خبر بعض من « هناء » ..جواد بولس

الساعة 09:32 ص|23 مارس 2012

وكأنني أيقظتُ شيطان "طولوز" من غفوة. عن ناسِها ورجسِها كتبت في الأسبوع الماضي، عبيدٍ جرّدهم خوفهم من حرّيتهم، وحوّلهم جهلهم أكباشًا انتظموا في حقولِ وزرائبِ رعاتِهم/حكّامِهم. كتبتُ وجاهرتُ أن "مولاي عقلي" وهو الذي يهديني إلى دروبِ السماء وقلوبِ البرايا.

عن "طولوز" تلك التي قبل ستة قرون حكمها رجال باسم ديانة لفّت بلفائف من جهل خالص، وكمومياوات عجيبة حلّقت بأجنحة ملائكة شرّعت الموت والتنكيل تمامًا كما أجادته آلهة الرعد والبراكين وكما خلّدته لنا الأساطير.

"طولوز" عادت لصدارة الوجع، وكأن هناك من يستكثر علينا أنينَ"هناء" وشقاءها، فمتى تستحق ضحيّة من بلاد يحرثها العجز، فرح الصنوج وصهيل الفرسان؟

تركتُ محكمة "عوفر" العسكرية بعد جلسة قصيرة دعا إليها قاض متردد يخشى إصدار قراره رغم ما زوّده به جيشه من غطرسة وثقة تجاري ثقة "كاليجولا" في تتويج حصانه إمبراطورًا على روما. ليس من فرط إنسانية وعدل وصحوة، هكذا علمتني ثلاثة عقود من الفر والفر، بل اتّعاظًا منه بما أفضت إليه قضية الأسير المناضل خضر عدنان. لقد قالها القاضي صراحةً حين وجه كلامه للنائب العسكري العام ولي: "لن تجعلا مني أضحوكة! إن كنتما تنويان التوصل لاتفاق في قضية هذه الأسيرة (هناء الشلبي) فافعلا ذلك هنا. لا يعقل أن نصدر قراراتنا في هذه المحكمة وقبل أن يجف حبرها تعلنان وصولكما لاتفاق. لن نكون، نحن القضاة، "الصبية" الأشرار وغيرنا يقطف ثمار إنسانيته"، لقد راهن هذا القاضي وغيره على صمود ووقفة خضر ولكن خضرًا خسَّرهم الرهان، والمصيبة أن تراجع مؤسسات الدولة الحقوقية عرّى المحكمة العسكرية وتركها كاشفة العورات في وسط الساحة العامة، وأكد ما كان بعضنا يقوله، فما القضاة إلّا عسكريون يخدمون في وحدة القصف القضائي العشوائي.

 

منذ اللحظة التي تركت بها معسكر "عوفر" - الواقع في أذيال القرية الفلسطينية بيتونيا، لصيقة رام الله من الجنوب الغربي - وعلى جانبي  الطريق إلى الرملة، يمتد سور متواصل. في كل سفرة يسبب لي شعورًا بالاختناق والكآبة. في حينه، فرَّق - واليوم كرّس - هذا السور شرخًا بين قرى تجاورت في فلسطين من عهد شمشون ومزق شمل عائلات أحبت، ببساطة، الرب والوطن والعباد ويتّم أراض من مزارعيها. غايته، علاوة على قمع أصحاب الأرض الأصليين وإذلالهم،حماية المستوطنين الذين يستعملون هذا الطريق والمؤمنين أنه ميراثهم من يوم وعدهم ربهم إلى يوم الدين.

الإذاعات تنقل خبر الاعتداء المسلح على مدرسة يهودية في "طولوز" وعن قتل أطفالٍ وبالغين. الأخبار تنقل أن الإرهابيين القتلة فرقة من النازيين الجدد قتلوا اليهود بعدما قتلوا قبلهم عربًا وملونين. بعد حين تبدّلت الأخبار إذ بدأت تتحدث عن قاتل من أصول جزائرية وتنقل أنّه صرح بأنه قتل اليهود ليثأر من قتل أطفال فلسطين! حاولت أن أهدأ وأصلي ليكون هذا النبأ ملفّقًا وغير صحيح، حاولت وتوقفت، فصلاتي، هكذا شعرت، صلاة انتهازية غير بريئة، فما دخل الرب لينجّيني من جنون جزائري يؤمن أنه رسول الله على الأرض وأن قتل اليهود، كل اليهود، حلال وذبحهم فريضة وتكفير على ما جنوه بحق فلسطين وأطفالها. أتعبتني أنباء "طولوز". وحاولت أن أعود إلى هُناي فشعرت أن الفضاء مليء بتلك المومياوات التي لُفت على جهل تطير بأجنحة ملائكة الموت ولا ترفق.

