خبر الجهاد لأبو جهاد.. يديعوت

الساعة 10:44 ص|23 مارس 2012

ترجمة خاصة

الجهاد لأبو جهاد.. يديعوت

بقلم: غونين بيرغمان

(المضمون: وصف لمسار التدبير لاغتيال أبو جهاد بعد الاشارة اليه باعتباره هدفا للاغتيال بوقت طويل ويُعد ذلك أطول مطاردة في تاريخ الاستخبارات الاسرائيلية - المصدر).

استدعت شركة امريكية كبيرة لانتاج الأفلام السينمائية في المدة الاخيرة سيناريو عن قضية اغتيال الارهابي الفلسطيني الكبير أبو جهاد. يتبين أنه بعد نحو من ربع قرن من هذه العملية الجريئة ما تزال تلهب خيال الامريكيين. وفي الايام بعد تصفية الحساب مع اسامة ابن لادن، (وهي عملية في طريقها ايضا الى ان تصبح فيلما سينمائيا) فهموا في صناعة الترفيه ان المشاهدين متعطشين الى رؤية "كيف تعمل في الحقيقة مسألة الاغتيالات". ان شيئا ما في هذه القصة – لوحدة كوماندو اسرائيلية تنقض في قوارب مطاطية على شواطيء تونس على مبعدة 2300 كم عن اسرائيل وتدخل قلب منطقة معادية الى البيت الشخصي لأبو جهاد وتغتاله وتغيب عن الأنظار من غير ان تترك أثرا يجعلها مادة هولوودية فاخرة.

لم تُنكر اسرائيل الرسمية ولم تُصادق قط على عملية التصفية. ومرة واحدة فقط ذكّر اريئيل شارون في خطبة علنية في 2003 بافتخار ان وحدات مظليين اسرائيليين كانت هي التي اجتثت المخطط الدموي الذي انشأه هذا الرجل. وعلى كل حال فانه في السيناريو الامريكي الذي يختلط فيه الخيال والواقع يوجد مشهد يثير الاهتمام يبدو على النحو التالي:

قبل وقت ما من العملية جمع نائب رئيس هيئة الاركان في ذلك الوقت، اهود باراك – الذي أشرف بحسب مصادر اجنبية على العملية من سفينة حاملة للصواريخ قبالة ساحل تونس – جمع جلسة اعداد في الكرياه. وعرض عليه رجال الاستخبارات ما يسمى "مكات" (نموذجا مصغرا) للمنطقة التي يسكنها أبو جهاد يشتمل على المباني المحيطة. وفجأة أشار باراك الى المبنى بازاء بيت أبو جهاد وسأل: "من يسكن هنا؟".

فأجاب رجال الاستخبارات: "أبو الهول المسؤول عن الامن الداخلي في منظمة التحرير الفلسطينية".

"ومن يسكن هنا؟"، سأل باراك مشيرا الى البيت المجاور للبيت الهدف وإن لم يكن ملاصقا له.

"محمود عباس"، أجاب رجال الموساد، "أبو مازن". اذا كان أبو جهاد في ذلك الوقت "وزير الدفاع" لمنظمة التحرير الفلسطينية، فقد كان أبو مازن "وزير الخارجية" المسؤول عن علاقات المنظمة بدول العالم.

"هذا قريب كثيرا"، قال باراك مفكرا. "لماذا لا نزوره زيارة منزلية؟ ومع كل ذلك فان كل هذه الأرمادة الضخمة ستصل الى تونس. عصفوران بحجر".

"يا اهود"، يتدخل بحسب السيناريو واحد من كبار مسؤولي الموساد "دع هذا. فهذا سيعقد العملية فقط التي هي معقدة جدا أصلا".

يصف السيناريو نقاشا قصيرا أو جدلا لمزيد الدقة. وقد أصر باراك على انتهاز الفرصة وتصفية الحساب مع هدفين على التوازي. فهذه الاصابة، يقول باراك في السيناريو ستؤدي الى خفض الروح المعنوية كثيرا لمنظمة التحرير الفلسطينية وقد تؤدي الى تبريد الانتفاضة الاولى التي هاجت في المناطق آنذاك. وعارض رجال الموساد و"أمان" ذلك بشدة. "لا نستطيع ان نضمن وجود الهدفين في البيت في الوقت نفسه"، زعموا. "أنت القائد، لكننا نوصي بالبقاء مع أبو جهاد فقط. اذا نجحنا في تصفية الحساب التاريخي معه فهذا يكفينا".

وفي نهاية الامر اذا كانت اسرائيل قد شاركت في العملية فعلا فانه يتبين في امتحان النتيجة ان باراك لم يأمر بتوسيع الخطة لتشمل هدفين وإن يكن ذلك لاسباب عملياتية فقط. وهكذا وبحسب السيناريو نجا من سيصبح بعد ذلك رئيس السلطة الفلسطينية، أبو مازن.

بالمناسبة وبالفعل كان أبو مازن وعائلته في الدقائق الاولى التي تلت عملية الاغتيال أول من سمعوا حقا بما وقع في البيت قربهم. رأت حنان، ابنة أبو جهاد المذعورة، جثة والدها التي ثقبها الرصاص – فالمغتالون لم يخاطروا وأطلقوا عليه ما لا يقل عن 52 رصاصة – وحاولت ان تطلب مساعدة. كان  خط الهاتف صامتا وخرجت لتقرع باب عائلة أبو مازن المجاورة. وينبغي ان نفترض ان رئيس السلطة يعي جيدا في ذاكرته أحداث تلك الليلة.

لا تلهب عملية اغتيال أبو جهاد خيال كُتاب السيناريو من هولوود فقط. فقليلا قليلا في بقية العالم ايضا تُجمع مواد عن هذه العملية المعقدة. فهنا تقرير تحقيق داخلي في م.ت.ف أو تقارير عن شرطة تونس؛ وهناك تفصيل آخر نشر في البلاد أو تحقيق صحفي اجنبي متحرر من قيود الرقابة. وقد أصبح ممكنا اليوم ان نرسم بقدر عال جدا من التفصيل كيف تمت أطول مطاردة في تاريخ الاستخبارات الاسرائيلية: لدينا هنا ملف "عرض هدف" – بعد اغتيال أبو جهاد بربع قرن.

