خبر إسرائيل « اليوم »../ علي جرادات

الساعة 04:56 م|23 مارس 2012

   ليس أنا، بل نخبة إسرائيل الثقافية، من يقطع بأن إسرائيل "اليوم" هي ليست ذاتها إسرائيل "الأمس"، فما بالك أن تكون هي ذاتها إسرائيل "أول من أمس"، سواء لجهة علاقة المتَدَيِّن الأصولي المُتزمت، (الحريدي)، بالعلماني المتفتِّح "الديمقراطي"، حيث ترجح كفة الأول، وينزاح الثاني بتدرج متسارع إلى خانة الهامشي، في السياسة والمجتمع، وفي المؤسسة العسكرية أيضاً، ما يهدد بفرط عقد إسرائيل "يهودية ديمقراطية"، كما شاء لها مؤسسوها، بقيادة بن غوريون، أن تكون، ناسين أو متناسين أن جمع "اليهودية" بـ"الديمقراطية"، هو جمْعٌ لمتناقضين، لا يكون إلا مؤقتاً وانتقالياً، وينطوي على صراع محتوم، لا بد ويُحْسَم لمصلحة أحد طرفيه، تقدم الأمر أم تأخر، اللهم إلا إذا كان متاحاً في التاريخ الذي لا يعرف إلا النسبي من السكون، جمعاً أبدياً بين "الإقطاعي" و"الرأسمالي"، اقتصادياً واجتماعياً ومجتمعياً وثقافياً.

 

   أو لجهة علاقة السياسي بالمدني من المجتمع الإسرائيلي، حيث أدى اقتصاد "الليبرالية الجديدة"، ("الخنزيرية")، إلى انفلات سياسة السوق الحرة من عقالها، وبالتالي إلى ما تعيشه إسرائيل من احتقانات مجتمعية متعددة الوجوه، تجلت في موجات احتجاج مجتمعي غير مسبوقة، تهدد تماسك إسرائيل الداخلي كما شاء له مؤسسوها أن يكون، حين توسدوا سياسة تضمن الحد الأدنى من العدالة، ليس بسبب قناعة أصيلة راسخة بقيم الحرية والمساواة والعدالة، بل، بدافع استعمالها، والإفادة منها، في تنفيذ مشروعهم الاستعماري الاستيطاني الابتلاعي الاقتلاعي، متناسين أنهم ما داموا كذلك، فإن التاريخ لا بد ويضع تماسك وليدهم المجتمعي، تقدم الأمر أم تأخر، في مواجهة تبعات "إن شعباً يضطهد شعباً آخر لا يمكن له نفسه أن يكون حراً"، ما يحيل إلى حقيقة أن التحرر، بمعناه الشامل والواسع والعميق،(emancipation)، لا يعني، ولا يكون، بنيل ("الحرية من") مضطَّهِدٍ "خارجي" فقط، بل، أيضاً وأولاً وأساساً بسيرِ ("الحرية إلى") عدم اضطهاد الآخر.  

 

   أو لجهة علاقة المواطن الإسرائيلي بقادته، بعد أن لم يعودوا أولئك العقائديين المحترفين "الزاهدين" المنخرطين بكامل جماع الشخصية في الهم العام، دون أن تحوم حولهم شبهة الرشوة والارتشاء والفساد والإفساد واستغلال المنصب، بل صار من النادر أن تعثر بين قادة إسرائيل "اليوم" على قائدٍ من هذا الطراز، حيث غرق أكثرهم في هذا النوع أو ذاك من ألوان الانحطاط الأخلاقي، بدءاً من رؤساء دولة ومجلس وزراء وأحزاب وكتل برلمانية ووزارات، مروراً بوزراء دفاع ورؤساء هيئة أركان وألوية جيش وأجهزة أمنية، وصولاً إلى مَن يتولون مناصب أخرى عليا أو متوسطة أو متدنية، بأنواعها، مع كل ما يعنيه ذلك من فقدان للثقة وغيابٍ لنماذج قوة المثل الطليعي. ويسألون بعد كل هذا عن سر استشراء ظواهر الجريمة والفساد والتحايل والسرقات في أوساط المجتمع الإسرائيلي وجنباته، وكأن لا معنى لمأثور القول: "إذا كان ربُّ البيت للدف ضارباً، فإن شيمة أهل البيت هي الرقص".