وصلت إلى مجمّع سجون الرملة. أسوار من الإسمنت منزوعة اللون والحياء، عالية لتخفي الحقيقة والعذاب، تحيط بمنطقة أوسع من خيال شاعر. مع بداية عملي محاميًا، قبل مواسم اليأس، كان عدد المباني قليلًا. اليوم أتوه من كثرة ما أنشئ من مبان وأسوار وبوابات حديدية كبيرة. أقفاص من عجز دولة تشهد على "ازدهار" الجريمة وانضمام فيالق جديدة من عشاق أناشيد الخاوات و"الموت للعرب" وعبدة نصل السكين ومذدئبين يسطون عندما ينتصف ليل ويستدير قمر.

 

أدخل بعد عناء وانتظار منطقة المستشفى التابع لمصلحة سجون إسرائيل، إلى ردهة في مدخل البناية. لا شيء يشبه المستشفيات. لا رائحة للمرض ولا فسحة للأمل. كل شيء في سجنٍ قبيح. جدران لن تعرف لون طلائها الأصلي. أبواب حديدية يفتحها سجان من وراء غرفة تسيّجه وتقتل ما برعم فيه من منطق وإنسانية. ضجيج أبواب تفتح بضغطات كهربائية وتغلق تلقائيًا بتكرار ورتابة يحولانك إلى بليد بامتياز. أسرى ينقلون عربات تفيض قمامة وروائح لا يشعرون كم هي كريهة. سجّانات لا لون لوجوههن رغم ما علاها من دهون وسوائل، تقلدن ضراوة السجانين المهرة فخَسِرنَ الرصانةَ بعد أن هجرتهن الأنوثة.

أدخل إلى مكان أعد للقاء المحامين بموكليهم. المكان خانق. أجلس على شبه كرسي وأمامي شباك مغلق بزجاج وشبك حديدي. بعد هنيهة تُدخل هناء الشلبي من الجهة الأخرى. تجلس على كرسي، أمامها الشباك مغلق بزجاج وشبك حديدي. من خلال هاتف خاص نتكلم.أحييها. ترد بصوت خافت من حياء ومن مرض. أوجز لها تطورات قضيتها في المحكمة العسكرية وأكثر ما يجري من تفاعلات في فلسطين والعالم. أسعدها ما سمعت فسجّانوها يضغطون عليها تارة بإخافتها لما ستتعرض له جراء إضرابها عن الطعام، فهي كأنثى ستدفع الثمن في مستقبلها. ويخيفونها كذلك بتشويه حقيقة ما استنهضته قضيتها من دعم وتضامن. فَرِحَت عندما طمأنتها وقلت أن ما تفعله هو هام بأهمية ما بدأ به رفيقها خضر عدنان لأنها جعلت من خضر البداية وليس النهاية.

"شكرًا لكم، شكرًا لجميع من يقف معي من أحرار فبدونكم سيكون صبري أقل وقوتي أضعف. قل للعالم يا أستاذ أن حياتنا غالية ولكن حريتنا وكرامتنا أغلى وسننالهما رغم زنازينهم". بعد ساعتين غادرتُ المكان القبيح. بعض السجانين، عندما رأوني، حاولوا أن يتحدثوا بصوت عالٍ لأسمع أن القاتل في طولوز/فرنسا عربي  سافل، وكأنهم يحرجونني، مشيت. نعم هو قاتل سافل، تمتمت. وأنا أكرهه أكثر منكم لأن جريمته تلك حجبت عنكم وعن كثيرين أن تسمعوا أنينها، فهي الضحية من بلاد العجز والخراب. أكثيرٌ علينا بعض الجوع وقليلٌ من هناء؟.