خبر هل نحن أمام حتمية الحوار؟ ..علي عقلة عرسان

الساعة 06:23 م|16 مارس 2012

 

بين الفضاء السياسي والواقع الميداني على الأرض في الأزمة السورية التي أنهت عامها الأول فجوات كبيرة، بل هوة سحيقة بعد هوة سحيقة. وبين فضاءات الإعلام المنخرط في الأزمة وأحد اللاعبين المهمين فيها، أو ذاك المتعامل معها، وبين حقائقها ووقائعها وخلفياتها ودوافعها ما بين الأرض والسماء من بعد في الخلافات والنظرات والتفاسير، وبين فضاءات الإعلام ذاتها فجوات تضع بعضها في تضاد مع بعض حتى لا تكاد تلتقي على آراء ومواقف مسؤولة ومقبولة تناصر الحقيقة وتبحث عنها وتخدمها وتجميها، وتعمل على وقف نزيف الدم والحد من المعاناة وانتشار المأساة. وحين ينطلق المتعاملون مع الأزمة السورية، سواء أكانوا من السياسيين والديبلوماسيين أو من المثقفين والإعلاميين، من منطلقات الحرص على حقن الدماء ومقاربة القضايا بإجمالها وتفاصيلها، بأسلوب موضوعي أخلاقي إنساني عادل، سيجدون أنفسهم قادرين، وفي المسارات الصحيحة المجدية، وعلى أقرب المسافات من الحل الذي يفرضه العقل والضمير ومصلحة الناس في سورية ومحيطها الإقليمي.. ولكن حين ينطلقون من استراتيجيات وبرامج سياسية وأهداف وخطط ومصالح متضاربة لقوى وأحلاف وبلدان وقوميات وطوائف ومذاهب،  فإنهم يكتبون كل تقاريرهم السياسية والإعلامية، وكل أفكارهم ورؤاهم وتوجهاتهم ومقترحاتهم وقراراتهم بدم السوريين ودموعهم، سواء أكان أولئك من الضحايا الأبرياء أو القاتلين المدانين، ويستمرون في الوقت ذاته في برامجهم وذرف دموع التماسيح عليهم، ويدخلون سوق السياسة والكلام باسمهم وعلى جثثهم.. بينما يتحول السوريون أنفسهم إلى فرقاء نزاع ومخالب وأدوات، تجرها الصراعات، المباشرة وغير المباشرة، إلى مستنقعات يغرقون فيها ويغرقون وطنهم ويضعفونه، ويصرخون في الوقت ذاته من الألم والموت، ويعلنون الاستمرار في طرق الألم والموت حتى النصر، تحت شعارات الوطنية والحرية والديمقراطية و.. و.. والشعارات الكثيرة الكبيرة.

في الأزمة السورية، منذ بدأت، وقائع وحقائق وذرائع وشعارات وممارسات، تشير قراءتها بموضوعية ومنهجية ونزاهة وتجرد إلى أوضاع داخلية وأخطاء وممارسات طال أمدها من دون أن تلقى الحل الملائم لها أو الالتفات الضروري لها، وإلى سياسات ومخططات أوسع من سورية الجغرافية الطبيعية والبشرية، وإلى قوى داخلية وعربية وخارجية أكبر من المشكلة التي لها أسبابها المزمنة ولها حلولها الممكنة، بيد السورين أنفسهم، إذا أحسنوا النوايا، ولجأوا إلى لحكمة والمنطق، وأخلصوا جميعاً للوطن والإنسان والحقيقة.

لم تكن سورية قبل الأزمة المؤلمة التي تمر بها جنة الله على الأرض، ولا البلد الذي لا يشكو من شيء ولا يتطلع مواطنوه إلى إصلاح ومعالجة قضايا داخلية مزمنة وإعطاء الإنسان ما يستحقه ويتطلع ليه من حرية وكرامة، وما ينشده من مقومات النهضة والتطوير والتحديث، والأزمة في سورية لم تأت بمجملها من فراغ، وقد كانت هناك نار تعس تحت الرماد منذ زمن، وملفات تنتظر المعالجة حسبها البعض انتهت إلى الأبد، وكان هناك من يشير إلى ذلك كله أو إلى بعضه بصورة مباشرة أو غير مباشرة، وكان هناك أيضاً من يغضي ومن يتغاضى، ومن يتألم بصمت ومن يتكلم بخوف أو على استحياء، وكان هناك من يكابر ويستهتر بمن يتألم ويتكلم ويشير ويغضي ويتغاضى.. ولكن من استثمر في ذلك كله لم يستثمر في الإصلاح الشامل فقط ولا في ما فيه خير سورية البلد والشعب والموقف والموقع فحسب، بل كان بين أولئك من له ما له من حسابات وثارات ومواقف وبرامج وخطط وتوجهات تنال من سورية الموقف والموقع والتوجه والسياسة والتاريخي.. ومن أشعل في أطراف الثوب السوري لم يكتف بإرسال إنذارات، والتحرك نحو تحقيق أهداف داخل البيت السوري فقط.