 

   أو لجهة الجوهر الفارق لإسرائيل، أعني احتراف الحروب، حيث لم يعد بمقدور القيادات الإسرائيلية إبقاء جبهتهم الداخلية بمنأى عن مسرح ما تشنه من حروب واعتداءات، وما أكثرها قياساً بقصر عمر دولتهم، ولعل هذا أحد، وليس كل، أسباب تهيب هذه القيادات وترددها وتأنيها وعدُّها للعشرة قبل الإقدام على شنِّ حرب شاملة وواسعة، سيما ضد أطراف تمتلك قدرات صاروخية هائلة ونوعية، ما يعني أن قيادة إسرائيل "اليوم" مسكونة بمخاوف مقولة بن غوريون: "إسرائيل لا تتحمل هزيمة واحدة"، ما جعل مبدأ "نقل المعركة إلى أرض العدو" إستراتيجية إسرائيلية حربية ثابتة، مع تناسي أن حركة التاريخ غير قابلة للحشر في "الآن" و"هنا"، وأن للقوة العسكرية، (مهما عَظُمَت)، حدودا، اللهم إلا كان عبثاً القول: إن لغة السياسة الناعمة هي قائد لغتها العنيفة، الحرب، وليس العكس.

 

   على أية حال، هذا تشخيص مقتضب لحال إسرائيل "اليوم" قياساً بما كانت عليه على أكثر من مستوى، لكن الأهم هنا، إنما يكمن في كيفية التوظيف السياسي لهذا التشخيص مِن قِبَلِ كلِّ متصدٍ لعدوانية نظام إسرائيل وتوسعيته، ويريد إزاحته من قوقعة احتراف الحروب إلى خانة القبول بالتسويات السياسية، التي لن تبلغها قيادة إسرائيل بمحض إرادتها، برغم ما طرأ على قوة ردعها من تراجع، بات واضحاً ومحسوماً، حتى، وإن كان ثمة جدل حول مقداره وقدْرِه، ما يؤكد ويبرهن على أن:

 

   الدول بالأفراد أشبه عندما تُواجِهُ تحديات إستراتيجية فعلية ينكشف طابق مُضخَّم قوتها، نظاماً وبرنامجاً وقيادة. هذه مقاربة تسري على الدول كافة، وأظن، (وليس كل الظن إثماً)، أنها لا تسري على إسرائيل "اليوم" فحسب، بل وتسري عليها قبل وأكثر من غيرها. لكن الظن هنا يواجَهُ، بصدقٍ، (أحياناً)، وبتربصٍ، (أحياناً)، بسؤال إمكان انطوائه، (الظن)، على خيال مفرط، يقفز برغبات الذات عما لدى إسرائيل "اليوم" من قوة فعلية، وينسى ما برهنت عليه دروس انتصاراتها، والكبير المبهر منها تحديداً.

 

  سؤال وجيه، لكن، ولكي تكون إثارته تعبيراً عن جدية، وليس تبريراً لخنوع باسم التحذير من المغامرة، فإن البحث عن إجابته يجب ألا يبدأ من دون وعي دلالات حقيقة أن إسرائيل "اليوم" هي ليست إسرائيل "الأمس"، من جهة، أو من دون وعي أن نسبة من قوة إسرائيل"الأمس"، قد جاءتها، (بالنتيجة وبشكل غير مباشر)، جراء عجز وعدم جدية كثر ممن تصدوا لها، من جهة ثانية، أو من دون وعي أن نسبة من قوة إسرائيل "الأمس" و"اليوم" هي خارجية، قدمها، وما زال يقدمها لها، (بسخاء وشمولية)، حلفاء "غربيون"، هم، وإن كانوا ليسوا أي حلفاء، إلا أن قبضة سيطرتهم المنفردة على العالم بعامة، وعلى المنطقة بخاصة، آخذة بالتراخي، ما يشي بميلاد نظام دولي جديد، متعدد الأقطاب، باتت ملامحه الأولية بادية، من جهة ثالثة.     

 

   قصارى القول: إسرائيل "اليوم" ليست هي ذاتها إسرائيل "الأمس" بأكثر من معيار. هذه مقاربة تقود المبالغة فيها إلى المغامرة، ويقود إغفالها وكأنها محض خيال إلى الخنوع، فقوة الردع الإسرائيلية "اليوم"، وإن لم تصل منزلة "كلب ينبح ولا يعُض"، إلا أنها لم تعد في منزلة "أسد معافى ما أن يزأر حتى يهاجم ويفترس". إنها في منزلة بين المنزلتين، وعلى جدية المتصدين لعدوانيتها وتوسعيتها، يتوقف كثير من شروط حسم ملامح مستقبلها.