خبر غزّة: مش عايشين بالمرّة... ادعولنا نموت >>ضحى شمس

الساعة 10:37 ص|07 مارس 2012

في المطعم الذي يقدّم أطباقاً غزية شهية تنافس المائدة اللبنانية، ينبّهني دليلي، حين أسأله كم عليّ أن أترك بقشيشاً: «إيّاكي، عيب كتير هنا، بيزعلوا». أدهشتني المعلومة بقدر ما أدهش الناس سؤالي عن كيف يتعاملون بعملة العدو، الشيكل. بالنسبة إليهم، الأمر «طبيعي». الاحتلال ليس وجود جنود الاحتلال فقط على أرض غزة، بل هو ذاك الارتباط باقتصاد العدو. ارتباط المضطر، صحيح، ولكن... العادي. في حي الرمال، شارع خالد بن الوليد، المحال كثيرة.

ندخل محلاً لبيع الأحذية الشعبية، أو على الأقل هكذا ظننّا. فتاة، محجّبة بالطبع، تحاول مساومة البائع على السعر ولكن بحياء شديد. «بيصرش بأربعين شيكل؟»، تسأله. الدولار يساوي 3 شيكل و70 أغورا. الأغورا هي بمثابة القروش. بعد خروجها يقول محمد بكرون، مدير المحل والبائع فيه، إن «البيع خافف كتير، أكتر من 50 في المئة بسبب الوضع الاقتصادي للناس». مصدر مصنوعاته «الصين بشكل كبير». أما الأسعار، فتتراوح بين «40 شيكلاً و150 شيكلاً». ويوضح البائع أنه «يوجد محلات أرخص هي المحلات الشعبية زي (أحياء) الشجاعية وجباليا». هكذا نفهم أننا في المنطقة الراقية. المحل يُعتبر هنا راقياً تماماً كما الحي. ولكن أليس هناك من صناعة غزيّة للأحذية؟ سمعت كثيراً بموضوع سياسة «الاكتفاء الذاتي» لحركة «حماس». يجيب البائع «مفيش صناعة محلية هنا في غزة، بس بالضفه في، وفي الخليل تحديداً. إحنا منستورد البضايع عن طريق معبر كارني أو (معبر) كرم أبو سالم». وما هو المبلغ المالي الذي يحتاج إليه الإنسان شهرياً هنا للعيش بطريقة مقبولة؟ يجيب «إذا براسو، أي لوحده، حوالي ألف شيكل». لا وجود لحد أدنى للأجور هنا. ويضيف أن «متوسط العائلة 5 أطفال إضافة الى الوالدين. نعم هناك مدارس حكومية لكن التعليم فيها غير جيد. وفي مدارس خاصة. ولكن إن أرسلت اولادك إلى الخاص، طارت الميزانية، فرسوم المدرسة الحكومية تبلغ 60 شيكلاً تقريباً بالسنة، بس مصروف المدرسة الخاصة؟ أكتر من خمسة آلاف شيكل بالسنة».
في محل غير بعيد عنه، يقول عبد الوهاب عزّت، صاحب محل للألبسة الرجالية إن «البطالة في غزة تؤثر علينا كثيراً. يعني البيع نازل يمكن 70 في المئة عما كان عليه الوضع بين 1997 و2000». ويشير إلى أنه «يا دوب بسلّك حالي، لولا أن المحل ملك ــ الملك لله ــ كان علي أن أدفع بين 40 و50 ألف دولار إيجار هذا المكان الواسع . يعني كنت بسكّر». أتذكر ما قيل لي عن جنون أسعار العقارات هنا. كيف يمكن لقطاع محاصَر ويخلو من أي عامل جذب للاستثمار، أن تكون فيه أسعار العقارات والأراضي مرتفعة إلى هذا الحد؟ لم أفهم. أسأل سامر، ابنه الذي يساعده في المحل، عن مستوى التعليم لكونه لا يزال طالباً ثانوياً، فيعارض كلام والده: «مش مزبوط ان التعليم ضعيف. هون أقوى من برّا؟»، على حد تعبير سامر. ماذا يقصد ببرّا؟ يقول «على هوا ما بشوف أولاد عمي في السعودية، عنّا المنهاج الفلسطيني أقوى من المنهاج المصري».