من قال بالإصلاح بداية أراد إسقاط النظام منذ البداية، ليحل محله هو بنظام آخر، وله أسبابه ودوافعه ومن يدفعه ويشجعه ويناصره ويعده، لأهداف ومشاريع واستراتيجيات أكبر منه وأوسع من سورية الجغرافية السياسية والطبيعية، ومن وقف في وجه هذه الموجة موقفاً حاداً منذ البداية أراد أن ينهيها مستشعراً الخطر، ومستشرفاً الهدف، متمسكاً بموقعه وموقفه ومستنداً إلى شرعيته ومسؤوليته في المحافظة على الأمن والاستقرار ودرء الخطر عن نفسه وعن النظام البلد، وأراد أن يرسخ بقاءه في الحكم وبقاء النظام.. وأتي مطلب الإصلاح منذ البدايات بوصفه ذريعة عند فريق وبوصفه مطلباً شرعياً جوهرياً وعادلاً عند آخر في المعارضة، وقضية مطروحة ومطلوبة وقابلة للحوار عند المعنيين بالشأن الرسمي.. وحين بدأت خطوات على طريق اٌصلاح شكك الفريق المعارض بها وبجدية من يقوم بها، ثم لج بتأخرها، ثم رفضها بذرائع شتى، لأن الهدف الأساس لم يكن الإصلاح بذاته بل التغيير الجذري بشموله.. وتمسك الطرف الرسمي بالإصلاح بوصفه مطلباً وطنياً واختياراً رسمياً تأخر، وبأنه مدخل للحل وضرورة لسورية ديمقراطية متجددة. وهكذا استمر تراشق المعنيين المباشرين بالأزمة بالكلام والرصاص، كل في متاريسه وخلف متاريسه متاريس.. وسال دم كثير، وسقط ضحايا أبرياء، وعانى كثير من الناس معاناة مرة، ودُمرت مصالح وبنى تحتية وأساسية في البلد، وأصاب القلق والرهق والمرض الخبيث نفوساً كثيرة، وانعكس كل ذلك على الشعب والوطن اللذين راح كل فريق وكل شخص يرفع رايتهما ومصلحتهما ويتكلم باسمهما.. بينما استمر إضعاف البلد واستمرت محنة الشعب.. وربما كان وما زال ذاك أحد أهم الأهداف الخفية من وراء الأزمة في سورية لكنه بالتأكيد ليس الهدف الأول والأهم.

نحن الآن أمام حوادث وتطورات ومفاصل وتوجهات شبه حاسمة، وذات دلالات وأبعاد وتأثيرات سياسية وميدانية مهمة في مشهد الأزمة السورية على المستويات كافة، وأعتقد أن تلك لمعطيات في غاية الأهمية للذين يريدون قراءة هذا المشهد بواقعية وموضوعية ومسؤولية سياسية وأخلاقية، وبعد نظر استشرافي، داخلياً وإقليمياً ودولياً.. لا سيما بعد أن دخلت مهمة كوفي عنان في تفاصيل الأزمة، وتواصلت مع جهات معنية بها بصورة مباشرة وغير مباشرة وعلى صعد ومستويات رسمية وغير رسمية، وبعد أن حظيت تلك المهمة بدعم دولي واسع النطاق. وهي مهمة تتقاطع وتتواشج، على نحو إيجابي، مع جهود ومبادرات تعززها، منها: النقاط الست في الحل المقترح من جمهورية الصين الشعبية، والنقاط الخمس في اتفاق وزير خارجية روسيا لاتحادية سيرغي لافروف مع اللجنة الوزارية في جامعة الدول العربية.

ومن ملامح مشهد الأزمة المشار إليه:

1 ـ قبول سورية رسمياً بمبادرة كوفي عنان، واستعدادها للتعاون معه بهدف إنجاحها لأنها تحتاج إلى أن تنجح تلك لمهمة الأممية، وترحيبها سابقاً بمبادرتي موفد الرئيس الصيني، ووزير خارجية روسيا لافروف، وتعاونها مع فاليري آموس في برنامجها الإنساني، سماحها بدخول مساعدات إنسانية بدأ طلائعها تصل من روسيا وإيران.