أهلا وسهلا أنا ياسر

يبدو انه لا يوجد انسان حتى ولا ياسر عرفات تمثل حياته الشخصية التاريخ الفلسطيني والصراع مع اليهود في ارض اسرائيل أفضل من أبو جهاد.

ولد الرجل الذي سيصبح بعد ذلك أقدر وأذكى من كل مسؤولي م.ت.ف الكبار – والمسؤول عن موت اسرائيليين كثيرين – في 1935 في الرملة ايام الانتداب البريطاني. وقد سُجل في شهادة ميلاده اسمه الأصلي: خليل الوزير.

في تموز 1948 حينما احتلت الرملة انتقلت عائلة الوزير (أو طُردت، ويتعلق هذا بمن تسألون) الى غزة التي كانت آنذاك تحت سيطرة مصرية. وقد تدفق على شوارع غزة شباب من اللد وحيفا ويافا وعكا مصممين على مواصلة محاربة العدو اليهودي. وقد تجول الفتى الشاب ابن الثالثة عشرة معهم، وتعلم كل ما أمكن من تجربتهم العسكرية. وحينما بلغ الثامنة عشرة ترأس مجموعة من نحو من 200 شاب كانوا مستعدين لبذل أرواحهم في المعركة مع الصهاينة. وأسموا أنفسهم "لواء الحق الفلسطيني".

منذ 1952 بدأ رجال الوزير يتسللون الى البلاد لتنفيذ عمليات تخريب مختلفة، ولم يكونوا وحدهم. وفي اسرائيل شملوا جميع هذه التنظيمات تحت عنوان واحد هو "الفدائيون". ان الاستخبارات الاسرائيلية – التي لم ترَ الفلسطينيين شعبا قط – نسبت هذه العمليات الى تدبير المصريين. ولم يكن هذا آخر اخفاق استخباري في مطاردة أبو جهاد.

في 1955 بلغ القطاع طالب جامعي شاب لهندسة الكهرباء من جامعة القاهرة بقصد تنظيم مقاومة لاسرائيل. وقد أسموه محمد عبد الرؤوف القدوة الحسيني، أو باسمه المختصر: ياسر عرفات. وسيلتقي الطالب عرفات بعد ذلك في غزة مع الوزير ويتأثر به تأثرا عميقا باعتباره واحدا من القادة الجريئين من شباب غزة. كانت تلك هي الايام التي اتخذ فيها الوزير لنفسه كنية لا تُفهم على وجهين: أبو جهاد، أي "أبو الحرب المقدسة".

ان الصداقة الحميمة بين عرفات وأبو جهاد التي نشأت هناك في غزة في منتصف الخمسينيات ستكلف اسرائيل بعد ذلك – والفلسطينيين ايضا – أنهارا من الدم.

رسالة من "يوليسيس"

واصل عرفات وأبو جهاد تنفيذ عمليات تسلل الى داخل اسرائيل، لكن في 1956 بعد عملية "كديش" استقر رأي المصريين المهزومين على عدم تمكين تنفيذ عمليات فدائيين من داخل القطاع بعد ذلك. وقرر عرفات وأبو جهاد غاضبين خائبي الآمال ان حل المشكلة الفلسطينية لا يمكن ان يأتي إلا من الفلسطينيين أنفسهم من غير تعلق بأية دولة عربية. "آمنا بأن الواقع العربي الحالي لن يُمكّن حتى من انشاء منظمة فلسطينية"، قال أبو جهاد في الماضي، "لم يكن اذا أي خيار سوى العمل السري وتبني السرية المطلقة الى ان نستطيع ان نفرض أنفسنا على ذلك الواقع وان نُجبره على الاعتراف بنا". وتبين بعد ذلك ان فتح ولدت بسبب عملية سيناء.

انتقل عرفات وأبو جهاد واربعة آخرون من رفاقهما الى الكويت. واستقر رأيهم هناك قُبيل نهاية 1958 على اسم الاطار الجديد: "حركة تحرير فلسطين". ولم تُستسغ الكلمة المؤلفة من الحروف الاولى لاسم الحركة "حتف" لأنها تعني الموت السريع. ولهذا اقترح أبو جهاد الذي كان ذا حساسية زائدة للامور الرمزية تحويل الكلمة الى فتح وهي كلمة تعني "النصر المجيد"، وهو الذي سن ايضا مبدأ فتح المركزي وهو مبدأ "الكفاح المسلح".

أخذت المنظمة الجديدة تحشد الاعضاء والقوة، لكن عرفات وأبو جهاد لم يدخلا بعد شاشات الاستخبارات الاسرائيلية. يقول اهارون ليبران، الذي كان في الماضي مسؤولا كبيرا في "أمان": "يمكن ان نقول على العموم ان الجالية الفلسطينية لم تعننا في الحقيقة. فهي لم تكن عاملا مؤثرا ما لم ترفع راية الارهاب".

خرج أبو جهاد بلا عائق الى الصين وكوريا الشمالية وأتم دورات استكمال متقدمة في الارهاب. وفي خلال ذلك تزوج طالبة الجامعة انتصار (أم جهاد). وستصبح في المستقبل رمزا لنساء فلسطين ووزيرة في حكومة السلطة.

بدأت الأنباء الاولى عن فتح تصل الى اسرائيل خلال سنة 1964 فقط وبالصدفة. ومصدرها وحدة سرية جدا تسمى "يوليسيس"، أُنشئت في 1950 في "الشباك" وغرست 15 مجندا يهوديا من المهاجرين من الدول العربية، في تجمعات لاجئين فلسطينيين. وكان اثنان من رجال "يوليسيس" هما اللذان أبلغا عن انشاء فتح ونشاط عرفات وأبو جهاد المتشعب، وهكذا أُضيء مصباح التحذير في الاستخبارات الاسرائيلية آخر الامر، لكن هذا كان متأخرا كثيرا، وقد كانت فتح قد أصبحت حية وستبدأ بعد ذلك بقليل الركل ايضا.

