هناك لاجئون عرب أو ضحايا.. هناك مقاتلون سعوا إلى قتلنا وتدميرنا جذراً وفرعاً"، ويومها – زمن الفاجعة الفلسطينية -  كان الغرب ينخرط في إنشاد جماعي لـ"الهاتكفا"الصهيونية، ويبكي على الضحية التي فرض عليها "البرابرة العرب" الحرب الشاملة..

 

 وحين اتضح أن تلك الضحية الافتراضية ، تغادر التابوت الافتراضي أيضاً كي تقتل المزيد وتوسع موائد الدم والمجزرة، قام العقل الغربي الاستعماري، بعملية احتيال لغوية وسياسية مريعة استمرت منذ ما بعد الحرب العالمية الثانية.. بين مفردات تلك العملية كان التلمود حاضراً، فحروب إسرائيل هي حروب الملائكة التي تقتل وتحتل وتنتصر بالمعجزات الرحيمة لأنها لمسة الله الحاسمة على الشعب المختار .

 

بالمقابل وعلى وقع هذا العرس البربري، لم يدون سجل الجرائم الصهيونية إشارة غربية حمراء حقيقية، ولا حتى علامة استفهام واحدة.. لم تكن هناك نكبة، لم يكن ثمة شعب في فلسطين لأن البلاد كانت مسكونة بالأشباح. وفي مواطن الأشباح لا مجازر ولا ضحايا يحملون اسم تلك الأرض، لا حرائق ولا أشلاء ولا ملامح أطفال ممزقة.. ليس هناك حيث تمر آلة القتل الإسرائيلية دم حقيقي، والحرائق التي تبدو ليست سوى سراب، الدمار صنعة الوهم، والجراح أوشام، والجثث دمى مخادعة. وحتى حين تكون الضحية مشهرة الملامح والجريمة صريحة، كانت الرواية الغربية تواصل ذبح الحقيقة، (هكذا مثلاً وجد محررو أخبار قنوات تلفزيونية غربية أنه ليس من المناسب لسياق حكاية الاضطهاد اليهودي أن يكون الطفل محمد الدرة فلسطينياً، فعرضوا شريط الجريمة مع تعليق مفجع عن الطفل اليهودي الذي يحتمي بظهر أبيه من رصاص الفلسطينيين!).

 

بين التصاغر والتآمر ألقت أشتون باعتذارها وانصرفت، ففتحت النص على الماضي والحاضر: تصاغر حيال الرواية اليهودية الشوهاء حيث القزمية وغياب الوزن السياسي لكيانات تفاخر بحضورها الدولي ماضياً وحاضراً،  وتآمر يبدأ منذ أن سقط اليهود عن فرس الحرب الثانية، فهرع المستعمرون لرفعهم ووضعهم صوراً على رايات النصر وإيقونات لا تمس .. ورغم أن العالم كان حينها يحصي قتلاه بعشرات الملايين إلا أن المنتصرين اعتبروا أن هناك ضحايا أهم من سواهم.. ثم كافؤوهم على حسابنا، ببيت شاسع الامتداد على المتوسط هو فلسطين.

 

لكن صناعة الوحش ليست بالمهنة الآمنة، وذلك على الأرجح ما سيرافق موقف  الغرب من الاسطورة اليهودية الصهيونية لزمن قادم.. فالأمر يشبه  إلى حد بعيد مأزق الطبيب فرانكشتاين في الرواية الشهيرة للكاتبة الانكليزية ماري شيلي..إذ صنع  ذلك الطبيب مسخاً ضارياً ، ثم كان عليه أن يواجه الكارثة: لقد وجد نفسه أولى فرائس ذلك الوحش.