الهموم المعيشية للحي الراقي، «راقية» بدورها. «أسعار الذهب نار»، تقولها ولاء دغمش (30 عاماً) وهي تصطحب فتاة صغيرة، في تفتيشها عن شيء ما متنقلة من محل إلى آخر، حين سألناها عن غلاء المعيشة. وتضيف «أنا محاسبة وبحسبها صح. يعني أختي عروس، قطعة بسيطة جداً، ولا إشي، إسوارة يعني، أقصد شبكة عروس، أخذوا منها ألفي دينار أردني». لحظة، لقد ضعتُ. ألفا دينار أردني؟ وهل يتعاملون هنا بالدينار الأردني؟ تجيب «بس بالذهب والدراسة». لماذا؟ تهز بكتفيها: «والله ما بعرف. يمكن لنّو بيشتروا الذهب من الأردن». وماذا عن الدراسة؟ تجيب «بقصد الجامعة الإسلامية بغزة».

ومن الرمال إلى أحد أفقر الأماكن في غزة: مخيم الشاطئ. لكن، لمَ هناك مخيمات على أرض فلسطين؟ أليست المخيمات فقط للاجئين؟ هناك عدة مخيمات هنا. كأنّ فلسطين أصبحت أرخبيلاً من المخيمات المتناثرة في العالم، بما فيها على أرضها؟ كيف يكون ذلك؟ يشرح الدليل أن هذه المخيمات هي في الأصل مخيمات «مهجرين هُجّروا من أراضي 1948. ولدى وصولهم، نُصبت لهم الأونروا (ما غيرها) خيماً، فتجمّع أهل كل قرية مع بعضهم، يعني هنا كان أقرب مكان إليهم جغرافياً بعد نزوحهم من قراهم. واستمر المؤقت كالعادة، فأصبحت أحياء ومدناً لكن بقي الاسم». ثم يضيف «يعني في ناس بعيدين نص ساعة عن قراهم الأصلية، بس طبعا بيقدروش يروحوا».

يقطن رئيس الحكومة المقالة إسماعيل هنية في المخيم. بيته هنا، والمسجد الذي يخطب فيه، الأبض، ملاصق تقريباً لمنزله. نمرّ من أمام الباب حيث ينتشر عناصر الأمن خلف حاجز متحرك. المنزل على الشاطئ تماماً. أليس هذا خطراً أمنياً؟ يجيب السائق «ما تخافيش عندهم كلهم أنفاق». يقصد للخروج متستّرين عند الحاجة.
هنا البطالة والفقر والاكتظاظ السكاني على أشدّه. نتقصّد الوصول ساعة نهاية السوق، بعد صلاة الظهر، فالأفقر يقصدونه في هذا التوقيت للاستفادة من انخفاض الأسعار لرغبة الباعة بالتخلص مما تبقى من بضاعتهم. كانت العاصفة لا تزال مسيطرة، والبرد على أشدّه. ورغم ذلك، كنتَ ترى الأقدام الرجالية لا تنتعل إلا شحاطات بلاستيكية مفتوحة، في حين أزرقّت الأصابع من البلل بمياه الأمطار المثلجة التي كانت لا تزال تتساقط. مراهقو السوق من الباعة والأولاد الصغار، لبسوا بأقدامهم أكياساً من النايلون الأسود، لا أحذية مقفلة. تخفّف أكياس النايلون على الأقل من البلل وبالتالي من البرد. يتجمعون كما يفعلون دائماً، حول أي غريب، فكيف إذا كان يرافقه من يحمل كاميرا فيديو؟ مجرد هذا التغيير في يومياتهم يُشعرهم بالبهجة. «يس آي سبيك عربي»، يقول أحدهم، فيضحك رفاقه. يقفون خلف كتفي تقريباً وأنا أدوّن ما يقوله لي الناس. السيدات انطلقنَ بالشكوى: «كل إشي غالي... هيّاني اشتريت بس بردقان (برتقال) أرخص حاجة». ماذا عن اللحمة؟ تجيب محدّثتك «كلو نار... الطازه مش متل المتلَّج. اللحمة غالية والله ما بعرف قديش صارت لأني بشتري متلّج... حتّى السمك متلَّج. البحر ممنوع». يتطوّع أحدهم لتنويري، ويشرح أن سعر كيلو العجل بـ40 شيكلاً والخرفان بخمسين». نسأل السيدة من أي بلد في أراضي 48 هي؟ فتجيب بأنها من قرية حمامة «بس أنا مولودة هنا بالشاطئ، ما بعرفش حمامة لأنها اليوم بإسرائيل». أما ناديا، فتقول إنها حتى اليوم، لم تستطع أن تشتري البازيلاء الطازجة مع انها من زراعة غزة. «مناكلها مثلجة، فالدخل خفيف، وأخوي قاعد ما بيشتغلش من زمن طويل، من يوم ما سكّرت إسرائيل يلي كان يشتغل فيها. عنده 8 أنفار وأنا التاسعة. كان يعمل خياطاً في مصنع البوليغات (للنسيج)». ولمَ لا يعمل هنا؟ تقول «مالوش شغل هان».