برغم تأخر التعرف على عرفات وأبو جهاد باعتبارهما قوة ارهابية صاعدة، أُثيرت في آب 1964 فكرة اغتيالهما. فقد توجه رافي ايتان، الذي كان آنذاك رئيس بعثة الموساد في باريس الى رئيس الموساد مئير عميت وطلب موافقته على خطة اغتيال اثناء مؤتمر طلاب جامعات فلسطينيين في المانيا الغربية. "يا مئير يجب قتل هذا المارد وهو صغير"، كتب ايتان، لكن لم يتم الحصول على الموافقة. ويستعيد ايتان ذلك: "قلت تعالوا نغتال الآن عرفات وأبو جهاد ومجموعتهما. لم تكن عندي مشكلة في ذلك الوقت في قتله حيثما كان. لم تكن أية مشكلة لو شئت ولو منحوني الموافقة. لو أنهم أصغوا إلي آنذاك لاستطعت ان أوفر علينا كثيرا من الألم والأسى".

في الاول من كانون الثاني 1965 أدركوا في الموساد ان اضاعة تلك الفرصة كانت خطأ، فقد كان هذا هو التاريخ الذي نفذت فيه فتح أول عملياتها وهي ثمرة تخطيط أبو جهاد وكانت محاولة الاضرار بقناة المشروع القطري. وفشلت العملية، لكن مجرد حقيقة ان منظمة فلسطينية مستقلة أجرت عملية كهذه أثارت انتباها في "أمان" التي بدأت جمع تفصيلات اخرى عن المنظمة الجديدة. كان اهارون ليبران آنذاك ضابطا شابا في قسم جمع المعلومات في "أمان": "بدأت تأتي فجأة معلومات عن زبون اسمه عرفات وزبون ثان اسمه الوزير. لم نفهم في البداية في الحقيقة ما الذي يحدث هناك، فقد كانت المعلومات غامضة وكانت العمليات مضحكة، لكن ما تلا ذلك كان أكثر جدية. وحينما بدأت عمليات أثقل فكرنا بأنه يجب القضاء على هذا الامر وهو ما يزال في مهده، وأنه يجب انهاؤه وهو صغير".

في منتصف 1965 أُنشيء في الجماعة الاستخبارية لجنة سرية فيها ثلاثة اعضاء للفحص عن طرق لمواجهة الارهاب الفلسطيني، وهذه اللجنة هي الصيغة الاولى مما اشتهر بعد ذلك باسم "لجنة ايكس" السرية للموافقة على عمليات الاغتيال. وقد حددت اللجنة هدفين مركزيين للاغتيال هما ياسر عرفات وأبو جهاد. وكان هذا من جهة رسمية بدء مطاردة "عرض الهدف".

بدأت المحاولات الاولى للاغتيال. وكان عرفات وأبو جهاد آنذاك في دمشق، وجندت الوحدة 504 من "أمان" (وأساس مهامها تجنيد العملاء واستعمالهم)، جندت عميلا ليفخخ سيارتهما. وفشلت الخطة لاسباب تنفيذية مختلفة.

بعد ذلك بوقت قصير تغيرت معاملة السلطة السورية لعرفات وأبو جهاد وزُج بهما في السجن بذريعة التدخل في السياسة الداخلية. وخططت اسرائيل لتجنيد عدد من الجُناة المحليين ليغتالوهما في زنزانتهما، وأُسقطت هذه الفكرة ايضا.

في السجن السوري وصل الى أبو جهاد نذير شديد الوقع وهو ان ابنه، ابن السنتين، نضال سقط من نافذة البيت الذي سكنه ومات. وهناك من يعتقدون ان يد الاستخبارات السورية قد فعلت ذلك.

قنابل للأسقف

غيرت حرب الايام الستة كل شيء. وكان أبو جهاد أول من أنعش نفسه من الهزيمة المذلة التي أصابت العالم العربي. ففي 13 حزيران 1967 بعد ثلاثة ايام من خمود المعارك، دعا الى لقاء للقيادة العليا من فتح وأعلمهم انه ينبغي اطلاق الكفاح المسلح فورا من جديد، وهذه المرة من الاراضي التي احتلتها اسرائيل الآن.

وفي نهاية آب انشأ عرفات (الذي كان قد أصبح قائد م.ت.ف) قيادة سرية في رام الله، وتنقل أبو جهاد بين المناطق وعمان. ولاحظت اسرائيل انشاء هذه الخلايا لكن الاثنين نجحا في الهرب مرة بعد اخرى من اعتقال "الشباك" إياهما.

وبرغم أن اغتيال أبو جهاد تمت الموافقة عليه في لجنة ايكس في منتصف الستينيات، وافقت رئيسة الوزراء غولدا مئير رسميا على "ورقة حمراء" – أمر باغتيال مركز – في 1970. ومنذ تلك اللحظة جُمعت المادة الاستخبارية عنه في ملف سُمي "عرض هدف".

خطط الموساد لسلسلة عمليات لاغتيال "عرض هدف". وخططوا في البداية لاصابته في مكتبه في بيروت وفكروا بعد ذلك في تفخيخ سيارته لكن العمليتين فشلتا.

وفي الاثناء كان أبو جهاد قد نفذ عمليات اخرى كانت أكبرها وأشهرها في تلك الفترة العملية في فندق سافوي (6/3/1975): فقد وصلت خلية مخربين دخلت من البحر الى تل ابيب وسيطرت على فندق سافوي واحتجزت رهائن. وحتى تمت السيطرة على المبنى قُتل ثلاثة من جنود الجيش الاسرائيلي وبواب الفندق وسبعة ضيوف آخرين. وتم القضاء على سبعة مخربين وأُسر واحد حيا. وحُفظت شهادته في ملف الاستخبارات عن أبو جهاد. "أرسلنا أبو جهاد"، قال للمحققين معه في موقع الوحدة 504. "اعتقدنا أنه برغم ان اسرائيل لم تستسلم في الماضي فانها ستستجيب الآن لمطلبنا كي لا نفجر المبنى بسكانه أجمعين".