2 ـ سيطرة الجيش السوري ميدانياً على معظم الأحياء والمدن والقرى التي كان يتحصن فيها المعارضون المسلحون ومن يقف معهم.. وتسليم بعض المسلحين لأسلحتهم، مستفيدين من العفو عمن يسلم سلاحه. 

3 ـ موقف دولي معلن ـ بصرف النظر عما إذا كان هناك توجهاً خفياً من تحت الطاولة، غير مستبعد ـ يعترض على تسليح المعارضة بأطيافها وأطرافها، على الرغم من بقاء الداعين إلى ذلك على مواقفهم.. ذلك لأن أي تسليح للمعارضة هو مزيد من مناقع الدم. ويلفت النظر في هذا المجال تغير ملحوظ تجاه منطق القوة والتدخل المباشر، في التصريح السياسي الأوربي ومضمونه الذي بدا على لسان أحد المتشددين في هذا لاتجاه وزير الخارجية الفرنسي آلان جوبيه، حيث حذر في لقاء له مع إذاعة فرنسا لثقافية " فرانس كيلتير" من «مخاطر نشوب حرب أهلية في سوريا في حال تسليم أسلحة إلى المعارضة.. وإن الشعب السوري منقسم بشكل عميق، وان أعطينا أسلحة إلى فئة معينة من المعارضة في سوريا، فسنكون ننظم حربا أهلية بين المسيحيين والعلويين والسنة والشيعة، وقد يكون الأمر بمثابة كارثة أكبر من الكارثة القائمة اليوم".

4 ـ استمرار الولايات المتحدة الأميركية والدول الأوربية وبعض الدول العربية في ممارسة الضغط السياسي والدبلوماسي والاقتصادي على سورية الأمر الذي يجعلها تهتم بذلك جدياً وتوليه عناية خاصة ذات أبعاد سياسية.

5 ـ وجود نزوح في الأيام الماضية لسوريين إلى تركيا ولبنان على وجه الخصوص، نتج عن انسحاب مسلحين من مناطق كانوا يتحصنون فيها، الأمر الذي لا تريده سورية لمواطنيها لما يرتبه من أوضاع إنسانية واجتماعية، ولا ترغب في جعله ذريعة لمن يريد أن ينال منها سياسياً وأمنياً بافتتاح معسكرات والدعوة إلى مناطق آمنة.

6 ـ وصول أطراف من المعارضة، كانت تنأى بنفسها عن الحل السياسي والحوار وتطالب بالتدخل الخارجي وبحظر جوي ومناطق آمنة وتسليح.. إلخ، وصولها إلى قناعة بأن معظم الدول التي وعدتها بذلك لم تعد تأخذ بهذا التوجه وتحولت إلى الحل السياسي الذي مفتاحه الحوار عملياً، إضافة إلى وصول بعض أطراف تلك المعارضة إلى طرق مسدودة، وحدوث انشقاقات داخلية في صفوفها تضعفها بل تمزقها، الأمر الذي جعل أطرافاً مسلحة في الداخل كانت تعول عليها وتعتبرها ممثلاً لها، تتخلى عن ذلك وتتهمها ولا تعتبرها ممثلاً لها.

إن كل تلك المعطيات والمستجدات والأوضاع والمعاناة تجعل مهمة كوفي عنان والمبادرات التي تعززها وتتواشج معها خشبة نجاة للمعارضة قبل النظام، لأن وقف العنف، وحقن الدماء، وعودة النازحين، وصون الوطن والمواطنين ومصالحهم، كل ذلك يجعل من اللجوء إلى الحوار مكسباً كبيراً للجميع في هذه الظروف.. ومكسباً للوطن ولمن يرى أنه معني بالوطن، ويضع مصلحته ومصلحة الشعب فوق كل مصلحة واعتبار.. ويضع نفسه أمام حقيقة وواجب وطني مفادهما أن الوطن ينبغي ألا يضعُف والإنسان ينبغي ألا يموت.. فهل نحن أمام حتمية منطقية للحوار الذي يؤدي إلى الحل، وأمام امتحان للحكمة والتصرف بمسؤولية من قبل كل مسؤول ومعني وحريص؟! سؤال بتصرف المعنيين، وسجيب عليه الأيام القادمة.