وسط مياه الأمطار المختلطة بنفايات السوق وبقايا السمك، يقف بائع هو في الوقت نفسه صيّاد سمك بشحاطته أمام أربعة صناديق بلاستيكية فيها أنواع متفرّقة من الأسماك. نسأله عن مصدرها فيقول ضاحكاً «بحر قزوين». نحن أمام بائع « كلمنجي» إذاً. يضيف ضاحكاً «من مصر عشان عنّا المياه الاقليمية محتلتها إسرائيل. وعشان كده الصيادين صاروا أموات وهم أحياء». وبكم يبيع؟ يقول «كيلو المليفة بـ15 شيكلاً...». يقاطعه زبون فينصرف وهو يكوِّر كفه طالباً أن ننتظر، فقد جاءت الرزقة. بلحظات يبيع تقريباً كل محصوله. «وجهك حلو علي... اسألي اسألي قبل ما أروح. بقدرش أبقى لأني لازم أروّح السقاطة». ماذا يعني بالسقاطة؟ تهتف جوقة الأولاد حولي: السجن. نعم؟؟ يشرح الرجل أنه مسجون، لكنهم «بيتركوني أطلع يوم في الأسبوع لطلّع رزق ولادي وبعاود اليوم (الجمعة) بالليل للسجن». وهل هذا قانون؟ شيء ممتاز. فكرة. أضمر السؤال لوزارة الداخلية. وبأي سجن هو؟ «كنت بأنصار، بعدين أصداء. بقالي 39 شهراً بالسقاطة». وما ذنبه؟ يغمغم. هناك من يقول حولنا إنه «فتحاوي». أقول له: لكن هناك مصالحة. يهتف أحد الواقفين وكأننا في ندوة «على الورق». يقول الصياد، الذي ذكر اسمه ثم تراجع، حين نسأله عن الأحوال «ما دام في ساعة كهربا بالنهار ماشي، يعني الناس كلهم أحسن منّا. الصومال أحسن منا. هيانا كلنا في سجن. وين العرب؟ مدراء شركات إسرائيلية... تفووو».
أما هيثم أحمد، الذي كان يتأبّط ذراع زوجته المصرية، فيردّ حين أسأله عن المعيشة بـ«الفقير الّي بياخذ آخر النهار 20 شيكلاً باليوم كيف بيعيش؟ أنا خياط بالأصل بس حالياً سائق صهريج لتوزيع مياه الشرب من محطات التحلية. مفيش شغل. شوفي الأسعار: القرع بـ10 شيكلات، الكوسا والخيار الأربعة كيلو بعشرة شيكلات، البندورة 3 كيلو كمان بعشرة شيكلات. إنسي اللحمة».
بالقرب من اللحام، زبائن تحلّقوا حول ما تبقى من ذبائح. حمار يجرّ عربة، والعمال يشطفون أمام محالهم، فيما تحلّق أولاد حول نار أشعلوها ببقايا السوق اليابسة ووقفوا يتدفأون. الكل ينظر إلينا حتى ولو لم يكن ينظر مباشرة. ولد يمسك ببرتقالات يرميها في الهواء كما البهلوان في السيرك. يفعل ذلك أمام كاميرا زميلي.

رجل عجوز يحدّق بنا ونحن نسأل اللحام عن البيع. أمشي باتجاهه وأتحرش سائلة. يقول «شو بشتغل؟ قاعد. بقيت بجيش التحرير الفلسطيني. كنت عندكم في (مخيم) عين الحلوة، بعدين رحت لتونس، ورجعت لهون. مفيش شغل، بطالة وبس». ثم يردف: «والله العظيم مش عايشين بالمرة». لا يريد أن يذكر اسمه. أحد الأولاد الملتصقين بنا تقريباً منذ دخول السوق، يضيف «حياة قرف... بس ادعولنا نموت».