وتابع أبو جهاد طريقه الدموي، ففي الرابع من تموز 1975 تفجرت ثلاجة مملوءة بالمواد المتفجرة في ميدان صهيون في القدس. وكانت "عملية الثلاجة" من العمليات الكبرى في ذلك الوقت – سقط 15 قتيلا وعشرات الجرحى – وشملت مشاهد فظيعة تُذكر بالعمليات الانتحارية التي ستتم بعد عشرين سنة.

في نهاية 1975 أُتيح لاسرائيل فرصة ذهبية لتضرب قيادة م.ت.ف كلها ضربة شديدة ولتصفي الحساب مع من نفذوا العملية في سافوي وعملية الثلاجة: فقد كان نشطاء م.ت.ف يوشكون ان يعقدوا مؤتمرا في بيروت وعُلم ان قيادة فتح ستجتمع قبل ذلك بساعة في مكتب مجاور. وكانت تلك فرصة نادرة للقضاء على عرفات وأبو جهاد وأبو مازن وفاروق القدومي ومسؤولين كبار كثيرين آخرين بقصف واحد. وانطلقت عملية "بن حور".

وتبين في صباح العملية ان التنبؤ الجوي يتوقع غيوما متلبدة فوق بيروت. "لكن المعلومات كانت دقيقة جدا ولمرة واحدة"، يقول واحد من قادة العملية، "بحيث استقر رأينا على إتاحة الفرصة لذلك. فتلقى الطيارون أمرا بالانطلاق على أمل ان تُفتح مع ذلك نافذة في السماء. لكن الشيء الذي لم نأخذه في الحسبان هو الدافع عند الطيارين".

لم تُفتح "النافذة" وظلت سماء بيروت غائمة. وقد تلقى الطيارون أمر بعدم القصف اذا لم يروا الهدف، لكنهم فسروا الامر تفسيرا حرا كثيرا. فأجروا طلعة قصف ونزلوا تحت الغيوم، وحينما رأوا الهدف أطلقوا القذائف لكن ذلك كان على ارتفاع أخفض من ان توجه توجيها صحيحا.

وسقطت القذائف كلها مثل بيض مهجور على الارض وعلى سقف المبنى. وقُتل سائق أبو جهاد فقط الذي كان يقف خارج المبنى ويُدخن حينما سحقته قذيفة وزنها طن. بعد ذلك بيوم نشرت صحيفة لبنانية رسما كاريكاتوريا ساخرا وفيه ولد فلسطيني يقف ويتبول على قذيفة اسرائيلية.

تعززت ثقة أبو جهاد بنفسه وتابع انتاج عمليات اخرى نقشت في الوعي جيدا. ففي 11 آذار 1978، وردا على التوقيع على اتفاقات كامب ديفيد بين اسرائيل ومصر، أحدث واحدة من أشدها: فقد نزلت خلية من 11 مخربا في قوارب في منطقة مرسى – ميخائيل وخرجت في حملة قتل على طول الشارع الساحلي. وقد أطلقوا النار في كل اتجاه واستولوا على حافلتين وسيارة أجرة. وتم توقيف احدى الحافلتين المختطفتين قرب مفترق غليلوت فقط. وقُتل طوال يوم القتل هذا 35 اسرائيليا أكثرهم في الحافلة المخطوفة التي اشتهرت منذ ذلك الحين باسم "حافلة الدم"، وجرح عشرات آخرون وتم القضاء على أكثر المخربين. وقال أبو جهاد بتصريح لوسائل الاعلام صدر عنه على أثر العملية في الشارع الساحلي انها كانت برهانا "على قدرة الثورة على الوصول والعمل في كل مكان تريده".

الهدف: باب فيكتور

في رد على عملية "حافلة الدم" خرجت اسرائيل في عملية الليطاني على قواعد م.ت.ف في جنوب لبنان. وكان أبو جهاد راضيا، فقد برزت القضية الفلسطينية في برنامج العمل العالمي وفي حالات ما رد رجاله بقتال عنيد جبى ضحايا من الجيش الاسرائيلي ايضا. وكان وضعه في قيادة م.ت.ف صلبا ونُسجت حول شخصه أساطير ازدادت فقط بسبب حقيقة ان اسرائيل لم تنجح في اغتياله.

لكن كل شيء تغير في 1982.

بعد عملية الليطاني عمل أبو جهاد في الأساس بمحاولة تحويل م.ت.ف من منظمة ارهابية الى شبه جيش وطني منظم. بيد ان كل شيء انهار مع غزو لبنان، فقد فرت القيادة الفلسطينية العليا وأُلقي عبء القتال على تنظيمات محلية. ومُحيت كل آمال ان ينجح أبو جهاد في انشاء قوة ترد شيئا ما على الجيش الاسرائيلي – ولو من اجل الكرامة الوطنية. واضطرت قيادة المنظمة العليا وفيها أبو جهاد وعرفات الى الفرار الى تونس وكانت المذلة لاذعة.

انشأ أبو جهاد من جديد قيادات م.ت.ف في تونس وانتقل مع عائلته الى بيت استأجرته المنظمة على مبعدة نحو من 4 كم عن الساحل قرب أنقاض مدينة قرطاج. وتنقل هو نفسه بين الدول العربية وحاول ان يبلور من جديد المنظمة التي تلقت ضربة بالغة. وتابعت اسرائيل من جهتها مطاردة "عرض هدف"، وخرجت دورية هيئة القيادة العامة ثلاث مرات الى دول مجاورة بقصد نصب كمائن له. وفي جميع الحالات لم يتم التعرف عليه على نحو مؤكد.

وفي الاثناء كان أبو جهاد المصمم على ان يبرهن على ان م.ت.ف حية موجودة حتى في تونس، قد نفذ عمليات اخرى. بيد ان أكثر هذه العمليات فشلت، واستقر رأي أبو جهاد الشاعر بالمهانة على المبادرة الى عملية ضخمة لم يُر لها مثيل في الشرق الاوسط.

كانت الخطة ان يُبحر في قوارب مطاطية فريق كبير من المخربين من الجزائر الى شاطيء بات يام. وان يختطفوا قبل يوم من يوم ذكرى ضحايا الجيش الاسرائيلي حافلة ينقلونها الى ان تصل الكرياه في تل ابيب وان يغرقوا هناك بالنيران القاتلة باب فيكتور عند مدخل هيئة القيادة العامة وان يقتلوا ويخطفوا رهائن قدر المستطاع وان يتحصنوا معهم ويعرضوا مطالب مفرطة للافراج عن رفاقهم من السجن الاسرائيلي.

يسهل ان نتخيل ماذا كان سيكون تأثير هذه العملية في الصراع الاسرائيلي الفلسطيني. لكن الاستخبارات الاسرائيلية، وكانت يقظة جدا هذه المرة، تلقت الخطة قبل ذلك بسنة تقريبا. "كان أبو جهاد عدوا أهلا ونوعيا وذكيا وذا تصور عام مركب"، يقول عوديد راز الذي أصبح بعد ذلك نائب رئيس شعبة الحراسة في "الشباك"، وكان آنذاك من رجال "أمان". "برغم ذلك علمنا في المراحل الاولى من الاعداد انه يخطط لشيء كبير، لكننا قضمنا أظفارنا حتى آخر لحظة ولم نكن على ثقة بأن ننجح في منع العملية الضخمة التي دأب على اعدادها".

انطلقت الخلية التي كان يفترض ان تنفذ العملية، بيد انه في العشرين من نيسان 1985 فاجأتها في قناة السويس بضع سفن تحمل الصواريخ وفرق من الصاعقة البحرية. ورفض رجال م.ت.ف الاستسلام فأُغرقت السفينة وقُتل عشرون من رجال الخلية. يقول راز: "نقول بالمناسبة انه ليس واضحا حتى اليوم من أين نجح أبو جهاد في ان يزود المحاربين الذين أرسلهم بمعلومات استخبارية دقيقة جدا عما يجري في تل ابيب والكرياه. وعلى كل حال فمن الواضح انهم لم نجحوا لحدثت كارثة على قدر لم نعرفه حتى ذلك الحين".

لكن لم تنجح قوات الامن في احباط جميع العمليات. ففي 7/3/1988 نفذ أبو جهاد عملية اخرى نقشت في الذاكرة جيدا: فقد قتل ثلاثة من عمال قرية الابحاث الذرية في الطريق الى مكان عملهم فيما اشتهر باسم عملية "حافلة الأمهات" (لأن أكثر ركابها من النساء).

في تلك الايام كانت الانتفاضة الاولى قد هاجت في المناطق. وزعم أبو جهاد في مقابلة صحفية مع راديو "مونت كارلو" في كانون الثاني 1988 انه هو الذي أصدر أمر بدء الانتفاضة. وجرى تلقي هذه التصريحات التي كانت مبالغا فيها جدا بالهتاف في أنحاء العالم العربي ورسخ في الوعي ان أبو جهاد هو الذي أحدث الانتفاضة.

"كان يستحق الموت"

في مقابلة صحفية في آذار 1988 بعد ايام معدودة من عملية "حافلة الأمهات"، قال رئيس "أمان" امنون ليبكين شاحك: "ان من يستعمل الارهاب هو هدف يستحق الاغتيال. وكل من يستعمل الارهاب علينا يجب ان يكون هدفا". ويبدو ان أبو جهاد فاته ذلك العدد.

في تلك الايام حدث اختراق استخباري مكّن من جمع معلومات عن أبو جهاد. وينبغي ان نفترض ان وزير الدفاع رابين طلب عملية بسبب المعلومات الجديدة وتصريحات أبو جهاد عن الانتفاضة. وبذلت الاستخبارات وقتا وموارد ضخمة في تعقب أبو جهاد وعاداته وسفراته واتصالاته بنشطاء في البلدان العربية وفي المناطق. وكانت خطوط الهاتف في بيته وفي مكتبه، بحسب ما نشر، تحت تنصت متواصل. يقول عوديد راز: "خلال تعقب أبو جهاد، عرفت كيف أعرف وأُقدر الرجل الذي يواجهني. صحيح انه كان يستحق الموت لأن يديه كانتا ملطختين بدم عشرات الاسرائيليين إن لم نقل أكثر. ومن جهة ثانية كان قائدا حقيقيا جعل مصلحة شعبه نصب عينيه، فقد منع ابنه مثلا من الانضمام الى صفوف المنظمة وطلب اليه ان يذهب لدراسة الهندسة. وأوضح لابنه انه حينما تنشأ دولتنا فلن يحتاجوا الى ناس مثلي بل الى ناس مثلك".

لكن هذه الخواطر لم تغير التوجه العام نحو أبو جهاد، وبعد ان أُلغي أمر اغتيال عرفات، بقي هو المطلوب الاول لاسرائيل.

كان القرار الذي تم اتخاذه هو العمل على مواجهة أبو جهاد بصورة مركزة، أي لا بواسطة قصف من الجو أو صاروخ من مكان بعيد، وكان ذلك سببان، الاول الخوف من اصابة أبرياء في الوقت الذي كانت فيه صورة اسرائيل – الغارقة في الانتفاضة عميقا – في مشكلة؛ وكان الثاني احداث ردع يُبين أننا سنصل الى كل واحد منكم بشخصه الى البيت. "للقصف من الجو تأثير مختلف تماما"، يقول رجل "أمان"، "اذا قيس بعملية محددة ونظيفة كاطلاق النار على الرأس".

في تلك الفترة تولى امنون ليبكين شاحك رئاسة "أمان" وموشيه يعلون قيادة دورية هيئة القيادة العامة. ومن المحتمل ان يعلون طلب ليبكين شاحك اليه "ان يفحص عن امكانية" القضاء على "عرض هدف". وكان المكان الذي بدا كاملا للعملية هو بيت أبو جهاد في حي منازل فخمة منمقة على مبعدة بضعة كيلومترات عن الشاطيء سكنه جميع مسؤولي م.ت.ف الكبار وحظوا بظروف عيش مريحة جدا تشمل فريقا من الخدم. "لم يؤمن أبو جهاد ببساطة بأن شخصا ما سيصل اليه هناك"، يقول واحد من الخبراء بالقضية. "عمل الموساد في بيروت أو في سوريا أو في اوروبا لكنه لم يعمل قط في تونس، وشعر أبو جهاد بالأمن نسبيا هناك".