كمن تلقّى لكمة في قلبه، التفتُ صوب الفتى مفاجأة. «ليش عم تقول هيك يا إبني؟» أسأله. يجيب عبد الرحمن أبو خضير (12 عاماً) بجدية تقارب حزناً ليس من عمره: «حياة قرف». وهل يذهب إلى المدرسة؟ يعود إلى المزاح وهو يحرّك بقدميه العاريتين بقايا النفايات على الارض قائلاً «يس». يضحك الفتية من حولنا. ثم يقول «نحنا كتار بالبيت. 15 نفر، وماتت بنت كمان. كانت زغيرة بس. شي يومين. أبوي بيشتغل بالسوق، بس من قلة الشغل بينزلنا ع البسطة. حتى مش راضيين يخلّونا نبسّط. بيضربونا مخالفة 100 شيكل». مَن؟ يجيب «التنفيذية». اسم الشرطة البلدية على ما أظن.
يتضخم التجمُّع حولنا. نتحرك الآن كمسيرة صغيرة. يقول اللحام إنه لا يبيع لحم الخرفان لأن «ما حدّش بيرغبو». يقصد مادياً لأنه غالي الثمن. عجوز على بسطة يخاطبني بلغة لا أفهمها. يضحك الدليل ويقول لي: إنه يتحدث اليك بالعبرية! وماذا يقول؟ يجيب «شوية شوية». ولم يتحدث إليّ بالعبرية. أسأل العجوز بالعربية، فيقول «كلّو من العرب. لولا ما هشّلوا اليهود كانوا بقيوا ببلادن وما إجوش أخذوا بلادنا». أقول له إن الذنب ذنب الأوروبيين الذين أحرقوا اليهود في بلادهم وليس العرب الذين عاشوا مع يهودهم بإلفة حتى وصول إسرائيل. فيعلق رجل واقف: «هادا أهبل ما تردّيش عليه». أسأل عن بذار عشبة الجرادة الغزية، فيتطوّع أحد الفتيان الأشقياء حولي لأخذي إلى «مطحنة بخيت». عندما نصل، أمدّ يدي إليه بقطَع معدنية من النقود، فيقفز تقريباً إلى الخلف قائلاً «لأ مش عشان هيك». أُفاجأ بدوري، لكنّي أشدّد عليه لتناولها قائلة إن هذه أجرته لأنه تكبّد عناء مرافقتي إلى هنا. ينظر لحظة كمن يفكر، ثم يمدّ يده ويتناولها باسماً.
«الّي بيمدّوا إيدون (للتسوُّل) أكثر من الّي بيمدّوها ليدفعوا». هكذا يلخّص صاحب مطحنة الحبوب الوضع الاقتصادي هنا، ويتابع أن «وضع الناس أسوأ من السيئ». لكن فوزي بخيت يطلعنا على معلومة مفيدة تتعلق بالأنفاق. يشير إلى أنّ «المشاكل التجارية كثيرة بسببها. يعني أولاً أغلب السلع بتجي مضروبة، والأسعار متذبذبة، وأغلب الأوقات مننضرب بالنوعية وبالأسعار، ثم تأتي قضية الكهرباء لتزيد التوالف. منحاول نشغّل مولّدات بس مفيش بترول. وبعدين؟ ح نسكّر. الأجهزة خربت من ضعف الكهرباء. كله ع البركة. اليوم هنا كيس الزهورات (250 غراماً) بسعر 20 شيكلاً، ممكن تاني يوم تتغرق الأسواق بالزهورات (لتدفُّق التهريب) فتصبح بشيكل واحد. إيش أقلك؟ خسارة بخسارة». يطلق عبارته الأخيرة بمرارة وابتسامة، كما يفعل الجميع هنا. ثم يهتف بالأولاد الأشقياء الذين لحقوا بنا. «شو بتعمل يا ولد؟ إطلع لبرا». يمشي بجانبنا عبد الرحمن، الفتى الذي طلب إلينا منذ هنيهة أن ندعو له بأن يموت. يسألنا عن عملنا ثم يأخذه مرح عمره وشقاوته، فيأخذ بالقفز يمنة ويسرة كما يفعل الملاكمون. ثم يسألني خالطاً الجد بالمزاح «هلق كيف الواحد بيطلع لاعب كرة قدم؟ ما بيخلّوا يطلع إلا لعيبة كرة القدم... بدّي أطلع من هون».
هل من المهم بعد، أن أسأل عن كيف يتعاملون بالشيكل، عملة العدو؟ أظن أنني حصلت على الإجابة.