برغم ذلك كان يحرس بيت أبو جهاد طوال الوقت حارسان ملازمان، وحظي بحراسة تامة من الشرطة التونسية. وفي مقابل هذا اعتاد ان يستدعي مكانا في رحلات جوية كثيرة وان يستعمل جزءا صغيرا منها فقط كي يبلبل من يتعقبه. وكان النموذج الذي استقر الرأي عليه آخر الامر قوة بحرية كبيرة نسبيا تنقل جنود دورية هيئة القيادة العامة بحرا الى الهدف. وتنقل الوحدة البحرية 13 الجنود الى الساحل حيث يستقبلهم محاربو "قيسارية"، وهي وحدة العمليات في الموساد – ويأخذونهم الى الهدف. وتنفذ الدورية عملية الاغتيال ويعود الجميع معا الى الساحل ويتجمعون عائدين الى السفن.

يبدو هذا سهلا، لكن الحديث عن عملية مركبة جدا احتمال التورط فيها عال جدا. وكانت المشكلة المركزية في الخطة كيف يُتحقق من ان الهدف موجود حقا في المنزل. ووجد مخططو العملية لذلك سلسلة من الحلول. ويمكن ان نفترض انه في الجلسة الحاسمة التي تمت عند وزير الدفاع رابين الذي كان معروفا بتدقيقه في التفصيلات العملياتية، عاود الالحاح على هذه النقطة وهي هل يستطيع الموساد ان يضمن تصديقا نهائيا لا لبس فيه ان أبو جهاد موجود حقا في المنزل؟ وفي امتحان النتيجة يبدو ان رابين أعطى موافقته النهائية على خروج القوات بعد ان أعطاه شبتاي شبيط نائب رئيس الموساد كلمته بأن الامر سيكون كذلك.

"إحذر الاسرائيليين"

في الثالث عشر من نيسان 1988، بحسب التقارير الاخبارية، بلغت مطاردة "عرض هدف" التي بدأت قبل ذلك بنصف يوبيل الى مرحلتها الاخيرة وكان كل شيء تقريبا مُعدا للانطلاق. بيد انه آنذاك وبحسب ما نشر من الأنباء جاءت الى أبو جهاد مكالمة هاتفية من واحد من رجال منظمته قال له انه تلقى تحذيرا من "اصدقاء في باريس" من ان "الاسرائيليين يخططون لشيء ما". واستعد جهاز التنفيذ كله وكان هناك من وزنوا الغاء العملية. واستقر الرأي آخر الامر على المتابعة كالعادة لأنه لم يبدُ ان أبو جهاد نفسه ينوي ان يغير شيئا ما من رتابة حياته على أثر التحذير. "كان على يقين من ان اليهود الرُحماء وليني القلوب لن يتجرأوا على قصف حي سكني"، يقول واحد من الخبراء بالقضية. وكان أبو جهاد على حق لأنه سيرى بدل القصف محاربين أقل لين قلوب عنده في البيت. وتلقت العملية الضوء الاخضر.

بدأت العملية قبل يومين على الأقل من موعد الاغتيال حينما وصل مقاتلو "قيسارية" الى تونس. وانقسموا الى مجموعتين: الاولى يعمل رجالها سائقين لمحاربي الدورية من الشاطيء الى البيت وفي العودة ايضا، وتخرج مع القوة بطريق البحر؛ والثانية تجري مراقبة للبيت وتتحقق من ان الهدف موجود هناك حقا، وهي قوة منفصلة تماما عن القوة المركزية وتترك تونس بعد العملية عن طريق الجو.

قبل يومين من ساعة "ش"، بحسب تحقيق الشرطة التونسية استأجرت المجموعة الاولى السيارات: سيارتي فولكس فاغن من طراز ترانسبورتر حملتا لوحتي التعريف تي.آي 48328 وتي.آي 538405؛ وسيارة من طراز بيجو 305 ذات لوحة تعريف تي.آي 250566. واستؤجرت من ثلاث شركات مختلفة مقابل الدفع نقدا. وكانت اسماء المستأجرين كما ظهرت في جوازاتهم اللبنانية المزورة: جورج نجيب، وعايش السريدي وامرأة اسمها عواطف عالم. وتحدث الثلاثة اللغة الفرنسية بطلاقة. وفي الاثناء كانت السفن وعليها باقي القوة قد أبحرت من حيفا وانتظرهم إبحار طويل ثلاثة ايام. وفي خلال ذلك كان "الشباك" قد خرج لتنفيذ جزء مهم آخر من العملية.

في ساعات المساء الاولى من يوم السبت 16 نيسان قبل النزول المخطط له على شواطيء تونس ببضع ساعات، داهم "الشباك" بيت المحامي الغزي فايز أبو رحمة ابن خالة أبو جهاد. واحتجز منفردا وبدأ التحقيق معه مرة اخرى في صلاته مع أبو جهاد. وبدا التحقيق الذي جرى ما لا يحصى من أمثاله في الماضي، غريبا لأبو رحمة وكأنه لا يتعلق بشيء وليس نتيجة عملية تمت، وكان كما يبدو على حق. فتقرير تحقيق اغتيال أبو جهاد كما أجراه المسؤول عن الامن الداخلي في م.ت.ف يقول ان الاعتقال كان ذريعة فقط لاجراء مكالمة هاتفية كان هدفها الحقيقي التحقق من ان أبو جهاد موجود في البيت.

بحسب حساب الوقت واستعادة منطقية للاحداث وقفت القوة الاسرائيلية على مبعدة 25 ميلا بحريا عن شواطيء تونس (نحو من 46 كم)، أي خارج المياه الاقليمية للدولة بكثير. وفي ساعة النور الاخيرة أُنزلت القوارب المطاطية من سفن الصواريخ ودخل الى كل واحد منها مقاتلان من الوحدة البحرية وستة مقاتلين من دورية هيئة القيادة العامة. واقتربت القوارب الى مدى قريب جدا من الساحل وانتظرت حلول ظلام تام وكان الليل بلا قمر.

في المرحلة الاولى من العملية بحسب الانباء التي نشرت وبحسب مخطط معركة وحدة البحرية في هذه الحالات، اندفع من القاربين الاولين مقاتلو وحدة بحرية مدججون بالسلاح واقتربوا في غوص ساكن من الشاطيء. ونزلوا على الساحل وأمنوه مع انشائهم اتصال راديو. بعد ذلك التقوا مع رجال الموساد الذين انتظروهم مع السيارات على مبعدة ما. وكان الشاطيء آمنا. وكانت مصافحات ساكنة وتربيت على الأكتاف ثم انتقال الى المرحلة التالية.

وأُعطيت الاشارة وأبحرت القوارب المطاطية التي انتظرت قرابة الساحل ببطء نحو المنطقة الآمنة وقفز محاربو هيئة القيادة العامة منها. وابتلعت سيارات رجال "قيسارية" جزءا من المحاربين الذين سيسيرون بعد ذلك في الشارع مثل مجموعة من الرجال والنساء الذين يتجولون ببراءة لبدء الهجوم. وبدلوا ملابسهم المبلولة. وانتشر محاربو الوحدة البحرية وأحدثوا بدلة التأمين التي ستخدمهم حتى الانسحاب.

وفي هذا الوقت كله كان ثلاثة من محاربي "قيسارية" متموضعين بازاء بيت أبو جهاد يراقبونه بمنظار بالغ القوة. وعلموا انه ليس في البيت بل في لقاء في القيادة مع زميله (وخصمه) فاروق القدومي، ولم يكن أكثر اولاده في البيت. كان في البيت زوجته وابنته حنان الى جانب الطفل الصغير نضال (الذي سمي باسم الطفل الذي سقط من الشرفة في سوريا).

بعد منتصف الليل بقليل عاد أبو جهاد الى بيته وصاحبه حراسه الى الداخل. وعاد أحدهما وكان يعمل سائقا ايضا الى السيارة ونام، أما الثاني فدخل وجلس في الصالون. بعد ذلك اتجه يسارا ونزل الى القبو حيث نام.

وصفت أم جهاد للصحفي موشيه زونبر الدقائق الاخيرة بصحبة زوجها: "طلبت اليه ان يأتي لينام وقال ان عنده الكثير من العمل لينهيه بعد. جلس قرب المائدة في غرفة نومنا وكتب رسالة الى قيادة الانتفاضة. وكانت حنان معنا في الغرفة.

"سألها عما فعلته خلال اليوم. وقالت انها ذهبت الى النادي وركبت حصانا. وتذكرت انها أرادت ان تروي له حلما رأته في الليلة السابقة. فقد حلمت انها في القدس مع عدد من الاصدقاء صلوا في المسجد وفجأة طردهم الجنود الاسرائيليون من هناك وطاردوهم. فجرت وجرت الى ان خرجت من أسوار المدينة وآنذاك رأت والدها فسألته الى أين يذهب فأجابها أبو جهاد بأنه ذاهب الى القدس. فسألته كيف يستطيع دخول القدس لأنها مليئة بالجنود الاسرائيليين، فأجابها بأنه سيركب حصانا ابيض.

"وبعد ان أنهت قص حلمها عليه نزع أبو جهاد نظارتيه وقال: يا حنان، نعم نعم، أنا ذاهب الى القدس. وضحكا. وقبلته قبلة الوداع ومضت الى غرفتها لتنام. بعد ذلك عادت وقبلته واحتضنته مرة اخرى ثم مرة اخرى، ثلاث مرات، فقد شعرت بشيء ما".

رن الهاتف في البيت. ورفع أبو جهاد السماعة بحسب وصف جمعه فريق التحقيق من م.ت.ف. كان على الخط منسق رحلات فتح الذي قال انه استدعي لأبو جهاد مقعد في الطائرة التي ستخرج بعد الواحدة بقليل من تونس الى بغداد. وهذه المحادثة اذا كانت اسرائيل قد التقطتها فمن المنطقي ان نفترض انها سببت تقديم ساعة دخول المنزل.

كان يعوزهم حتى ذلك الحين تعرّف نهائي. لكن رجال "قيسارية" الذين راقبوا البيت أجازوا انهم رأوا سيارة أبو جهاد تصل لكن ذلك كان غير كاف.

حينما أُعطيت الاشارة لقسم التعرف في العملية، بحسب السيناريو، اقترب واحد من خبراء الاستخبارات الثلاثة من الميكروفون في حين ركب الاثنان الآخران سماعات على آذانهما يستمعان للخط. وفي المقابل عمل تقنيون من الوحدة على انشاء مكالمة هاتفية الى بيت أبو جهاد عن طريق مركزية في اوروبا تشبه المكالمات التي أجراها هو نفسه مع المناطق. وخُلط مع المكالمة اصوات ضجيج. "يا أبو جهاد"، صرخ رجل الاستخبارات الاسرائيلي بالعربية في السماعة. "اعتقلوا أبو رحمة ويريد أبناء الكلبة الآن أخذ جميع العائلة الى السجن"، أبلغ في تأثر وأضاف شتيمة اخرى بالعربية. وحاول أبو جهاد ان يطمئن المتحدث وحاول الحصول على تفصيلات اخرى. وظل التقنيون الاسرائيليون يحافظون على المكالمة في الهواء الى ان رُفعت ثلاث أيد واحدة من كل واحد من المتنصتين الخبراء. وفي اللحظة التي صادق فيها الثلاثة أنهم تعرفوا صوت أبو جهاد شوش التقنيون على جودة الخط الى ان تلاشت المكالمة. وبث موقع القيادة المتقدم الى القوات في تونس ما يلي: "عرض هدف – يوجد ضوء اخضر".

إذهبي الى أمك

بحسب الانباء التي نشرت وصل رجال الدورية وعددهم كما يبدو 26 في سيارات الى الحي الفخم. كانت تلك واحدة من اللحظات الأشد توترا في العملية: ففي كل لحظة كان يمكن ان يصادموا دورية شرطة عارضة أو مجرد فضوليين قد يثيرون المشكلات. سافرت أمام القوة بنصف كيلومتر سيارة اخرى وفيها مقاتل ومقاتلة من "قيسارية" مع اجهزة اتصال. وكانت بمثابة متحسس أول للتحقق من انه لا تنتظر محاربي هيئة القيادة العامة أية مفاجأة.

قرب البيت نزلت مجموعة واحدة من جنود الدورية كان فيها ثمانية محاربين وقادهم اثنان من المحاربين بملابس مدنية كان أحدهما متنكرا بزي امرأة، وكانت "المرأة"، أي القائد، هي قائد العملية الميداني. كان الجميع مجهزين بمسدسات "توتو" (0,22 ملم) مع كواتم صوت. وكانت "المرأة" تمسك بقطعة حلوى كبيرة. ولم يكن ممكنا ان يُرى ان العلبة فيها مفاجأة غير حلوة، أي يد المحارب الممسكة بمسدس مع كاتم الصوت. واقترب من الحارس الذي كان ينام في السيارة وأطلق النار على رأسه فأرداه قتيلا.

وحينما تلقى سائر المحاربين اشارة ان الحارس قد قُتل، تقدمت مجموعة اخرى واستلت معدات اختُرق بها باب البيت الثقيل. وبخلاف التدريبات صدر عن الباب صوت ضئيل لكن البيت ظل نائم. وأشار أحد المحاربين الى رفاقه في السيارات ان المنطقة نظيفة وفي المقابل انتشر سائر المحاربين حول البيت وقبالته.

أندفع المحاربون الى الداخل فاتجهت احدى الخلايا الى القبو حيث كان الحارس الثاني قد استيقظ. لكنه لم يستطع اعداد سلاحه وقُتل. وقرر عامل الحديقة في البيت لسوء حظه ان ينام في القبو في تلك الليلة وأُطلقت النار عليه ايضا.

وانفصل أحد المحاربين عن الباقين جميعا مع الدخول فورا وقفز في أعلى الدرج وكان هو الشخص الذي اختاره قائد الدورية لتنفيذ المهمة الرئيسة وهي الوصول في أسرع وقت ممكن الى غرفة أبو جهاد وقتله، واستعادت أم جهاد ذلك قائلة: "استيقظت. كان أبو جهاد يجلس قرب الطاولة فدفعها ونهض سريعا وأخذ مسدسه من الخزانة. فسألته: ماذا حدث؟ ماذا حدث؟ سمعت ضجيج اختراق الباب في الاسفل والناس يصرخون. وفهمت ما الذي يحدث في الأسفل. رأيت رجالا مع أقنعة على الوجوه لا تبدو سوى أعينهم وشعرهم. دفعني أبو جهاد الى داخل الغرفة فجاءه أحد الاسرائيليين وأطلق النار عليه فسقط أبو جهاد.

"ذهبت الى أبو جهاد فانحنيت واحتضنته. فألصق أحد الاسرائيليين مسدسا في ظهري ودفعني بقوة الى الجدار". بحسب شهادتها دخل خمسة اشخاص الغرفة وأطلق كل واحد منهم النار بدوره على أبو جهاد. "صرخت بالعربية "بس" وآنئذ استيقظت حنان. لم تصدق ما حدث. فتوجهت الى الجنود الاسرائيليين وسألتهم: من أنتم؟ ماذا يحدث هنا؟ فدفعها أحدهم الى الجدار وقال لها بالعربية "إذهبي الى أمك". بحسب الشهادات التي جمعها فريق الامن الداخلي من م.ت.ف بعد ذلك برئاسة الجار أبو الهول صعد "رجل رفيع المستوى"، كما يصف التقرير، من الطابق الاول الى المكان الذي طُرحت فيه جثة أبو جهاد ونفذ فيه تحققا من القتل. ويزعمون في م.ت.ف أنهم تعرفوا على الرجل بأنه قائد الدورية موشيه يعلون الذي انضم بنفسه الى العملية.

اجراء "الأم الأوزة"

في خلال الجلبة بدأ محاربو هيئة القيادة العامة البحث في البيت وجمعوا وثائق كثيرة. وبعد ذلك، بحسب شهادات العائلة، اقتلعوا من الجدار كوابل الهاتف وأخذوا معهم المذكرة الالكترونية. وبحسب المعتاد في دورية هيئة القيادة العامة من المحتمل أنهم أجروا في الخارج تدريبا يُعرف في الوحدة باسم "الأم الأوزة" حيث يعد "القائد" المحاربين للتحقق من أنه لم يبق أحد في البيت.

حُشر المحاربون داخل السيارات. وآنذاك وبحسب الانباء التي نشرت، صدرت اشارة لبدء عملية صرف انتباه شاملة: فقد تمت سلسلة مكالمات هاتفية الى جميع مراكز الشرطة في تونس وفيها ابلاغ ان ثلاث سيارات شوهدت تهرب الى مركز المدينة الذي هو بالطبع الاتجاه المعاكس للاتجاه الذي سار فيه المحاربون المنسحبون. والتهم رجال الشرطة التونسيون الطُعم وأُرسلوا لمطاردة السيارات الفارة في الطريق المتوهم. بيد ان القوة كانت قد أصبحت منذ زمن في القوارب عائدة الى سفن الصواريخ. وستكشف شرطة تونس عن السيارات المهجورة بعد ذلك بثلاث ساعات فقط.

حينما وصل المحاربون الى سفن الصواريخ وبدأوا العودة زال التوتر. ويمكن ان نُخمن انه في مقر القيادة العليا في تل ابيب ظهرت ابتسامات وتربيت على الأكتاف. لقد انتهت الحياة الدامية لـ "عرض هدف" بعد 23 سنة من بروز اسمه باعتباره مرشحا للاغتيال.

واسرائيل كما قلنا آنفا لم تتحمل مسؤولية عن العملية. في 17 نيسان 1988 بعد العملية بيوم سُئل رئيس الحكومة شمير عن مشاركة اسرائيل في عملية الاغتيال فأجاب بوجه مكفهر: "سمعت عن هذا في المذياع".